ناجي حكيم لـ"المجلة": وطني الحقيقي هو السماء التي تربطني بالإيجابية

"أنا اثنان في واحد"

ناجي حكيم لـ"المجلة": وطني الحقيقي هو السماء التي تربطني بالإيجابية

بيروت: تتنوع أعمال المؤلف الموسيقي اللبناني الفرنسي ناجي حكيم بمقطوعات لآلات موسيقية مختلفة وأخرى سمفونية، إضافة إلى أعمال صوتية منها أعمال للأرغن مثل "الرباعيات" (1990) و"قبر أولييف ميسان" (1993)، و"الحكم الأخير (2014) وسلسلة أعمال للأوركسترا وكونشيرتات منها "من مقدمة لبنانية للأوركسترا"(2004)، و"بعلبك" (2015)، و"السندباد" (2016). وقد أهلته هذه الأعمال للفوز بجوائز عالمية عدة، منها تكريم البابا الراحل بنديكتوس السادس عشر الذي قلده وسام الصليب الأكبر عام 2007 تقديرا لأعماله الموسيقية الكنسية. هنا حوار معه حول تجربته.

في العودة إلى ذكرياتك الموسيقية الأولى في اكتشاف صوت آلة الأرغن في بيروت، ماذا بقي اليوم من هذه الذاكرة؟

بقي كل شيء راسخا في ذاكرتي. اذكر تماما أنني كنت أتردد يوميا الى كنيسة القلب الأقدس في الأشرفية لأتمتع بصوت الأرغن المرافق للقداس. بات هذا الأمر "خبزي اليومي" منذ صغري حتى تحصيلي شهادة البكالوريا.

اضحت الموسيقى عموما والأرغن خصوصا متنفس حياتي وحج خلاصي من المدرسة. كنت أتوق دائما الى الهروب من الصف الى هناك للتخلص من لوم معلمة الرياضيات المتكرر لي على إخفاقي في إجراء العمليات الحسابية الأساسية، ولا سيما منها ما يعني علم الجمع.

على الصعيد العائلي، كنت أتابع الموسيقى عبر سماع الراديو مع والدي، والإصغاء مع والدتي إلى عزف الحلاق على العود بعد قص شعرنا.

درست الهندسة بناء على طلب والدك لتنتقل من بعدها الى الموسيقى. هل تمردت على الموروثات العائلية بقرارك هذا؟

لم أتمرد على والدي، بل جمعنا اتفاق ودي قضى بأن أنتقل الى المدرسة الوطنية العليا للاتصالات في باريس لأكمل تخصصي في الهندسة، الذي بدأته في جامعة القديس يوسف.

لم يكن طريقي سهلا في الكونسرفتوار الوطني الفرنسي وقد بذلت قصارى جهدي في عملي، الذي لم يحظ بتنويه لجنة التحكيم فيه، إلا في السنة الثالثة

احترمت رغبة والدي صبحي في دفعي الى دراسة الهندسة لأنه كان يخشى ألا أكسب عيشي من الموسيقى، رغم أنه دعم طموحي لدراسة الموسيقى. أما والدتي كايتي نمور حكيم فكانت تعيش في الظل، وتنكب، رغم أنها بعيدة عن الأضواء، على حثي بحزم على اعتماد الدقة والانضباط في إدارة شؤون حياتي وترتيب أولوياتي، وهذا ما كان له الفضل الأكبر لأصبح مؤلفا  أوركستراليا.

تزاوج بين الشرق والغرب

كيف تصف المناخ الثقافي الذي كان سائدا في فرنسا في بداياتك الموسيقية؟

كان يسود مناخ ثقافي في الكونسرفتوار الوطني الفرنسي جدي وصارم فرض علينا علاقة رسمية بعيدة عن أي مجاملة ومنع أي ألفة أو تلقائية بين المعلم والتلميذ، وهذا ما تراجع نسبيا اليوم من خلال تواصل أكثر سلاسة مما كان عليه بين الجانبين.

GettyImages
عازف الأرغن ناجي حكيم في كاتدرائية سانت جايلز في إدنبرة

أكاديميا، لم يكن طريقي سهلا في الدراسة في الكونسرفتوار الوطني الفرنسي وقد بذلت قصارى جهدي في عملي، الذي لم يحظ بتنويه لجنة التحكيم فيه، إلا في السنة الثالثة من دراستي.

