بيروت تلجأ الى الموسيقى الأثيرية لمواجهة قلقها الوجودي

فنانون وفرق موسيقية تصنع مشهدا بديلا للنغم في لبنان

تصوير إبراهيم توتونجي خاص المجلة
تصوير إبراهيم توتونجي خاص المجلة
تقوم فرقة عشيرة بتقنين استخدام الكلمات لصالح الصوت والحركة المستلهمتين من طقوس قديمة

بيروت تلجأ الى الموسيقى الأثيرية لمواجهة قلقها الوجودي

ابتداء من شهر يونيو/ حزيران الماضي، تشهد سماء لبنان تقاطعا غريبا، وإن ليس بالجديد، بين الحرب والفن. تداولت منصات التواصل الاجتماعي لقطات مصورة للبنانيين لم تمنعهم الحرب الإيرانية - الإسرائيلية عن المضي قدما في أجوائهم الترفيهية، من غناء ورقص.

لو قدر لمؤلف موسيقي أن يستلهم مقطوعة، من التشكيل البصري، الناري والدخاني، الذي احتل عمق السماء اللبنانية، على مدى أيام، وتمكن الناس من معاينته بالعين المجردة، لتوصل ربما إلى تدوين نوتات نادرة، عنوانها "رقصة النار"، تتلوى الإيقاعات لولبية على سلالمها، كحركة الصواريخ الباليستية، هابطة تارة في اتجاه حيفا أو تل أبيب، أو وافدة تارة أخرى الى الغرب الإيراني. ستكون مثل مقطوعة منظومة على "مقام حربي" يمد خطوطا أفقية حتى الحدود الجوية، يصعد إلى عمق الفضاء، ثم يهبط عند المستويات الجنوبية حيث يتلاقى بخطوط أخرى، أو ينفجر قبل ذلك مخلفا شررا يمس النفوس. بينما اللامبالون (أو لنقل متبعو نهج الواقعية السوداء) مستمرون في رقصة، يحب الشعب اللبناني، الذي أنهكته الحروب، أن يطلق عليها اسم "انبعاث الفينيق"، في إحالة مستمرة على تاريخ حضارته القديمة، المجيدة والمندثرة.

يندرج "الرقص تحت الصواريخ" ضمن أقصى الصور الوجودية العدمية التي أظهرتها بعض أفلام سينما هوليوود، بدءا من نهاية الحرب العالمية الثانية، مرورا بحقبة الحرب الباردة، وصولا الى الاجتياحات الكبرى وحروب نهاية الألفية الماضية، وهي لطالما ألهمت مخرجي الافلام، خارج أميركا أيضا، وكذلك منتجي المحتوى على منصات التواصل خلال الربع قرن الماضي.

تلك العدمية، التي ترفد التصرفات العبثية، هي جزء من التاريخ المديد للبنان المحاصر بسردية الحروب والافتقار الى الأمن، ورغبة البقاء بالرغم من كل شيء.

الحفر في نظرية قديمة جديدة

في مواجهة هذا الشعور القاتم، القادر على شل أي صيروة إبداعية، ورمي أي صانع فنون في غياهب الإحباط، يبدو أن مجموعة منوعة من المشتغلين في الموسيقى المعاصرة، التقتها "المجلة" على امتداد الأطياف اللبنانية، آثرت التحرك على مستوى فني وجودي مغاير تماما للسائد.

قرر هؤلاء، أفرادا ومجموعات، أن ينتقلوا الى ما بعد محاولة تقصي الفهم الواعي والتحليل والترقب، التي لم تؤدّ خلال عقود مضت سوى إلى هدر طاقة أصحابها، في بلد لا تتغير فيه الأشياء بسهولة. وجدوا ضالتهم، للإجابة عن الأسئلة التي تؤرقهم، داخل أنماط موسيقية يمكن وصفها بالبدائية، تتضمن تجارب صوتية وأداءات استلابية، وتخاطب غرائز أولية، متمحورة حول طلب الشعور بالأمان في مواجهة التهديد الشائع بـ"القنص" و"التلاشي".

تلك العدمية، التي ترفد التصرفات العبثية، هي جزء من التاريخ المديد للبنان المحاصر بسردية الحروب والافتقار الى الأمن، ورغبة البقاء بالرغم من كل شيء

يذكرنا هذا الاتجاه بحركات موسيقية، ظهرت في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، عمدت إلى تقنين استخدام الكلمة في الانتاج الموسيقي، مقابل زيادة الفعل الصوتي، وأيضا الحركي، كطريقة للإحتجاج على منظومة سياسية وثقافية دعائية، استهلكت اللغة في خطابات غائية مدججة. بينما جسدت الحركة انتماء الرغبة بالبناء والتغيير. ميريديث مونك (1942-)، على سبيل المثل، الأميركية التي يكرمها "بينالي البندقية الموسيقي" في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل بجائزة إنجاز العمر، كانت واحدة من رائدات هذا الاتجاه بدءا من ستينات القرن الماضي في مدينة نيويورك، ولا يزال نهجها تجاه "الغناء" ملهما لأجيال تهوى الطبيعة التجريبية في الفن. فنادرا ما احتوت موسيقاها الصوتية على نص يمكن التعرف إليه، في ظل رحلتها الجادة في البحث عن التوفيق بين معنيين يبدوان للوهلة الأولى متناقضين: صوت بدائي يعبر عن المستقبل. ولتحقيق غايتها تلك، ما فتئت مونك، المغنية والأدائية والمخرجة، تستخدم تقنيات صوتية موسعة من النوتات المغناة تقليديا (على نطاق أربعة أوكتاف) لتدمجها بمجموعة واسعة من أصوات الأداء (التي يصعب قياسها) والتي تذكرنا بالأنين تارة واليقظة تارة أخرى، وأيضا الضحك والضوضاء، وأصوات الحيوانات.

