ما بقي من أفكار فانون عن الاستعمار وما تجاوزه الزمن

حلّل علاقة الغرب المعاصر بالآخر

كتاب فانون "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء"

ما بقي من أفكار فانون عن الاستعمار وما تجاوزه الزمن

كتب إيمي سيزير في النص التكريمي الذي نُشر بعد وفاة فرانز فانون (1961) معتبرا أن الكتاب الأساس عن الاستعمار وعواقبه الإنسانية وآثار العنصرية، هو كتاب فانون "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء". "أما بالنسبة إلى التحرر من الاستعمار، وجوانبه وإشكالاته، فالكتاب الأساس، بالنسبة إلى سيزير هو أيضا كتاب فانون: "معذبو الأرض". فهل تنحصر قيمة فرانز فانون في الفترة الاستعمارية وما أعقبها مباشرة، أم لا يزال ممكنا اعتماده لتحليل علاقتنا بالغرب؟

كتب فانون في "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء": "إذا نازعني الأبيض في إنسانيتي، فسأثبت له أنني لست الزنجي الساذج الذي يتخيله دائما، وذلك بأن أفرض على حياته ثقل وجودي كإنسان. أكتشف نفسي يوما ما في هذا العالم، وأعترف لنفسي بحق واحد فقط: حق مطالبة الآخر بسلوك إنساني. وأنا علي واجب واحد: ألا أنكر حريتي من خلال خياراتي... لا يجب أن تكرس حياتي لجرد قيم الزنوج، لا يوجد عالَمٌ أبيض، كما لا توجد أخلاق بيضاء، ولا حتى ذكاء أبيض، هناك فقط، على جانبي هذا العالم، بشرٌ يبحثون عن ذواتهم".

الغرب الأدهى

يظهر أن هذه العبارات جميعها لا تزال تنبض حياة، وأنها تصف واقع الحال، وأن ما كتبه فانون يتجاوز الفترة الاستعمارية، وأنه تحليل لعلاقة الغرب المعاصر بالآخر، سواء أكان هذا الآخر هو الشعوب التي عرفت الاستعمار، أو كان يتمثل في المهاجرين اليوم. إلا أن هناك من يرون أنه لا يكفينا لتحليل العولمة وحروب الهويات وأوضاع المهاجرين، وما يمزق العالم المعاصر، لا يكفينا أن نطبق ما كنا نقوله عن الغرب مستعمِرا، وأن الغرب ربما صار أكثر "دهاء"، حتى إن اتخذ دهاؤه صورة أكثر نعومة، هذا إن لم نقل إنه أصبح يتنكر حتى لمبادئه، ويفقد صوابه.

 لا يوجد عالم أبيض، كما لا توجد أخلاق بيضاء، ولا حتى ذكاء أبيض، هناك فقط، على جانبي هذا العالم، بشر يبحثون عن ذواتهم

فرانز فانون

وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن في إمكاننا أن نكيف بعض مقولات صاحب "معذبو الأرض" مع العلاقة الغربية المعاصرة بالآخر. فعندما يرى فانون أن الاستعمار لا يقتصر على الاحتلال العسكري، بل يشمل "تدمير هوية المستعمَر" من خلال فرض المستعمِر لغته وقيمه، فإن ذلك قد يصح أيضا على علاقتنا الحالية بالغرب الذي أصبح يفرض هيمنته بكيفية "ناعمة" من طريق ترويجه لنموذجه في الحياة، وإسقاط مساره التاريخي على مسارات مناطق أخرى. فضلا عن ذلك، فإن بعض الاختصاصيين يرون أن تحليل فانون للاستعمار كـ"نظام اقتصادي" لا يبعد كثيرا عما يمكن أن نقوله اليوم عن سياسات صندوق النقد الدولي الذي يفرض شروطا تقيد سيادة الدول "الفقيرة"، وعما تقوم به الشركات المتعددة الجنسيات من استغلال لموارد أفريقيا وأميركا اللاتينية. ثم إن ما كتبه فانون عن "البشرة السوداء" في العالم الأبيض، وكيف يُنظر إليها كـ"تهديد" أو بـ"دونية"، قد يجد مثيلا له في ما يقال اليوم عن "المهاجر" الذي لا يتمكن من "الاندماج" في الوسط الأوروبي، ذلك الاندماج الذي يُفهم عند بعض قادة الأحزاب اليمينية كانصهار وانسلاخ عن الهوية، وتخل عن اللغة الأم، بل حتى عن الاسم الشخصي.