وبعد تمرسي بالعمل الأكاديمي والمهني، شققت طريقي نحو تعييني أستاذ مادة التحليل الموسيقي في الكونسرفتوار الوطني للموسيقى في منطقة بولوني بيانكور وأستاذا زائرا في الأكاديمية الملكية للموسيقى في لندن. ونلت قبل هذا كله فرصة ذهبية لدراسة الأرغن في إشراف الملحن الفرنسي للموسيقى الكلاسيكية وعازف الأرغن جان لانغلي، الذي علمني كل شيء، مخصصا لي دروسا دورية في العزف على هذه الآلة. عاملني كابن له وتابع مسيرتي بفخر كبير.

الموسيقى الشرقية طبعت طفولتي وساهمت في دفعي إلى الإبداع في الموسيقى الكلاسيكية الغربية

كان أيضا لسيرج نيك، البروفسور الفرنسي الأسكتلندي، أثره الكبير في مسيرتي، ولا سيما خلال متابعتي صفه في الكونسرفتوار الوطني. شعر هذا الأخير أن لدي طاقة واعدة في التأليف الموسيقي وعمد الى وضعي دائما في الصف الأول في أي تمرين، مما عزز لدي الثقة في مستقبل واعد أمامي. وهذا كله ساهم في أن أصبح عازف الأرغن الأول في باريس في كل من كاتدرائية القلب الأقدس (1985-1993)، وكنيسة الثالوث الأقدس في المدينة نفسها (1993-2008) خلفا لأوليفيه ميسيان، عازف الأرغن الفرنسي فيها لأعوام طويلة.

مزاوجة

كيف زاوجت بين أعمالك الموسيقية الكلاسيكية الغريبة وإحساسك الشرقي؟

ثمة واقع ملموس في تجربتي، وهو أن الموسيقى الشرقية طبعت طفولتي وساهمت في دفعي إلى الإبداع في الموسيقى الكلاسيكية الغربية. لكن في البداية، كنت أميل الى تقليد موسيقى جان لانغلي وأوليفيه ميسيان، متبنيا أنغاما تقليدية ليتورجية مضافة إليها أدوات غربية.

Wikimedia Commons
المعهد الوطني الإقليمي للموسيقى في بولون-بيانكور، فرنسا

رأيت نفسي مع مرور أعوام الخبرة أنني أمد جسورا في الموسيقى عابرة بين الشرق والغرب. أدركت  أنه لا يمكن الفصل بين أعمال موسيقية بعضها غربي الهوى وبعضها الآخر متأثر بالشرق، لأن تأليف المقطوعة الموسيقية لا يحده نهج أو رابط. ولم أتردد في خلق عالم لحني شرقي من خلال مقطوعة "الرباعيات" للأرغن. استخدمت في هذه الألحان الشرقية مجموعة تسلسلات متناغمة ومترابطة بين الأنغام وهي لا تخلو من الصعوبة طبعا.   

كما اعتمدت الخطوط اللحنية الشرقية الخاصة بلبنان في أعمال عدة منها "افتتاحية لبنانية"(2004) بألحان لبنانية تقليدية، وصولا الى كونشرتو موسيقى الحجرة الخاص بلبنان (2008)، وهو مزيج من موسيقى دانماركية ولبنانية، بعضها على تماس مع بعضها الآخر، لتفعيل حوار الحضارات من خلال هذه التجربة. وأشعر بسعادة بالغة عندما أتحدث عن مقطوعة موسيقية وضعتها بعنوان "بعلبك" (2015)، حيث شاركت مع مجموعة من رفاق دربي في الموسيقى أمثال بشارة الخوري وإبراهيم معلوف ومجموعة من الشعراء في مقدمهم إيتل عدنان وسواهم في عمل ضخم نظمته مهرجانات بعلبك الدولية حمل عنوان "إلك يا بعلبك".

Reuters
معبد باخوس مضاء خلال افتتاح مهرجانات بعلبك الدولية، بعلبك، لبنان، 8 يوليو 2022

ولم أكتف بهذه المقطوعة لبعلبك، بل رافقت العمل أيضا مجموعة ألحان تراثية أهديتها الى المكان والى لبنان على غرار "يا غزيل"، و"تفتا هندي"، و"على دلعونا"، و"عبدو حابب غندوره"، و"البنت الشلبية".