تصوير ابراهيم توتونجي خاص المجلة
تعتقد فاتن الخشن أن موسيقاها قادرة على تجسيد رسائل من الأسلاف لها دور انقاذي في حاضر لبنان

يحدث أمر مشابه اليوم، في المشهد البيروتي، الذي يرغب بعض منتجي موسيقاه مغادرة حاسمة لصورة "المدينة الراقصة في كل الظروف"، بالمعنى النمطي "السياحي" الذي صدّره لبنان قبل حروبه ولا تزال آثاره مهيمنة على الخيال الجماعي، في مقابل ارتحال إبداعي حر نحو جذر بشري بدائي، أرضي أو، ما تحت- أرضي، أو ما خلفه. يرغبون بالتموضع في نواة ونوايا جوانية، أصيلة وبرية، لا تخلو من مشاعر مخلطة بين القوة والحزن. يكمن في ذلك أيضا اعتراض صريح على "رمسنة" المأساة اللبنانية، أي تناولها الرائج بطريقة رومانسية، تدمج بين الحس الريفي والحداثي "الزائف" الذي تجسده سلالة أغاني "راجع يتعمر...".

تشكل تلك "الموسيقى البدائية" واحدا من ثلاثة أطياف في وسعنا اليوم تسجيلها في المشهد الموسيقي اللبناني البديل. الى جانبها، طغى نمط ثان، أكثر ألفة وارتباطا بجغرافيا وتاريخ المنطقة، هو "الموسيقى الأثيرية"، وأحد فروعها "الموسيقى الصوفية المعاصرة"، وهي تسعى إلى "تطهير النفوس من ركام القسوة واللاجدوى الناتجين من تحالف، لا فكاك منه، بين آلة الحروب والانهيار الاقتصادي وفساد السلطة". أما الطيف الثالث، فتتبدى جذوره الآسيوية بوضوح، ويندرج تحت اطار الجو "الشاماني"، طارحا إعادة الاتصال بالطبيعة، كملاذ آمن للاختباء والشفاء.

هكذا يحاول مؤدون وموسيقيون، أمثال فاتن الخشن و"فيرسيلاس" من فرقة "عشيرة"، أو طارق بشاشة في فرقة " تجلي"، أو دانييل بلابان وزائره الهندي شاتي سوكلا، أن يشيعوا، كل في سياقه المكاني والابداعي، روحا معززة للسلام والوفرة والفرح في مدينة، متعبة (بفتح العين وكسرها). يرغبون برفع "الذبذبات الطاقية" لبيروت، مستعيدين تقاليد روحية وروحانية، بددها ضباب المعارك وغبار التلوث، ومتحفزين لاستقطاب جمهور يبحث، بعد أن استنفد وسائل متعددة للفهم والتأقلم، عن "خرائط الوقت" داخل "الوعي الروحي" و"الحكمة الجماعية".

 الصورة من المصدر
تعتقد ميشيل بوليكيفتش أن المشهد الموسيقي في لبنان لا يزال يواجه تحدي الافتقار الى جرأة الساحات غير المسورة

وكأن الفنانين الخمسة، عبر مشاريعهم الموسيقية التي نالت صدى مؤثرا في الآونة الأخيرة، وبرزت خلال الموسم الصيفي الراهن، يسعون لصوغ "نص اجتماعي جديد": "نسعى الى مصاحبة الناس في رحلة من الوجد... نعيد بأنغام آلاتنا تطريز مشهد المدينة، فتصير سجادة، نرقص فوقها"، يقول طارق بشاشة، الفنان المسرحي وأحد مؤسسي فرقة "تجلي"، التي مضى عليها أكثر من عشرين سنة، لم تنقطع خلالها عن محاولة إحياء أفكار ومشاعر شعراء صوفيين مثل الحلاج وابن الفارض ورابعة العدوية، أو تجارب مدرسة مشايخ حلب الموسيقيين من القرن التاسع عشر.. كل ذلك على وقع نغمات إيقاعية تبثها آلة الكلارينيت أو الغيتار.

يحدث أمر مشابه اليوم، في المشهد البيروتي، الذي يرغب بعض منتجي موسيقاه مغادرة صورة "المدينة الراقصة في كل الظروف"، في مقابل ارتحال إبداعي حر نحو جذر بشري بدائي

بينما يرغب أعضاء فرقة أخرى تسمى "عشيرة" في بث ذبذبات شفائية الى آذان جمهور مستمعيهم، في أحياء الروضة والأشرفية، في شقي بيروت الغربي والشرقي، راكنين الى آلات استخدمتها، قبل مئات السنين، قبائل السكان الأصليين في أميركا الجنوبية وأوستراليا، مثل آلتي " دي جيريدو" و"عصا المطر".