GettyImages
متظاهرون مناهضون للاستعمار والفكر اليميني المتطرف والعنصرية ومعاداة السامية يسيرون في باريس

تغيير مسميات

كأن ما حصل هو تغيير الأسماء دون تغيير مسمياتها. فبينما كان "الآخر" في عصر فانون هو المستعمَر الذي يُخشى تمرده، فإن "الآخر" اليوم يتخذ أسماء أخرى ويُنظر إليه كـ"إرهابي" أو "همجي" أو خطر يهدد مكانة الغرب الاقتصادية. لكن، رغم تغير الأسماء، ألا تظل العلاقة هي هي، أليست دائما علاقة سيد بمسود؟ بل إن البعض يذهب أبعد من ذلك فيسقط ما كان يقوله فانون عن علاقة النخب المحلية بالمستعمِر، بما لعبته من دور في "تكريس التبعية للغرب" حتى بعد الاستقلال السياسي، يُسقطها على بعض المثقفين اليوم الذين يبررون تبني النموذج الغربي كـ"طريق وحيدة للتقدم"، وتجاوز "التأخر التاريخي".

 ما كتبه فانون عن "البشرة السوداء" في العالم الأبيض، وكيف يُنظر إليها كـ"تهديد" قد يجد مثيلا له في ما يقال اليوم عن "المهاجر" الذي لا يتمكن من "الاندماج" في الوسط الأوروبي      

على الرغم من أوجه الشبه هذه جميعها، لا يمكننا إلا أن نقر بأن السياق يظل مختلفا. ففانون أساسا محلل للاستعمار المباشر، بينما تتخذ الهيمنة اليوم طريقا ملتوية، وتتم عبر الاقتصاد والتكنولوجيا والإعلام. ثم إن آخرية الآخر لم تعد بالوضوح ذاته. فالمهاجر المسلم في أوروبا قد يكون مواطنا ولد في أحد بلدانها، بل إنه قد يكون أحد أبنائها الذي لا يخالفها في لون البشرة ولا في العقيدة ولا حتى في النطق باللغة. لقد كان مفهوم الغرب عند فانون مرتبطا بسياقه التاريخي، مما يجعل تحليله محدودا وبعيدا شيئا ما عن تعقيدات العلاقات الدولية وطبيعة الهويات اليوم. فربما لم يعد من الممكن الحديث عن الغرب ككتلة موحدة. هذا فضلا عن ظهور حركات وأصوات مناهضة للرأسمالية والاستعمار بجميع أشكاله، وذلك داخل الغرب نفسه، فالغرب نفسه يسكنه آخره.

Reuters
مصلّون من الطائفة الأحمدية يغادرون مسجد بيت الفتوح في جنوب لندن بعد صلاة الجمعة

نقد الخطيبي

في هذا السياق لا بد من أن نشير هنا إلى النقد الجذري الذي كان المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي وجهه إلى فانون في مقال نشر في مجلة "الأزمنة الحديثة" التي كان جان بول سارتر رئيس تحريرها (أكتوبر/ تشرين الأول، 1977). كتب الخطيبي: "كان فرانز فانون، قبيل وفاته، وجه هذا النداء: "أيها الرفاق، ولى عهد اللعبة الأوروبية، فلنبحث عن بديل". يتساءل الخطيبي: "هل ينبغي لنا أن نتخلى عن أوروبا ونبتعد عنها إلى الأبد؟ أليس هذا مجرد وهم، ما دامت أوروبا تسكن وجودنا في صميمه؟... إذا كان الغرب حالا فينا، لا كمجرد شيء خارج عنا مطلق الخروج، وكاختلاف ينبغي أن نقيسه باختلاف آخر، يلزم هو كذلك، أن ندركه في علاقته ومدى بعده عن الأطراف الأخرى للوجود، إذا لم يعد الغرب مجرد ذلك الوهم المتولد عن فزعنا، فيتبقى علينا أن نعيد النظر في كل شيء مهما كلفنا ذلك. لنطلق على هذا الانفصال الزائف الذي يرمي بالآخر في خارج مطلق، 'اختلافا متوحشا'. إن هذا الاختلاف لابد وأن يضيع في متاهات الهويات الحمقاء. وهذا شأن النزعات الثقافية والتاريخية والقومية والشوفينية والعنصرية. هذا القول بالاختلاف المتوحش (المتوحش والساذج) كان شعار الحملة المسعورة التي سادت فترة مقاومة الاستعمار".

