البصرة تختنق بالمياه المالحة والتلوث

رويترز
رويترز
سفينة "كارادينيز باورشيب أورهان علي خان"، وهي محطة طاقة عائمة، راسية في ميناء أم قصر بالبصرة، العراق، 21 أغسطس 2025

البصرة تختنق بالمياه المالحة والتلوث

تقف مدينة البصرة العراقية اليوم على حافة الانفجار بسبب أزمة المياه الخانقة التي حرمت آلاف الأسر من مياه الشرب، ودفعت سكان القرى إلى النزوح نحو مركز المدينة، واقع يضع المحافظة في قلب عاصفة اجتماعية وسياسية متصاعدة، حيث تتحول معاناة الناس إلى وقود لصراعات الأحزاب الساعية إلى تثبيت نفوذها بأي ثمن.

تُعد محافظة البصرة نقطة التقاء نهري دجلة والفرات مع نهر الكارون القادم من إيران، حيث تتجمع هذه الموارد المائية لتكوّن شط العرب الذي يشكّل الشريان الحيوي للمحافظة، ويُعد شط العرب المصدر الرئيس للمياه العذبة التي يعتمد عليها السكان في الاستهلاك المنزلي، كما يُمثل الركيزة الأساسية للأنشطة الزراعية التي طالما كانت جزءا من هوية البصرة واقتصادها.

تعود أزمة المياه في البصرة إلى جملة من العوامل المتشابكة، منها قيام تركيا بتقليص حصص العراق من المياه من 400 متر مكعب في الثانية إلى 200 متر مكعب، بسبب بناء السدود. وقيام إيران بتحويل مجرى نهري الكارون والكرخة وروافد الزاب الأعلى والأسفل، إلى داخل إيران، وعدم وصوله للعراق، وكذلك إيقاف نهر الفرات من الصب في شط العرب، من خلال بناء سدود صغيرة جدا في جنوب العراق، بالإضافة إلى تأثيرات التغير المناخي التي قللت من معدلات الأمطار وزادت من حدة موجات الجفاف، وسوء إدارة ملف المياه وتهالك شبكات الري والسدود، والتجاوز على حصص المياه من قبل المحافظات، وفاقم الأزمة استخدام شركات النفط الأجنبية كميات ضخمة من المياه العذبة تصل إلى 5 مليارات متر مكعب سنوياً لحقنها في آبار الاستخراج، رغم أن مياه الخليج العربي لا تبعد عن الحقول سوى 100 كيلومتر.

تعاني البصرة من تلوث الهواء، ما أدى إلى ارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير جدا، نتيجة القضاء على الثروة النباتية التي تعتبر عاملا مهما في امتصاص ثاني أكسيد الكربون

تراجع مناسيب المياه العذبة خلال السنوات الأخيرة، أدى إلى خلل خطير في التوازن المائي، ومع انخفاض التدفقات النهرية، اجتاحت مياه الخليج المالحة مجرى شط العرب لمسافات بعيدة داخل المحافظة، متسببة في ارتفاع غير مسبوق لنسب الملوحة، هذا الواقع انعكس بشكل مباشر على حياة السكان وصحتهم، فتضررت الزراعة وتلفت مساحات واسعة من البساتين، وفقد الصيادون مصدر رزقهم بسبب تراجع الثروة السمكية ونفوق الحيوانات.

أ.ف.ب
السوق القديم حيث يعرض العديد من الباعة الجائلين الإيرانيين بضائعهم في مدينة البصرة جنوب العراق، في 28 مارس 2025

وقد أصبحت المياه التي تغذي البصرة، ملوثة بشكل شبه كلي، بسبب قلتها، وقيام المستشفيات والمصانع والشركات النفطية برمي المخلفات بنهر دجلة وشط العرب، بالإضافة إلى مياه المجاري الثقيلة،  مما سبب انتشارا للأمراض السرطانية، التي وصلت إلى أكثر من 10 آلاف إصابة جديدة سنويا، حسب مفوضية حقوق الإنسان العراقية. وتحدد صلاحية استخدام المياه بوحدة قياس "Total Dissolved Solids" الذي يحدد كمية الأملاح والمعادن والمواد العضوية وغير العضوية، إذ وصلت نسبة الملوحة في مياه شط العرب إلى أكثر من 14 ألف "TDS"، في حين أن المعدل الطبيعي لا يجب أن يتجاوز 500، والتوقعات البيئية تشير إلى أن الملوحة قد تصل إلى 30 ألف "TDS" في السنوات المقبلة إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة، هذه المستويات تجعل المياه غير صالحة للاستخدام مطلقا حتى في الزراعة.

