مثقفون عراقيون: التغيّر المناخي تهديد وجودي

AFP
AFP
نهر الفرات بالقرب من جسر للمشاة وسط عاصفة ترابية شديدة في مدينة الناصرية بمحافظة ذي قار جنوب العراق في 23 مايو/ أيار 2022.

مثقفون عراقيون: التغيّر المناخي تهديد وجودي

يشهد العالم اهتماما متصاعدا بالتغير المناخيّ الذي كشّر عن أنيابه في السنوات الأخيرة، وبات شبحا يهدّد الوجود الأحيائي، بمختلف أنواعه على الكوكب، ملقيا بآثاره الكبيرة من خلال ارتفاع حرارة الأرض، وانتشار الحرائق وانحسار الغطاء النباتيّ وتفاقم العواصف الترابيّة وانحباس الأمطار. الأمر الذي دعا المنظمات العالميّة وحكومات الدول الكبرى إلى دراسة سبل خفض النشاط الصناعي وتحديد استعمال الوقود الأحفوري، فضلا عن التزام إنشاء برامج شاملة للتوعية المجتمعيّة والاقتصاديّة، والبحث عن وسائل آمنة وبديلة في الاعتماد على الطاقة.

يقف العراق من بين الدول الخمس الأولى "الأكثر تضررا من التغير المناخيّ"، بحسب بيان منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) وبرنامج الأغذية العالمي في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، إذ يهدّد نهري دجلة والفرات شحُّ الأمطار وكذلك انحراف روافدهما التاريخية من دول المنبع المجاورة، وهذا ما دعا ناشطين بيئيين إلى إطلاق نداء استغاثة قبل أن يصبح النهران أثرا بعد عين ويزولا من خريطة البلاد، كما تتنبأُ دراسات مختصّة.

ولطالما كان الأدب مرآة تعبّر عن واقع الانسان وتطلعاته، ونافذة يطلّ منها على المشكلات التي تواجهه، وليست بعيدة عنا أعمال أدبية طرحت قضايا تمسّ حياة الانسان ومصيره على الكوكب وساهمت في لفت الأنظار إلى الأخطار التي تحيق بحياتنا مثل رواية “عام الفيضان” لمارغريت آتوود و"البحر والصيف" لجورج تيرنر وغيرهما. فما موقف المثقف العراقيّ إزاء خراب الطبيعة العراقيّة المتفرّدة، في لحظة هي مفترق طرق بامتياز.

اللافت أن الأدب العراقيّ لم يقدّم، حتى الآن، ما يوازي جسامة التحدي المناخيّ الذي يحيط بالبلاد. فلم تزل الرواية والشعر والقصة العراقية تتداول موضوعات الإرهاب والعنف والحرب والفساد السياسي وصراع الطوائف، تلك المهيمنات التي باتت مكررة حد الاعتياد منذ التحوّل السياسيّ عام 2003. ربما نستثني من ذلك، وبشكل نسبي، الفن التشكيلي، الذي حاول بعض الفاعلين فيه لفت النظر الى مآسي البيئة المهدّدة.

أليس من الغريب أن بلادا تختنق بالعواصف الترابية (122 عاصفة ترابية خلال 283 يوما في عام 2022)، وتعاني اختفاء الأهوار جراء الجفاف، ونفوق الحيوانات جرّاء تلوث المياه، وتدهور الغطاء النباتي، ولا يجد كتّابها في ذلك كله فاجعة تستحق الكتابة؟ أم أنّ القصائد والحكايات لا تنقذ نهرا من الموت؟

على الثقافة أن تأخذ موقفا حاسما بتحشيد الرأي العام – على الأقل من القرّاء – وجعل الاحتجاج على مظاهر التخلف التي أساءت كثيرا إلى البيئة في طليعة اهتماماتها وفعلها الثقافي

علي سعدون

تيه ثقافي

يقول الشاعر والناقد علي سعدون لـ"المجلة": "إن منتجي الثقافة والأدب في العالم العربي منشغلون بالزخارف والجماليات والبلاغة، ويديرون ظهورهم للقضايا المصيرية"، لافتا إلى أن "العراق وثقافته نموذج شاخص لمثل هذا التيه الفكريّ والثقافيّ، من خلال ثقافة متوارثة يمتد عمقها الى أكثر من ألف عام، هي ثقافة الاتكاء على ماضٍ تصطرع فيه مشكلات تاريخية هائلة، ومن ثم أهدر منتجو الثقافة أعمارهم في تداول الصراعات الثورية والأيديولوجية دون التفكير ولو للحظة واحدة في مصير الإنسانية الذي تعبث به الأقدار والاخطار المتفاقمة بصورة لافتة".

