رخصة قتل مفتوحة

رخصة قتل مفتوحة

استمع إلى المقال دقيقة

بحسب الجيش الإسرائيلي نفسه، فهناك تحقيق فتح في مسألة قصف مستشفى ناصر في غزة، بالأمس، والذي أودى بحياة عدد من الصحافيين والمسعفين. ومما نشره الإعلام الإسرائيلي عن مصادر في الجيش الإسرائيلي أن كل قصف يتمّ، يحصل على سلسلة موافقات عليا، وصولا إلى موافقة رئيس أركان الجيش نفسه، في حال تعلق الأمر بقصف مستشفى. هذا الكلام له معنى واحد، وإن كان عمليا يؤكد حقيقة باتت معروفة عالميا، وهو أنه ليس هناك عمليات قتل وقصف وتدمير تحصل بالخطأ، أو بسبب سخونة ميدان المعارك. فالمعارك بالنسبة إلى الجيش الذي يملك السيطرة على أجواء غزة وبحرها وبرها، كل دقيقة من الـ24 ساعة يوميا، لا يمكن أن تكون ساخنة، إلا في حالة تعرض قوات الاحتلال إلى كمين، خلال عمليات التوغل، أما ما عدا ذلك فهو قصف مسيطر عليه ومخطط له بدقة، وهو القصف الذي أودى بحياة عشرات آلاف الفلسطينيين، 80 في المئة منهم من النساء والأطفال، بحسب الأمم المتحدة.

بين الصحافيين الذين قتلوا بالأمس الصحافية الشابة مريم أبو دقة التي تعمل متعاقدة حرة مع وكالة "أ.ب" الأميركية، وقد نشرت الوكالة خبر مقتلها، دون أن تسميها، مضيفة أن المصدر هو "وزارة الصحة" في غزة. وفي حين علق المئات على منشور الوكالة، معيبا عليها استنكافها عن ذكر اسم الصحافية، فقد علق آخرون من مؤيدي إسرائيل، وغالبيتهم من الأميركيين، بتأكيد أن هذه الصحافية، شأن كل الصحافيين الذين قتلوا حتى الآن، وزاد عددهم عن مئتي صحافي، ليست إلا إرهابية تعمل في صفوف "حماس".

حين تشكّك في انتماء الصحافي، وما إذا كان صحافيا في المقام الأول، فإنك عمليا تشكك في كل روايته، في الأخبار ومقاطع الفيديو والصور التي ينقلها إلى العالم

هذه الكذبة الكبرى تقوم على دعاية مركّزة عملت عليها إسرائيل والإعلام الموالي لها حول العالم، مفادها أن كلّ صحافي يعمل من داخل غزة، إنما هو جزء من "حماس"، وإلا كيف تسنّى له التحرّك بحرية هناك. وهذه الدعاية لا تستهدف الصحافيين كأفراد، بل إنها تستهدف في الحقيقة دورهم، فحين تشكّك في انتماء الصحافي، وما إذا كان صحافيا في المقام الأول، فإنك عمليا تشكك في كل روايته، في الأخبار ومقاطع الفيديو والصور التي ينقلها إلى العالم، وإنما يصبّ هذا في خدمة الحملة الدعائية الأكبر التي تنكر وقوع إبادة، أو– كما رأينا أخيرا– وقوع المجاعة رسميا في غزة.

العالم، بالنسبة إلى إسرائيل، برمته تقريبا يكذب ويختلق الوقائع، بل "يعمل في خدمة حماس"، بل وصل الأمر برئيس الوزراء الإسرائيلي إلى اتهام رؤساء دول وحكومات غربية، بأنها تعمل لدى "حماس" وتخدم أجندتها المعادية للسامية، على حدّ زعمه. أما حين تواجه الحكومة الإسرائيلية بالسؤال حول عدم سماحها للصحافيين الدوليين بالدخول إلى غزة، فإنها تقول، مثلما قال بنيامين نتنياهو قبل أيام، إنه يفعل ذلك حماية للصحافيين، وبسبب خطورة الأوضاع داخل غزة.

كل هذه الأكاذيب تتطلب كذبة أساسية أخرى، لا تقل عنها سيريالية بالطبع، وهي أنه، في المقام الأول، لا وجود للمدنيين في غزة. لم نسمع ذلك من مسؤولين يمنيين متطرفين داخل إسرائيل فحسب، بل سمعناه تقريبا من مختلف أطياف صناع السياسة والرأي، كما سمعناها من إسرائيليين عاديين، إما غسلت أدمغتهم من قبل حكومتهم لتصديق كل ما تقوله لهم دون الحدّ الأدنى من التشكيك، وإما أنهم مستعدون أساسا لتصديق هذه السرديات المغرقة في الكذب والحيل الدعائية.

لم تعد هذه الاحتجاجات وتوجيه أصابع الاتهام والصراخ والعويل، كلها لم تعد كافية لوقف المذبحة، ما دام ذوو النفوذ الحقيقي، ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية، لا يحركون ساكنا إزاء هذه الجرائم

جوهر المسألة إذن لا يتعلق بالجسم الصحافي وحده، إلا أن ما تعرّض له هذا الجسم حتى الآن من إبادة فعلية شاملة، وإلى جانبه ما تعرض له العاملون في الإغاثة الإنسانية ، هو ببساطة تجسيد صارخ لما تعرض ويتعرض له القطاع برمته. فحين يقتل خلال أقل من عامين، في حيز جغرافي ضيق جدا مثل قطاع غزة، نحو 240 صحافيا، وأكثر من 500 عامل إغاثة وغيرهم من الفئات التي يفترض أنها تتمتع بحصانة ما خلال الحروب، فإن هذا يعطينا صورة واضحة عن الأرقام المهولة من المدنيين الذين سقطوا.

حقيقة أخرى يؤكدها التعامل الإسرائيلي مع جرائم الحرب هذه، والذي يتراوح بين إنكار أن يكون الصحافي القتيل صحافيا بالفعل، وأنه في حقيقة الأمر "إرهابي"، وبين إعلان فتح تحقيق في المسألة، وهي أن إسرائيل لا تعتزم بأي حال من الأحوال التراجع عن هذه السياسة الإبادية. كل الاحتجاجات الأممية، تلك النابعة من هيئات وسياسيين ودول وحكومات، أو التي تقودها الجماهير بالملايين حول العالم، لا تقدم ولا تؤخر في الأمر شيئا. لم تعد هذه الاحتجاجات وتوجيه أصابع الاتهام والصراخ والعويل، كلها لم تعد كافية لوقف المذبحة، ما دام ذوو النفوذ الحقيقي، ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية، لا يحركون ساكنا إزاء هذه الجرائم. إنها رخصة قتل مفتوحة، وسوف نرى المزيد من الصحافيين والأطباء وعمال الإغاثة والأكاديميين وغيرهم يقتلون بوتيرة ربما تكون متصاعدة، والأمر المرعب الحقيقي في ذلك هو مجرد تخيّل الكلفة البشرية المقبلة التي ستجعل العالم ربما يكتشف أن من قتلوا، وما دمّر حتى الآن، ليس كله إلا قمة رأس جبل الإبادة الشاهق.

font change