في الوقت ذاته، تتدفق الأنغام من شمال الهند عبر آلة "خيال شاهناي" والطبلة المرافقة، معلنة تأملات هندوسية وجدت طريقها الى شارع الحمرا، الذي يمتد في منطقة تقع بين نهر بيروت المندثر، الذي يطارد أشباحه، وبين بحرها المتوسط، الذي يطارد الأشرار باعثي النيران في مرفئه.

الصورة من المصدر
تقود شارلوت آييه فريقا من الخبراء والمنظمين لإخراج حفلات عيد الموسيقى في لبنان للفضاءات العامة رغم التحديات

لكن تلك التجارب لم تجد بعد مكانا ينافس المشهد الجاهيري السائد من ثقافة "البوب" المنتعشة بشكل مدهش (مثل أسعار العقارات ورسوم دخول الشواطئ الخاصة الاحتكارية في الصيف) على الرغم من كل التحديات. وهي غالبا ما تتركز في استوديوهات أو على مسارح مغلقة أو مسورة، بسبب الافتقار الى الأمان، وحذر منظمي الحفلات من مفاجآت الطريق، وخاصة بدءا من الفترة التي تلت عام 2019، العام الذي جسد بداية الانهيار الجماعي الأقسى في تاريخ لبنان المعاصر، كما تصف، في حديثها إلى "المجلة"، ميشيل بوليكيفتش، الناشطة والمبرمجة الثقافية الفنية، التي عملت لسنوات طوال في تنظيم فعاليات موسيقية كبرى.

تقول: "مع زمن كوفيد19 وثورة تشرين، ثم مع الانهيار الاقتصادي وحادثة انفجار المرفأ، وصولا إلى العدوان الاسرائيلي الممتد منذ صيف 2024 وحروب المنطقة، ظهر واقع جديد في المشهد الموسيقي اللبناني البديل: الحفلات انتقلت الى ما وراء الأسوار ولملمت انتشارها من الساحات. وحل خوف كبير من المغامرة بتنظيم عروض مفتوحة في مساحات تشاركية عامة، كما كنا نفعل سابقا، على مدى ثلاثة عقود تلت الحرب الاهلية". بينما تشير شارلوت آييه، الملحقة الثقافية في "المركز الثقافي الفرنسي في لبنان"، في حديث آخر مع "المجلة"، الى أن المركز، الذي احتفى بـ150 موسيقيا لبنانيا في يونيو/حزيران الماضي، على امتداد البلاد، ضمن فعالية "عيد الموسيقى"، اضطر إلى إلغاء حضور مجموعتين، كان من المفترض، أن تفدا من فرنسا، لأن "إغلاق المجال الجوي وعدم اليقين بشأن تطورات الوضع الأمني، دفعانا لاتخاذ هذا القرار".

ارتحالات الى دنيا المعاني

في كوكب "تجلي" يخضع بشاشة، ورفاقه العازفون، جمهورهم الى نوبات متباينة من الإدراك الواعي وغير الواعي، يدفعهم للتأرجح بين الاستسلام والمبادرة، عبر برنامج موسيقي موجه، لا يخلو من الارتجال والتشاركية.

تتباين النغمات في البرنامج، بين عزف جماعي للآلات، له أثر أشبه ما يكون بـ"التنويم المغناطيسي"، إلى سحر كلمات "والله ما طلعت شمس" للحلاج (858-922)، مرورا بتجاور نادر بين مقام البياتي الشرقي وايقاع الترحال الغجري، ثم غناء من فائية ابن الفارض (1181-1235) "قلبي محدثني بأنك متلفي" التي يرد فيها البيتان الشهيران "يا مانعي طيب المنام ومانحي، ثوب السقام به ووجدي المتلف، عطفا على رمقي وما أبقيت لي، من جسمي المضنى وقلبي المدنف"، وصولا الى تجليات روحية أكثر معاصرة تدور أحداثها في مراكش أو نيقوسيا، ومن دون إغفال الختام الحلاجي، مرة جديدة، مع إحدى الصور الشعرية الأثيرة للعصر العباسي: "مزجت روحك في روحي كما، تمزج الخمرة بالماء الزلال، فإذا مسك شيء مسني، فإذا أنت أنا في كل حال".