وتعاني البصرة أيضا، من تلوث الهواء، الذي أدى إلى ارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير جدا، نتيجة القضاء على الثروة النباتية، التي تعتبر عاملا مهما في امتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون من الهواء، والذي ينطلق  بفعل الشركات النفطية والسيارات والمولدات الأهلية.

أدت أزمة المياه في البصرة إلى تغيّر ديموغرافي، خصوصا أن المياه الجوفية تعاني الملوحة، بعدما قررت وزارة الموارد المائية إيقاف الزراعة في عموم البلاد، لأنها تستهلك 80 في المئة من المياه العذبة

لم تعد أزمة البصرة وليدة اللحظة، بل هي نتاج عقود من سوء إدارة ملف الموارد المائية في العراق، ما جعل البلاد أمام تهديد وجودي، فقد انخفض المخزون المائي للبلاد إلى نحو 7 مليارات متر مكعب فقط، أي ما يعادل 8 في المئة من السعة الكلية، الأمر الذي أدى إلى تصحر 90 في المئة من الأراضي الزراعية وفقدان الثروة الحيوانية، ولمواجهة الأزمة، قامت حكومة البصرة، بضخ مياه مالحة إلى منازل المواطنين، من أجل استخدامها في حياتهم اليومية.

وتعتمد موازنة العراق بنسبة أكبر من 75 في المئة على النفط المستخرج في البصرة، إلا أن الحكومات المتعاقبة، بخلت عنها بخمسة مليارات دولار لإنشاء منظومة تحلية مياه بحر الخليج العربي، وضخه إلى المواطنين، إذ تلجأ إلى الاتفاق مع تركيا لزيادة الإطلاقات المائية.

انعكاسات أزمة المياه

أدت أزمة المياه في البصرة إلى تغيّر ديموغرافي واضح، خصوصا أن المياه الجوفية تعاني الملوحة أيضا، بعدما قررت وزارة الموارد المائية إيقاف الزراعة في عموم البلاد، لأنها تستهلك 80 في المئة من المياه العذبة، لذلك هجر المزارعون أراضيهم تاركين وراءهم بساتين جرداء، وانتقلوا إلى مركز المدينة، هذه الهجرة أسهمت في توسّع العشوائيات وارتفاع معدلات البطالة والفقر، الأمر الذي زاد اعتماد المحافظة على استيراد الغذاء من خارج العراق، كما أحدثت خللاً في التوازن الاجتماعي، إذ تداخل القادمون من الأرياف مع مجتمع حضري يختلف في أنماط العيش والفرص المتاحة.

يقطن البصرة نحو خمسة ملايين نسمة، غالبيتهم من الطائفة الشيعية، وقد مرّت خلال السنوات الماضية بمحطات سياسية متقلبة، خضعت فيها لسيطرة قوى وأحزاب مختلفة

ويعيش أكثر من نصف مليون شخص في عشوائيات البصرة، وهؤلاء هم الأكثر هشاشة أمام الكارثة، فغياب القدرة المادية جعلهم يعتمدون على مياه ملوثة مباشرة من شط العرب أو شبكات توزيع غير آمنة لأن متوسط إنفاق العائلة على شراء المياه الصالحة للشرب تكلف 200 دولار شهريا وهو لا يتناسب مع مستوى متوسط دخل العائلة الذي يصل إلى 500 دولار شهريا، ومع استمرار الأزمة، ارتفعت معدلات الأمراض بين الأطفال والنساء على وجه الخصوص، الأمر الذي يعكس فشل السياسات الحكومية في حماية الفئات المهمشة.

وتعاني محطات معالجة المياه في البصرة من ضعف تقني مزمن، إذ لا تملك القدرة على إزالة الملوحة أو المكونات الكيميائية الذائبة القادمة من مياه البحر المتسربة إلى شط العرب، كما أن التلوث النفطي الناتج عن تسرب المواد الكربوهيدراتية من المنشآت القريبة جعل مهمة المعالجة شبه مستحيلة، فقامت الدوائر الحكومية بضخ مياه غير صالحة للشرب إلى منازل المواطنين، مما فاقم الأزمة بدلا من معالجتها.