علي سعدون

يعترف سعدون بأن بوصلة الكتابة اليوم "لا تتجه نحو قضايا مهمة مثل البيئة وسلامة الطبيعة في بلادنا". لكنه، في المقابل، يشير إلى الاهتمام المتأخّر بالنقد البيئيّ في عدد من أكاديميات العالم، ما يشي بتغيير ملحوظ في طريقة التفكير والتداول بموضوعات مثلها: "إن استهجان التصحر والتعامل مع موضوعه فنيا وثقافيا من خلال الفن التشكيلي والمسرح والرواية، فضلا عن المؤتمرات الثقافية التي تهتم بعلاقة الشعوب بشح المياه، صارت واحدة من القضايا الساخنة في أدبيات العالم".

ويجزم سعدون، وهو ابن محافظة ميسان التي عانت أهوارها الأثيرة من تدهور شديد في مساحتها في السنوات الثلاثين الأخيرة بفعل عمليات التجفيف تحت حكم البعث والنقص الحاد في منسوب المياه ما بعد 2023، بأن الخراب الثقافي في العراق "يحول دون التفكير الجادّ في معالجة هذه الظواهر التي تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تفكيك خطورتها على الأجيال المقبلة"، ويعتقد بأن "على الثقافة أن تأخذ موقفا حاسما بتحشيد الرأي العام – على الأقل من القرّاء – وجعل الاحتجاج على مظاهر التخلف التي أساءت كثيرا إلى البيئة في طليعة اهتماماتها وفعلها الثقافي. نحتاج إلى كثير من وسائل التعبير الفني في القصة والرواية والشعر لتأكيد رفضنا واستنكارنا كل ما يحطم الطبيعة فيفسد الحياة عن سبق إصرار".

شغلني هذا الموضوع الحسّاس على مستوى مدينتي خصوصا، البصرة، فكتبت العديد من النصوص تحت عنوان "مدينتي"، المدينة الأكثر تأثرا بالتغيير المناخي على مستوى العالم والأشد تلوثا جرّاء دخان الاستخراج النفطيّ

منتهى عمران

تجاهل يستحق الدراسة

تبدي القاصّة والشاعرة منتهى عمران أسفها لتجاهل الأدب العراقي أزمة التغيّر المناخيّ التي تهدّد مصير البلاد وسكّانها على السواء، داعية إلى تسليط الضوء على الأخطار الفادحة التي تنتظر 40 مليون عراقي في حال استمرار التغافل عن الاستغلال النفعيّ لثروات الأرض وإنهاك البيئة بمزيد من التجاوزات المدمّرة لتوازنها الطبيعي: "بشكل عام لا نجد الأدباء مهتمين ولو في الحدود الدنيا بموضوع التغير المناخيّ وتلوث البيئة، هذا التجاهل يستحق الدراسة التفصيلية والعميقة. فالأدباء نتاج بيئة مجتمعهم، ولا يخفى أن الحروب التي عانى منها العراقيون، بالإضافة إلى الحصار الاقتصاديّ لسنوات طويلة، ساهما كثيرا في بناء شخصيّة مرهقة نفسيا واقتصاديا، حتى أصبحت ذات نزعة استسلاميّة تجاه كل ما يحدث حولها من سوء".

منتهى عمران

تؤكّد عمران أن كل ما يحدث من خراب سرعان ما تربطه "الشخصية المرهقة تلك بالحكومة والطبقة السياسية وتحملها مسؤوليته، لذا تجد معظم ما كتبه الأدباء عن الحرب والموت والسياسة مع نوبات عاطفية هنا أو هناك، أو نوستالجيا إلى أيام غابرة بالرغم من سوئها".

يشغل التغير المناخيّ وتلوث البيئة تفكير منتهى عمران، بنت البصرة، المدينة التي تعاني من تبعات استخراج الوقود الأحفوري ومخلفات تكرير النفط، حيث تطوّق المدينة العريقة 300 شعلة نارية تشتعل في آبار الهارثة والرميلة والزبير والسيبة وتتأجّج على مدار 24 ساعة طوال العام، مخلفة انبعاثات هائلة من الغاز السام الذي تسبّب بدوره في ارتفاع نسب الأمراض السرطانية في المدينة 20 % أكثر من معدلاتها بحسب بيان وزارة الصحة العراقية العام الماضي.