 منظور فانون لا يتعدى الجدلية الهيغلية بين "العبد والسيد"، أما منظور الخطيبي فيندرج ضمن "فكر الاختلاف"                                                                           

نلمس هنا اختلافا فلسفيا جذريا في فهم العلاقة بين الذات والآخر. فمنظور فانون لا يتعدى الجدلية الهيغلية بين "العبد والسيد"، أما منظور الخطيبي فيندرج ضمن "فكر الاختلاف". نعلم أن أصحاب هذا الفكر عابوا على التناقض الجدلي كونه لا يذهب بالاختلاف إلى أبعد مدى، إذ سرعان ما يرده نحو التطابق. فليس التناقض عند الجدليين اختلافا أكبر في نظرهم إلا نسبة إلى التطابق وبدلالته. وهم يعتبرون أن الذات مشروخة منخورة، وهي في تباعد ملازم عن نفسها، لذا فهم لا يحتاجون إلى تعارض "خارجي" ما داموا ينظرون إلى الآخر على أنه بُعدُ الذات عن نفسها. فليس السلب عندهم هو ذاك الذي يَفِد من خارج الذات ليتعارض معها، وإنما ما ينخرها من الداخل. السلب هو حركة تباعد الذات عن نفسها، والأنا هو دائما آخر، كما قال الشاعر رامبو.

تعقيدات الصراع

فبينما يرى الخطيبي "أن أوروبا حالة فينا"، فإن فانون يفكر ضمن ثنائية نحن/هم. صحيح أنه يرى، هو كذلك، أن أوروبا "متورطة في تكوين الذات المستَعمرَة"، سواء من خلال اللغة، أو من خلال المعرفة والقيم الرائجين، إلا أنه ينظر إليها كـ"آخر خارجي". كأن الخطيبي يأخذ عليه كونه يعيد إنتاج المنطق الاستعماري، فيقصي "أوروبا كليا"، ويميل إلى تبسيط الصراع، واختزاله في ثنائية المضطهَد/ المضطهِد، مغفلا التعقيدات الثقافية والاقتصادية التي يعرفها العالم اليوم، تلك التعقيدات التي غيرت أساليب الصراع وآليات الهيمنة التي لم يعد من الممكن مقاومتها بإغفالها والتغاضي عنها، والاكتفاء بالنداء بـ"أن نترك أوروبا التي لا تتوقف عن الحديث عن الانسان، بينما هي تقتله"، كما يقول كتاب "معذبو الأرض".

AFP
مهاجرون ينتظرون النزول من سفينة الإنقاذ البحري الإسبانية "غواردامار كاليوب" في ميناء لا ريستينغا بجزيرة إل هييرو

قد يقال إن منطق فانون كان الأنسب والضروري في ظروف المقاومة المسلحة، لكن مرحلة ما بعد الاستعمار، كما يرى الخطيبي، ربما تحتاج إلى منهج مغاير يفكك التشابكات المعقدة بين الذات والآخر، فيخضعهما لـ"نقد مزدوج". فربما كان هذا النقد اليوم هو الكفيل بأن يقوض أسس السيادة ويعيد النظر في أصوله وأسسه. فبما نحن عالم ثالث، كما يقول، "ليس علينا أن نسلك إلا مسلكا ثالثا ليس هو مسلك العقل ولا مسلك اللاعقل كما فكر فيهما الغرب، وإنما خلخلة مزدوجة تقول بفكر متعدد لا يختزل الآخرين (أفرادا وجماعات)، ولا يضمهم إلى دائرة اكتفائه الذاتي. إذ إن على الفكر أن يتجنب هذا الاختزال، إذا هو أراد ألا ينظر إلى مجاله الخاص على أنه الكون في مجموعه، ذلك الكون الذي ينخره التباعد، وتتوزعه الهوامش والأسئلة الصامتة. إذ ليس علينا أن نظل على هامش المنظومة المعرفية الغربية، فنحن لن نوجد داخلها إن نحن ظللنا تابعين لها، ولا خارجها إن لم نعمل فكرنا في الخارج الذي يؤسسها، ونفكك العلاقة التي تربطنا بها". ربما من أجل ذلك كان الخطيبي كتب: "اعتقدت دوما أن ما يحمل اسم التفكيك déconstruction هو شكل جذري من أشكال التحرر من الاستعمار décolonisation".

font change