نسعى الى مصاحبة الناس في رحلة من الوجد... نعيد بأنغام آلاتنا تطريز مشهد المدينة، فتصير سجادة، نرقص فوقها

طارق بشاشة

على أثر ذلك كله، ينتشي الجمهور، المبحر من ضفاف بيروت وصيدا وجبيل والبترون، الى ضفاف دجلة وبراري الهند وسهوب كازاخستان وحانات اشبيلية، في "ارتحال يجعلنا نغادر القسوة الى اتحاد مع ذواتنا. هذا أكثر ما نحتاج إليه اليوم في لبنان، أن نندمج كليا مع دواخلنا التي أهملناها فذوت بداخلها المحبة"، يقول بشاشة لـ"المجلة"، في حضور أبنائه الذين يدعمون شغفه الموسيقي، من دون أن يهمل الفرصة ليؤكد سمة "التمرد" التاريخية التي تميز، في رأيه، الشخصية اللبنانية في مواجة كل تنميط: "لسنا فرقة إنشاد صوفية تقليدية. آلاتنا الموسيقية الكهربائية والنفخية لا تضم نايا، على سبيل المثل. نولد حالة الوجد من النغم وتدرج الرحلة الصوتية وليس من نوع الآلة".

تصوير ابراهيم توتونجي خاص المجلة
يدعو طارق بشاشة الجمهور الى اختبار مشاعر جوانية عبر ارث الشعر الصوفي الموزع بآلات غير تقليدية ويعلم ابناءه أن الموسيقى وسيط انقاذ

تحاول "تجلي" فهم الرموز الروحانية، عبر مواجهتها وعدم التخلي عنها، وإن بهدم طقوسها القديمة وإعادة بنائها، مضفية الحس الإنساني الحي، وليس التبعية الصنمية الجامدة، على تجربتها.

على "كوكب" آخر، يحمل اسما مستمدا من ثلاثية الخلود والضوء وأثر الكلمة، تلتبس الأصوات بين السماوي والأرضي، اللاهوتي والعدمي، البشري والحيواني، الألم والنشوة، في أداء يحول جسد الفنان ذاته الى آلة موسيقية تبث موجات طاقية بمستويات ذبذبات مختلفة.

مثل كاهن ينتمي الى "عشيرة" سرية، يلتقط الشاب العشريني ابن مدينة جبيل (الذي يقول إنه اختار اسمه "فيرسيلاس" خلال "صحوة روحانية" حدثت له ذات صباح بعد استفاقة منعشة في حي الأشرفية شرق بيروت)... عصا محشوة ببذور النباتات الجافة والحصى الصغيرة، تصدر صوتا يشبه صوت هطول المطر حين يهزها، بينما ينجذب الجمهور الذي احتشد في مواجهته، على مسرح في حديقة "المكتبة الوطنية" في حي الروضة التاريخي غرب بيروت، إلى سحر حالته الأدائية الخاصة جدا.

"عصا المطر"، تلك، تبدو تفصيلا غير أساسي في العرض، إذ أن الآلة الأهم هي جسده، بلحمه ودمه، يحوله الفنان إلى مصدر أصوات، تذكر تارة بالغناء القبلي المتجذر بالأرض، ومنه الصراخ الحار من قلب الحنجرة، ما يرمز لمعنى القوة والحضور "ها هنا، نحن هنا، قادرون ومواجهون وفاعلون"... كما تذكر أصوات أخرى بالإنشاد النوراني وترتيلات المعابد الدينية، وصولا إلى أصوات تشبه الهمس والوشوشات التي يقول إنها تجسد "لعبة متأرجحة على مضمار الأنفاس"، يحاول اكتشاف شكلها وأثرها.

تصوير إبراهيم توتونجي خاص المجلة
يعتقد فيرسيلاس أن وحيا روحانيا دفعه لاستكشاف قدرته على تحويل جسده لآلة بث أصوات بدائية على ذبذبات مختلفة

"هي موسيقى طقوسية تجعلني أرتحل داخل نفسي، أولا، بوصفها أرضا كاملة وغير مكتشفة. أرض الوعي الذي يصبح وسيطا لتمرير رسائل أتلقفها بشكل متجذر، وأشد عليها، حتى وإن كنت محلقا الى أبعد من حدود التركيز".

حالة التحليق تلك يسميها الشاب، الذي بدأ تأليف الموسيقى منذ عمر 12 سنة، ويتخذ من المغنية النروجية أورورا وفرق الموسيقي الشعبية الإسكندينافية المعاصرة مصدر الهام له، بـ"السرحة". يقول: "تعلمت في بيروت، أن أتحرر من سطوة الخوف، وأسرح إلى آفاق الاكتشافات. أنا أنتمي إلى جيل وتجربة يطلق عليهما اليوم اسم "ستريمرز"، ليسوا مغنين ولا صانعي موسيقى بالمعنى التقليدي، هم مؤدون يبثون، على خشبة المسرح أو عبر المنصات، موسيقى خاصة بهم. لا يتورعون عن التحدث كثيرا إلى الجمهور، يرغبون في أن تتحول أجسادهم إلى هياكل تبث الطاقة، وتختبر أقصى إمكاناتها في إصدار أصوات متنوعة، "أفعل ذلك كله كتحد في مواجهة فقدان الأمل"، يضيف.

مغارة شتوكهاوزن

هل يعيش "ستريمر" بيبلوس (الاسم الفينيقي لمدينته جبيل) في حالة إنكار لواقع مرير؟ "ربما، لكن بيروت، كما الموسيقى، وكما الحب، كلها طاقات حررتني"، يجيب بابتسامة صافية، وعينين تهويان التحديق مباشرة صوب محادثه، كما يليق بشجاعة شاب يخلق سيرة طرية، وإن جريئة، مبنية على الاحتمالات، أكثر منها على ديمومة الأمان.