تقول عمران لـ "المجلة": "شغلني هذا الموضوع الحسّاس على مستوى مدينتي خصوصا، البصرة، فكتبت العديد من النصوص تحت عنوان "مدينتي"، المدينة الأكثر تأثرا بالتغيير المناخي على مستوى العالم والأشد تلوثا جرّاء دخان الاستخراج النفطيّ:

"صباحنا مختلف

بالدخان

تشاركنا كآبتها

سماء مدينتي.

مات الماء

وحمل الشط جنازته".

AFP
صبي عراقي يجمع الأسماك الميتة في مزرعة سمكية شمال البصرة في جنوب العراق، في 29 أغسطس/ آب 2018.

لشط العرب، النهر التاريخي الذي يتكون من التقاء نهري دجلة والفرات، حكاية أخرى. إذ تعرض على مدار السنوات الأخيرة لتأثيرات ارتفاع اللسان الملحي الآتي من الخليج العربي جرّاء النقص في نسب المياه وقطع روافد الشط، وتبعات تحويل مجرى نهر الكارون شرق المدينة، ما يتسبّب ببيئة قاتلة للثروة السمكية والبساتين على ضفتيه. فضلا عن تلوثه بمياه المجاري الثقيلة والنفايات حتى لم يعد ماؤه صالحا للاستخدام البشري. حال شط العرب المؤسف كان السبب الأول في انتفاضة كبرى في البصرة عام 2018 بعد انتشار تسمم جماعي في المدينة وقتذاك. حمّل المنتفضون الحكومة السبب واتهموها بالإهمال. ترى منتهى المسؤولية مشتركة بين الشعب والحكومة، وتكتب:

"مساء

وقفنا عند الشط

الذي لم يستحم منذ الحرب الأولى

التقطنا الصور وقهقهنا

بدونا كصغار يلاحقون معتوها

يرمونه بالنفايات

ويركضون

حين عدنا إلى بيوتنا

تقيأ الشط علينا من الصنابير".

تتساءل عمران، الناشطة في إدارة الفعاليات الثقافية في البصرة كيف لا يلتفت الأدباء في كتاباتهم إلى غياب الأشجار والزهور التي كانت تملأ شوارع المدينة حتى سبعينات القرن المنصرم: "هذا الغياب ساهم بشكل كبير في تغيير مناخ المدينة. نحن نعيش أزمة حقيقية تؤثر على الصحة العامة. ستلعن الأجيال القادمة من سبقها لعبثها بالطبيعة وتلويث البيئة".

الإنسان قاتل للطبيعة، مرة من أجل حروبه العبثية، ومرة من أجل الآلة الاقتصادية التي حولت الثروة الزراعية والمائية والسمكية إلى ثروة بنوك تعتاش على بقع الزيت والنفط الأسود الذي بسببه جرفت الكثير من البساتين في مسقط رأسي

حامد سعيد

أرشفة المكان

إلى الفن التشكيلي العراقيّ، ونظرته إلى خراب البيئة، يرى الفنان حامد سعيد أن الإنسان لا يستطيع أن يقدّم نفسه بلا إشارة إلى البيئة /الطبيعة بكل تفاصيلها من نهر أو شجرة أو سماء. وفي ظل ضياع كل معالم التعريف بالإنسان العراقي جراء ضياع معالم بيئته التي ينتمي إليها منذ دهور طويلة، لم يعد لتلك العلامات وجود إلا كذاكرة صورية يحتفظ بها من خلال كتاباته أو علامات يجسّدها الفنان التشكيلي في أعماله الفنية كمحاولة لأرشفة المكان وإرضاء غريزة الذاكرة التي كانت تنعم بمناخ معتدل، وسماء صافية وأنهار عذبة، وتنعم ضفافها بمئات أشجار النخيل وظلالها.