طبع مؤلفون موسيقيون أمثال كورساكوف وسترافينسكي الروسيين وديبوسي وبولانك الفرنسيين ذاكرتك الموسيقية. فكيف قاربتهم في موسيقاك؟

هؤلاء ننساق إلى أعمالهم بصورة عفوية، إلا أنني طورت أسلوبي الموسيقي الخاص، الذي لطالما كان كلاسيكيا متأصلا بالمقامات اللحنية، وهذا طبعا يصب في خانة النهج الكلاسيكي الغربي، من عالم ديبوسي الى سترافينسكي.  

قلق من التكنولوجيا

الذكاء الاصطناعي والموسيقى

هل تشعر بالقلق من أثر  الذكاء الاصطناعي على عالم الموسيقى؟

ارفض كليا أن يستعمل الإنسان كأداة، أو أن تسند إليه معلومة من آلة دون أن يبادر شخصيا بخطوة قائمة على "فعل" ذكي يقوم به خارج الآلة نفسها، ويدقق بما يتوفر إليه من معرفة ويختار ما يناسبه فعليا في حياته.

لا يجوز أن يشكل الذكاء الاصطناعي أي خطر على إنسانية الإنسان، والإفادة منه ممكنة في حال رفضنا أن يملي علينا نمطا فكريا محددا

لا يملك الذكاء الاصطناعي قدرات خارقة لأنه يعجز من "تغذية" إبداعاته ليولد من خلال هذه التقنية شخصية أدبية من مقام فيكتور هوغو مثلا. ولا يجوز أن يشكل الذكاء الاصطناعي أي خطر على إنسانية الإنسان، والإفادة منه ممكنة في حال رفضنا أن يملي علينا نمطا فكريا محددا لأنه يقصي حريتنا في المعرفة والقرار وتقصي المعلومات قبل تبنيها.  

كيف تحدد هويتك الموسيقية والشخصية بين الأصل والانتماء؟

رصيدي الموسيقي هو مرآة ذاكرتي، التي ظهرت بنمط واضح ومميز في تسعينات القرن الماضي من خلال عملي "مقدمة لبنانية للأرغن"(2001).

GettyImages
عازف الأرغن ناجي حكيم في كاتدرائية سانت جايلز في إدنبرة

وجوابا عن انتمائي الشخصي، أستعين بما قاله شاعر الأرض والحياة محمود درويش عندما كتب فقال: "أنا إثنان في واحد".  فأنا أنتمي إلى لبنان، وبلدي الثاني هو فرنسا. أما وطني الحقيقي فهو السماء التي تربطني بالإيجابية. أوثق من خلالها علاقتي بالله، بكل شيء يوصلنا الى الله والكمال.

أعود من مدينتي بيروت لأتابع عن كثب تقديم ثلاثة ألبومات مميزة تجسد عالمي السمفوني، لا سيما أنني على أبواب الاحتفال بميلادي السبعين. أقدم في الألبوم الأول، "الباسك وزخارف عربية"، رحلة أوركسترالية بين ضفاف البحر الأبيض المتوسط والشرق والغرب. وقد أدت هذه الأعمال أوركسترا براغ السمفونية التشيكية بقيادة يوهانس سكودليك، في لوحة صوتية تمزج بين حيوية الرقصات التقليدية ونبض الإيقاع الشرقي وزخرفة الأنغام. تلتقي في هذا الألبوم أعمال "تنويعات من المشرق"، و"السندباد"، و"بعلبك" مع "زخارف" و"ثلاث رقصات باسكية" في احتفال نابض بثقافات متعددة.

أما الألبوم الثاني فيضم اعمالي، "السلام عليك يا مريم" و"القداس الاحتفالي" المسجل خلال حفل مباشر مع أوركسترا وجوقة إذاعة بافاريا بقيادة وين مارشال.

وأخيرا، يكشف الألبوم الثالث في "الافتتاحية اللبنانية"، المسجل في كولونيا مع أوركسترا غرب ألمانيا الإذاعية  WDR بقيادة وين مارشال، عن نفسي السمفوني، الذي يجسد لقاء الإيمان والتقاليد والفن.

font change