ظهر واقع جديد في المشهد الموسيقي اللبناني البديل: الحفلات انتقلت الى ما وراء الأسوار ولملمت انتشارها من الساحات. وحل خوف كبير من المغامرة بتنظيم عروض مفتوحة

ميشيل بوليكيفتش

فعلى خلاف ثقافة "موسيقى البوب" السائدة المفرطة في حضورها، والمتمتعة بحصانة نسبية يكرسها الذوق العام وعالم الأعمال، يمكن "الستريمرز" أن يتحملوا أخطار اختيار أنماط حياة إبداعية بديلة. وهكذا فعل من قبلهم موسيقيو الراب والروك والديث ميتال والجاز والموسيقيون الإلكتروصوتيون والمرتجلون الأحرار، ممن خلقوا أصواتا وإيقاعات وأشكالا وضوضاء محلية وعالمية، للتعبير عن ارتباطهم بمحيطهم وبالعالم، معترضين على انماط كلاسيكية راجت قبلهم، قبل أن يكرسوا هم أنفسهم أنماطا من "البوب" جاء الوقت، ربما، لهدمها، أو لإعادة تشكيلها، في عملية يسميها ثلاثة من أبرز علماء الاجتماع في أوروبا (أنتوني جيدنز وأولريخ بيك وسكوت لاش) بـ"الحداثة الإنعكاسية"، التي تعرض لرؤية إعادة بناء تفكيكية.

ثمة مشتغل أوروبي رابع بنظريات علم الاجتماع، وارتباطها بالموسيقى، لم يقل أهمية عن الثلاثة الآنفي الذكر، حضر، في نهاية ستينات القرن الماضي الى البلد، وكان، في الأربعين من عمره، على وشك أن يكرس لبنان كمنصة دولية لاطلاق "صاروخه" الفكري العتيد: "الثورة الموسيقية" بمداميك روحانية واشتراكية. اسمه، لطرافة التاريخ، ارتبط اليوم بلقب "الأب المؤسس للموسيقى الإكترونيةالألماني كارل هاينز شتوكهاوزن" (1928-2007).

وحين ولد فيرسيلاس في مدينته الساحلية، التي غالبا ما يشار إليها بأنها مهد بزوغ الأبجدية التي ساهمت بتطوير حروف العالم، كان واحدا من أعظم مؤلفي الموسيقى في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وربما من الأكثر جدلا بينهم، قد ترك دنيانا للتو، مخلفا وراءه معينا موسيقيا لا ينضب للأجيال التالية.

تصوير ابراهيم توتونجي خاص المجلة
تقف الموسيقى الروحانية البديلة كإعلان احتجاج على العدمية التي اودت اليها سنوات من الأمل والترقب بالأمن والازدهار في لبنان

عدت مقطوعته "جعيتا" التي ألفها، زمن دعوته إلى المغارة للاحتفال بافتتاح جزئها العلوي عام 1969، فرصة سانحة له لمواصلة استكشافاته المبكرة للمدارس الموسيقية التجريبية، عبر تضمينها سلاسل نغم  (Tone Rows) مرتبة بطريقة معينة، تستخدم لتوليد المادة اللحنية، بما يضمن عدم تكرار صوت معين من جهة، وإضفاء الطابع التجريدي على الموسيقى، من جهة أخرى. مكنته المغارة، التي تتمخض الحياة فيها ببطء مثل حركة سلحفاة، من استخدام التقنية المعروفة بـ"نقطة الصوت"، حيث توزع الأصوات بشكل منفصل عبر المكان، مع استخدام عناصر من العشوائية المنضبطة (Controlled Aleatoricism) لخلق تأثيرات غير متوقعة ضمن إطار من السوريالية الدقيقة. تتداخل الأنماط الإيقاعية المعقدة مع التوزيع المكاني، مما ينتج لوحة صوتية تتغير وتتطور باستمرار، وتثير إحساسا بالحيوية والحركية.

بفضل تجاربه المبكرة في استخدام توزيعات مصدر الصوت داخل المكان لجعل الموسيقى تجربة ثلاثية الأبعاد، بالامكان اعتبار شتوكهاوزن رائدا لما بتنا نعرفه اليوم بـ"التجربة الفنية الغامرة"، ضمن فئة "الفن الصوتي". كذلك مثلت صفات العولمة وعبور الثقافات إحدى تجليات "ثورته" الموسيقية. إذ عكس تركيزه على الابتكار، والاعتماد على التكنولوجيا والتجربة الحسية، في آن واحد، رغبته في إعادة تعريف الموسيقى، كوسيلة تواصل عالمية، تتجاوز الحدود الثقافية والجغرافية، من خلال لغة صوتية موحدة تعتمد على التقنية والتوزيع المكاني.