حامد سعيد

يشهد سعيد الذي أمضى حياته بين بساتين أبي الخصيب أقصى جنوب العراق، على خراب تلك الجنائن، بسبب حربي الخليج الأولى والثانية تارة، وبسبب الاستغلال النفطي تارة أخرى: "الإنسان قاتل للطبيعة، مرة من أجل حروبه العبثية، ومرة من أجل الآلة الاقتصادية التي حولت الثروة الزراعية والمائية والسمكية إلى ثروة بنوك تعتاش على بقع الزيت والنفط الأسود الذي بسببه جرفت الكثير من البساتين في مسقط رأسي. لقد جعل الانسان من القنوات المائية أوعية لحروبه العسكرية، واستبدل الأشجار بعمارته الكونكريتية، ثم تباكى على الكوكب في خطاباته ومؤتمراته ومنظماته المعنية بالمناخ!".

وفي إشارة بليغة، يخاطب سعيد ذلك الإنسان الذي يستظلّ  شجرة وقت النزهة والتخييم، ثم يوقد النار في جذعها من أجل حفلة شواء، قائلا: "أن تزرع شجرة خير من ألف قصيدة ولوحة".

AFP
صورة جوية التقطت في 23 يونيو/ حزيران 2023 تظهر جفاف أهوار الجبايش في محافظة ذي قار جنوب العراق.

في معرضه الشخصي، "أثر المدينة"، الذي أقامه في أمستردام عام 2018 تناول حامد سعيد الخراب الذي حل بمدينته البكر ذات النخيل والأنهار. وبعد عامين فقط كان معرضه "أشياء تشبه الرسم" فضاء للتعبير عن هوية "المدينة الخضراء" وأثر المكان في تفاصيل العمل الفني. وواصل جهوده تلك في معرضه الشخصيّ الأخير، "لا جاذبية"، في عمّان: "أفرغت في المعرض الأخير ما في جعبتي خارج سطح الكوكب هذه المرة، في الفضاء، حيث لا جاذبية، ولا تجانس بيئيا بين كائنات الطبيعة والأرض الصناعية. لقد أصبحت لا أستشعر المدينة ولم تعد تشبهنا. حين لا تملك عنوانا في الطبيعة، فأينما تسكن أنت غريب".

يبدو أن التغير المناخي لن يؤخذ على محمل الجد حتى يأخذ منحى عنيفا تترتب عليه نتائج كارثية كالمجاعات والأوبئة المرعبة

غسان البرهان

بدوره، يتساءل الكاتب غسان البرهان: "هل تتفاعل الطبيعة مع كتّابنا؟ قد يبدو هذا تعميما ظالما، لكن عشرات المجاميع الشعرية والروايات المهمة تفتقر لمجرد حضور الطبيعة لا أن تكون موضوعا بذاتها".

ويضيف الكاتب الذي يسكن مدينة ذي قار، إحدى أشد مدن العراق تضرّرا من التغيرات المناخية جراء تجفيف الأهوار وتراجع المساحات الزراعية وارتفاع درجات الحرارة فيها: "تحمل الثقافة العراقية اليوم إرث حروب متراكمة ونزاعات وأزمات عنيفة كثيرة، ولهذا يُعتقَد أن الكتابة عن الطبيعة في وقت سال فيه دمٌ، ترف لا يحتمل. أمام هذه الطبقات المتراكمة من القناعات، التي بثتها الأيديولوجيات المتعاقبة، لم تتح الفرصة لإعادة النظر في التصوّرات المفروضة على سوق الكتابة، ولا عن أهمية الطبيعة داخل المتن الأدبي".

غسان البرهان

ويؤكد البرهان: "يبدو أن التغير المناخي لن يؤخذ على محمل الجد حتى يأخذ منحى عنيفا تترتب عليه نتائج كارثية كالمجاعات والأوبئة المرعبة. غير هذا، ففرص حصول هذا الموضوع على اهتمام الكتاب العراقيين مرهون بالمنح الأدبية والجوائز شرط أن تكون بثقل نظيرتها المتعلقة بدعم الأقليات والملفات التي تحظى بتمويل مالي كبير".

ويضيف أن "الأصوات الأدبية المسموعة في ذي قار، مثل غيرها، خاضعة لقناعات سوق الكتابة، فتوظيف الطبيعة لا يأتي لذاته، بل لأغراض أخرى، كالفخر بالهوية أو التعبير عن المظلومية. أما مسألة جفاف أهوار المحافظة، فكان لفن التصوير الفوتوغرافي أو الخط العربي فيها، حضور لافت ومهيمن يفوق بكثير حضور الأدب".

font change

مقالات ذات صلة