رويترز
نظام ضخ مياه يعمل على ضفاف نهر الفرات لري مناطق الأهوار المتضررة من الجفاف في البصرة، العراق، 20 أغسطس 2025

لم يكن غريبا أن تتحول أزمة المياه إلى شرارة احتجاجات شعبية واسعة، فخلال السنوات الأخيرة شهدت البصرة مظاهرات متكررة للمطالبة بتحسين الخدمات وتوفير مياه صالحة للشرب وما زالت حتى اليوم، هذه المظاهرات تعكس حجم الغضب الشعبي من تقاعس الحكومات المتعاقبة عن إيجاد حلول جذرية، ومع تراكم المشكلات الخدمية والأمنية في المحافظة، باتت أزمة المياه أحد أبرز العوامل التي تهدد استقرارها الاجتماعي.

يقطن البصرة نحو خمسة ملايين نسمة، غالبيتهم من الطائفة الشيعية، وقد مرّت خلال السنوات الماضية بمحطات سياسية متقلبة، خضعت فيها لسيطرة قوى وأحزاب مختلفة، بدءا من حزب "الفضيلة" بزعامة رجل الدين محمد اليعقوبي، مروراً بائتلاف دولة القانون برئاسة نوري المالكي، ثم المجلس الأعلى بزعامة عمار الحكيم، واستمرت عند "تيار الحكمة" الذي أسسه الحكيم، أيضا، وفي النهاية، استقر المشهد السياسي منذ عام 2019 تحت إدارة أسعد العيداني، القيادي في حزب "المؤتمر الوطني" الذي أسسه أحمد الجلبي.

لمعالجة أزمة المياه، اقترح العراق على تركيا، زيادة الإطلاقات المائية، مقابل حصول الشركات التركية على عقود داخل العراق

تواجه البصرة اليوم أزمة معقدة تتداخل فيها الأبعاد السياسية والاجتماعية، فالمحافظة تقف على أعتاب صراعات انتخابية محتدمة، حيث تسعى بعض الأحزاب الشيعية إلى استثمار هذه الأزمات لإقصاء المحافظ أسعد العيداني، وإعادة النفوذ إلى تيار الحكمة أو ائتلاف دولة القانون، وإلى جانب ذلك، يبرز عامل آخر يتمثل في تحكم بعض شيوخ العشائر بمصادر المياه العذبة، واستخدامها حصراً لري أراضيهم. وفي المقابل، يفرض العيداني نفوذه على الناشطين من خلال التهديد والاعتقال، عبر تفعيل مذكرات قضائية بحق كل من يعبّر عن موقف صريح تجاه أزمة المياه المتفاقمة.

ولمعالجة أزمة المياه، اقترح العراق على تركيا، زيادة الإطلاقات المائية، مقابل حصول الشركات التركية على عقود داخل العراق، وفقا لوزير الموارد المائية عون ذياب، مشيرا إلى أن الخزين المائي للعراق، يكفي حتى نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وإذا كان الشتاء المقبل قليل الأمطار فنحن في أزمة كبيرة.

أ.ف.ب
تظاهرة في مدينة البصرة جنوب العراق في 29 أغسطس 2022

وأكد أن اللسان الملحي في شط العرب، من الصعب إيقافه، إذ كنا في السابق نواجهه بضخ مياه عذبة من سد الموصل، ولكن حاليا غير قادرين على ضخ مياه عذبة لأنها محدودة.

ويقف العراق في المنطقة الحمراء، في مؤشر الإجهاد المائي الذي يصدره معهد الموارد العالمية، إذ يحتل المرتبة 23 عالميا، وهو مهدد بزوال نهري دجلة والفرات خلال عام 2040. وحتى الآن، لا توجد استراتيجية واضحة لإدارة ملف المياه، ومواجهة التحديات الكبيرة، خصوصا أن معظم البحيرات جفت بشكل كامل، وكذلك الأهوار، كما أصبحت البلاد تعاني من مشاكل في أمنها الغذائي والمائي، وكذلك ارتفاع نسبتي البطالة والفقر، وزيادة المشاكل الاجتماعية.

font change

مقالات ذات صلة