بقميص أبيض بسيط المظهر وسروال قطني وشعر غير مصفف تماما، على مقربة من المغارة التي أقيم فيها عرضه، وحيث صورته الكاميرا الوثائقية للمخرجة آن ماري ديسهايس، لفيلم تتيحه اليوم المشاهدة الكاملة، منصة "يوتيوب"، بدا شتوكهاوزن، متحمسا لإعلان لحظة فاصلة وحرجة بين مرحلتين من تطور الجنس البشري: مرحلة القداسة ومرحلة المادية. يقول منفعلا: "هناك متسع للجميع على هذه الأرض، هناك متسع من الموارد ومن الأماكن، لكن هناك حقيقة واحدة، وهي أن الدرب الصحيح لا يكون بسوى الاتحاد بين البشر، وليس بالفكر الانعزالي".

هي موسيقى طقوسية تجعلني أرتحل داخل نفسي، أولا، بوصفها أرضا كاملة وغير مكتشفة. أرض الوعي الذي يصبح وسيطا لتمرير رسائل أتلقفها بشكل متجذر، وأشد عليها

فيرسيلاس

ترن حروف كلماته، مثل جرس يحذر، بمفارقة تاريخية لافتة، من انهيار وشيك للحلم الطليعي اللبناني ونهاية "معجزة الشرق". وتحققت في سنة زيارته ذاتها نبوءة "العودة للكهف"، لكن بالمعنى السلبي المعبر عن ضرب مسار التنمية، اذ أنها المرحلة التي يسميها كمال ديب، صاحب "عهود رئاسية: أزمات وحقائق من شارل دباس إلى ميشال عون" بـ"نهاية بداية الدولة". وتحت شعارات "الوطنية" و"القومية" و"الحداثة الغربية" حلت سنوات الخراب، ومن بعدها اليباب، التي لا يليق بها سوى وصف واحد لا تحبه موسيقى شتوكهاوزن: الفكر الانعزالي.

في يونيو/حزيران الماضي، تزامن سعي فاتن الخشن لاستكشاف تلك المعاني، عبر النفخ في بوق خشبي يصل طوله الى مترين، خلال حفل "عيد الموسيقى" في بيروت، مع عودة جديدة تكريمية للموسيقار الألماني الراحل للمدينة ذاتها، بعد ما يقارب نصف قرن من زيارته الأولى، هذه المرة عبر عرض فيلم وثائقي عن واحد من أهم أعمال الأوبرا التي كتبها "الضوء" خلال "مهرجان بيروت للأفلام الفنية".

تصوير ابراهيم توتونجي خاص المجلة
تلجأ فاتن الخشن الى آلة نفخية استخدمتها قبل مئات السنين مجموعات السكان الاصليين في استراليا وتقول ان لها ذبذبات شافية

حياة وموت نملة بيضاء

مسلحة بمعارف عزف قديمة، يعود بعضها الى قبائل ومجموعات السكان الاصليين في أوستراليا، ووشوم على الجلد، واكسسوارات بدائية، وأنفاس عميقة، وشفاه مدربة، تعرف كيف تهتز وكيف تغير مواضعها على حافة البوق، وبـ"وحي" يتأتى، هذه المرة، من أعماق الأرض و"خبرات الأسلاف الايجابية والسلبية"... تحترف الخشن العزف على آلة "الديجيريدو" التي تجسد سيرتها وأثرها سيرة الموت والبعث بكل تجلياتهما: بدءا من حشرة النمل الأبيض، التي ما إن يموت خشب أشجار الكينا او البامبو حتى تغزوه وتمعن في لحائه حفرا ونقرا ونشرا، ثم تترك أجنتها بداخله، أدلة على بزوغ الحياة من الذبول، مرورا بانخطافات النفس العميق الذي تظن الخشن أنها تستخدمه لكي تتحول إلى ما يشبه الوسيط الذي "يستحضر طاقات الأسلاف لشفاء الأحياء"، كما تشرح لـ"المجلة"، وصولا إلى قصص قبائل الموري والغاديغال والبالاوا الرائعة التي صنعت الآلة من جذع الخشب المأكول وصقلتها وزينتها بالوشوم (تماما كجسد المغنية) وأطلقت منها الموسيقى.

ثمة حلقة فناء وولادة، هنا، لا تنتهي، كأنها "متاهة أبدية"، مثلما وصف شتوكهاوزن "أوبرا الضوء"، أو هو قدر المدينة: "أنفخ كأنني طفل يبصق في وجه تلك الحالة العدمية، المخيفة واللذيذة في آن، للعيش، وإنتاج الموسيقى، في بيروت. وأحول جسدي إلى جزء متصل بالآلة (على غرار تحولات فيرسيلاس أيضا)، فأتصل بالأنبوب، لأكون وسيطا يمرر طاقات شافية من الخبرات التشاركية القديمة، في اتجاه الجمهور الحالي".

تذكر شروح الخشن بكلمات أغنية الفرقة الأميركية "تول فراند" التي تحمل عنوان "نمل أبيض" وتتحدث عن علاقة حب مسمومة وتدميرية: "أشعر بغباء لأنني أحببت... لكن تدخلت النملة المدمرة وتركت بيضة على العلاقة المدمرة". كما يذكر اتحادها مع أنبوب بوقها العملاق، وفعل عزفها الدامج بين الحس وذبذبات الصوت، بتجربة سابقة لفنان لبناني متميز آخر، أكثر شمولا وتنوعا في استخدام الوسائط، هو مازن كرباج، في واحد من مشاريعه الفنية المبكرة التي مضى عليها عقدان من الزمن.

أنفخ كأنني طفل يبصق في وجه تلك الحالة العدمية، المخيفة واللذيذة في آن، للعيش، وإنتاج الموسيقى، في بيروت. وأحول جسدي إلى جزء متصل بالآلة

فاتن الخشن

آنذاك، وتحديدا في العام 2005، أضاف كرباج في ألبوم موسيقي حمل اسما غريبا هو BRT VRT ZRT KRT عنصر الماء إلى تقنية النفخ لكي يختبر أقصى إمكانات البوق لتوليد أحاسيس عميقة. وحين "يمتلئ بوقه بالماء، كان يصدر أصواتا فقاعية، ويهمس بهدوء وتهوية، ثم يصرخ بنبرة عالية"، وفي مرات، كان "يجلس على كرسي، والأنبوب حول رقبته والبوق بين ساقيه، أو يستخدم أنبوبا آخر يبلغ طوله 5 أمتار".

حدثت كل تجارب "النفخ في الماء" المبكرة تلك، بينما كان بحر بيروت يستعد لاحتضان ذبذبات التفجير لواحدة من أكبر عمليات الاغتيالات السياسية في لبنان منذ بداية الألفية: قتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري (1944-2005) و21 شخصا على أثر تفجير ضخم نال من موكبه، اتهمت "المحكمة الدولية الخاصة بلبنان" سليم عياش، مسؤول "حزب الله"، بمسؤوليته عنه.

 تصوير إبراهيم توتونجي خاص المجلة
أدى شغف دانيبل بلابان بالايقاع الموسيقي الهندي الى التدرب على آلة شاه ناي ودعوته صديقه شاتي سوكلا للعزف في لبنان

"في ذلك العام، اغتيل أيضا السياسي جورج حاوي (1938-2005). كنا نجهز في اليوم ذاته مسرحا لحفل موسيقي حين طلب منا الغاء كل الحفلات. ثم توالت الاغتيالات لنشطاء وصحافيين وسياسيين ومدنيين. وبات إخبار الفرق الموسيقية بإلغاء حفلاتها امرا اعتياديا بالنسبة لنا، حتى استحققنا لقب "خبراء الكنسلة (الإلغاء)"، تشير بوليكيفتش في استعادة تاريخية مريرة لأثر التوترات الامنية، في عهد ما بعد الحرب الاهلية، على محاولة النهوض بالمشهد الموسيقي في لبنان.

"كلما زادت الضغوط، اتضحت بصمة مشروعنا أكثر. نوعية الموسيقى التي ننتجها، في رأيي، هي أكثر ما يحتاج إليه الناس اليوم. لقد اتخذوا منذ زمن بعيد قرارا بأن يحلموا ويعيشوا في حياة اعتراضية داخل سردية الرعب الأمني... كل واحد يريد أن يخلق عالما من الصفاء وسط القسوة"، يقول طارق بشاشة.

يوافقه الرأي دانييل بلابان: "الحرب؟ هذه سيرة حياتي. لا يمكنني أن امنحها طوال الوقت وبشكل حصري كل طاقات تفكيري. الموسيقى فقط هي التي تنقذني. أتدرب لأكثر من أربع ساعات في غرفتي يوميا. وحين لا أكون في بيروت، تجدني في شمال الهند، أغرف من الإرث الموسيقي الرائع لآلة خيال شاهناي".

بوق آخر من الهند

ينتمي بلابان الى عائلة تعشق الفن وتمارسه، فوالده ممثل، وأخوه عازف، والاثنان ساهما في تشكيل شغفه بالموسيقى ذات الجذور الآسيوية الهندية: "كنت مراهقا حين رمى لي والدي بأسطوانة العازف الهندي وأسطورة اللعب على الطبلة ذاكر حسين (1951-2024). أخي الأكبر تأثر بتلك الموسيقى وذهب إلى الهند لتعلمها في نهاية التسعينات، وحين عاد كانت حقائبه ممتلئة بأكثر من مائتي أسطوانة. ثم جاء دوري، فارتحلت إلى هناك في 2018 لأول مرة، ولا أزال أفعل الى يومنا هذا. وإضافة الى ما حصلته من معارف موسيقية وروحية، أنا سعيد أيضا بتمكني من صنع صداقات عابرة للحدود"، كما يروي لـ"المجلة".

يعبر بلابان عن هذا الفرح في مظهره، الذي تميزه أسدال من القماش الأبيض يكتسي بها ومنديل يلف به رأسه، وطاقة نابضة على النفخ في آلته التي لطالما ارتبطت بمشاعر الاحتفاء و"الفأل الحسن"، ومودة عارمة يقابل بها ضيفه الموسيقي الهندي الذي "يحب بحر بيروت" و"تحادثه أمه كل يوم لتسأله عن الوضع الأمني في لبنان" ويقضي وقته في الضرب على الطبلة وتدريب عشاق الإيقاع الهندي على العزف واكتشاف "سحر المدينة". على المسرح، تنفجر الأصوات الخارجة من لعب الشفاه والأصابع والأكف، مولدة طاقة غامرة، تشبه طاقة الربيع وجريان النهر أو حركة موج البحر: "في قريتي في الهند ليس لدينا بحر. هنا في بيروت أقترب منه بشوق كبير وأحاول أن اتعلم السباحة"، يقول الهندي شاتي سوكلا في حديثه الى "المجلة" في بيروت.

الحرب؟ هذه سيرة حياتي. لا يمكنني أن امنحها طوال الوقت وبشكل حصري كل طاقات تفكيري. الموسيقى فقط هي التي تنقذني

دانييل بلابان

تشبه آلة الشاهناي البوق أيضا، وهي تتكون من قطعة خشبية مجوفة تتسع تدريجيا نحو الطرف السفلي. عادة ما تحتوي على ستة إلى تسعة ثقوب. وهي تستخدم مجموعة واحدة من القصب الرباعي، مما يجعلها آلة النفخ الخشبية الرباعية. من أجل إتقان العزف على هذه الآلة الموسيقية، يجب على الموسيقي أن يستخدم تقنيات معقدة ومتنوعة في مبسم الشهناي، وتحريك الأصابع فوق الثقوب ببراعة. وغالبا ما تصنع الشهناي من جسم من الخشب أو الخيزران، بينما تكون نهايتها مصنوعة من قطعة معدنية تتسع إلى الأسفل كالجرس. كما يعتقد أن صوتها يجلب الفأل الحسن، والحظ الميمون والقداسة، ونتيجة لذلك فهي واحدة من تسع آلات موسيقية حرص ملوك الهند على وجودها في بلاطهم منذ مئات السنين.

تصوير إبراهيم توتونجي خاص المجلة
ينفي بلابان عبر مشروعه الموسيقي التأثر بإرث موسيقي لبناني دمج الريفية مع الكلاسيكية الاوروبية ويقرر الذهاب الى ارض أخرى

تخلو الموسيقى المولدة من هذه الآلة من التأثيرات الحضرية وتحيل بشكل أوضح على الأثر الريفي، كما على مفارقة تاريخية اجتماعية تتعلق بلبنان. فأصول ما يعرف اليوم بـ"الموسيقى اللبنانية" يعود إلى بداية أربعينات القرن الماضي، حين دمج مشروع بناء "الوطن اللبناني" بين نغمات الريف والتأثير الأوروبي الكلاسيكي، في ترفع يعتبره مؤرخون موسيقيون، من أمثال فيكتور سحاب، مقصودا لاستبعاد أي تأثير شرقي أو اسلامي على وجه الخصوص: "المؤسسة الموسيقية اللبنانية كانت لديها دائما مشكلة في قبول التأثير الإسلامي على الموسيقى العربية، إذ لم يرغب معظم المطربين اللبنانيين في البدايات أن يغنوا على طريقة الشيوخ المرتبطة بتلاوة القرآن". ويوافقه الرأي مارك هنري ماينجي في كتابه "الموسيقى في لبنان" (1969) ، وهو أحد الكتب القليلة التي تتناول تاريخ الموسيقى في هذا البلد، مشيرا إلى أن المؤسسات الموسيقية الرئيسة اللبنانية في بداياتها تأثرت بشدة بالموسيقى الكلاسيكية الغربية وبالمعلمين الفرنسيين، مثل بيتران روبيار. وغالبا ما كان ينظر إلى الموسيقى العربية أو الشرقية على أنها "بدائية". ومن أجل اكتساب أي موسيقى اعترافا بالصلاحية، كان لا بد من تنسيقها وعزفها في فرق أوركسترا كبيرة، بدلا من فرق التخت العربية الصغيرة".

وفي بيروت ذاتها، ينزع بلابان ورفاقه هذه المعادلة تماما عن موسيقاهم، راغبين بالحلول في ريف آخر، مخلتف تماما، ليس لبنانيا ولا أوروبيا، ولا يحمل اي "ضغائن تاريخية". كذلك تغير "عشيرة" الفهم اللبناني لتعبير "بدائي"، وتشرح "تجلي" الموسيقى بنشوة الروح. يرغب الجميع تأكيد الابتعاد بفنهم، قدر الإمكان، عن "رقصة النار".

على كيلومترات قليلة من تمتعه مع صديقه الهندي بفوح ياسمينة عطرة في حديقة بيروتية صيفية، ترتفع الرايات الأليمة مدللة على الذكرى الخامسة لتلك "الغيمة الفطرية" العملاقة التي لفظها البحر، على أثر تفجير مرفأ المدينة، والتي تشكلت هائلة وعملاقة ونارية، مدوية بصوت حاد ومباغت التهم كل الأصوات.

في ذلك السياق التاريخي، قد تبدو محاولات الموسيقيين الاستشفائية، رغبة سوريالية، وإنما صادقة، لإنقاذ مريض من وهنه عبر "إعطائه ملعقة سكر مع الدواء". هكذا تقول واحدة من أغنيات "أورورا" الشهيرة.

font change