أزمة شح الموارد المائية المتفاقمة في العالم العربي

تهدد مشكلة ندرة المياه المتفاقمة كثيرا من دول العالم العربي في الوقت الذي يكافح فيه العراق للتخطيط للمستقبل

AFP
AFP

أزمة شح الموارد المائية المتفاقمة في العالم العربي

بغداد- "ماء بارد! ماء بارد!" هكذا كان الأطفال الصغار يصيحون وهم يندفعون هنا وهناك بنعالهم البالية، يلوحون بزجاجات ماء صغيرة وسط الزحام المروري وعند حواجز التفتيش الترابية على طول الطرق السريعة الرئيسة التي تأخذك إلى مدن أخرى.

ويتنافس الرجال الأكبر سنا والعاطلون عن العمل، ببشرتهم المسمرّة بفعل أشعة الشمس، على الزبائن، في حين تقف سيارات الأجرة التي تبث الدخان بنوافذ لا تُغلق، وبالقرب منها تقف سيارات الدفع الرباعي الضخمة دون حراك، والتي نادرا ما تفتح نوافذها، بينما تهدر مكيفات الهواء بقوة داخلها.

لعدة أشهر في كل عام، تزيد درجات الحرارة على 40 درجة مئوية في معظم أنحاء العراق. ويتجاهل كثير من الموجودين في العاصمة أولئك الذين يعانون من أزمة المياه المتفاقمة سواء في العاصمة أو في جميع أنحاء المنطقة، إذ يظل الذين لا يملكون القدرة على الهجرة بعيدين عن الأعين، وبعيدين عن القلوب.

وفي أغسطس/آب 2021، أعلنت الأمم المتحدة أن "قرابة 3 من بين كل 5 أطفال في العراق لا يحصلون على خدمات الماء الآمن، كما أن أقل من نصف المدارس في عموم البلد تمتلك خدمات الماء الأساسية" مشيرة إلى أن ذلك يشكل خطرا جديا على "صحة الأطفال، ويهدد تغذيتهم، ونموهم المعرفي، وسبل عيشهم المستقبلية".

كما تؤدي الهجرة الداخلية الناتجة عن جفاف وتلوث الأهوار الجنوبية في العراق ومناطق أخرى من البلاد إلى مزيد من الضغط على البنية التحتية للمياه في المناطق الحضرية المتضررة أساسا.

هل تنذر الاحتجاجات على شح المياه بصراع أوسع؟

تتباطأ المياه في الصنابير في كثير من منازل بغداد خلال أشهر الصيف، في حين تنتشر رائحة الصرف الصحي في الهواء في كثير من المناطق القريبة من نهر دجلة الذي يتدفق بينها.

وفي البصرة، المدينة العراقية الجنوبية الغنية بالنفط، اندلعت احتجاجات دامية في السنوات الأخيرة بسبب أزمة المياه. وذكر تقرير نشرته منظمة "هيومن رايتس ووتش" في يوليو/تموز 2019 أنه "مع أن تدهور مصادر المياه في البصرة يعتبر مشكلة مستمرة منذ عقود، إلا أنه أصبح أزمة متكاملة في صيف 2018، عندما نُقل 118 ألف شخص على الأقل إلى المستشفى بسبب أعراض حددها الأطباء على أنها متصلة بنوعية المياه".

AFP
قارب عالق في مجرى نهر انخفض منسوبه بشدة خلال الأعوام الماضية في أهوار محافظة ذي قار جنوب العراق

ونشرت مجلة الطب البريطانية "بي إم جي" (BMJ) في مارس/آذار 2023، تقريرا بعنوان "عدم توافر المياه بحلول عام 2040: الأزمة التي تجتاح العراق وتدفق نهره التاريخي"، أشار إلى أن "90 في المئة من سكان البصرة (...) لم يحصلوا على مياه عذبة آمنة في صيف عام 2018".

يبدو أن سلسلة من التقارير التي ظهرت في وسائل الإعلام الدولية في السنوات الأخيرة وركزت بشكل كبير على جفاف الأهوار في جنوب العراق أدت إلى بضع مبادرات فعّالة، في حين يحذر الخبراء من أن الوقت ينفد. وفي الوقت نفسه، يهدد النزاع المسلح المحتمل بسبب إمدادات المياه معظم العالم العربي وحدوده الشرقية غير المستقرة.

المقرر الخاص للأمم المتحدة يلغي زيارته إلى سوريا

كثيرا ما يُحرم الصحافيون والخبراء الدوليون من الوصول المستقل إلى المناطق التي تعاني من ندرة المياه والمتأثرة بالصراع، ما يجعل الحصول على معلومات موثوقة أمرا شاقا للغاية.

عبر الحدود الغربية للعراق، لا يزال جزء كبير من سوريا ثقبا أسود بالنسبة للمعلومات. وغالبا ما يتم تشويه التقارير عن القضايا التي تمس السكان لأغراض سياسية وأغراض أخرى من قبل المسؤولين عن الدولة المجزأة التي مزقتها الحرب.

ووفقا لبيان صحافي صادر في 11 يوليو/تموز، فإن "المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان في الحصول على مياه الشرب الآمنة والصرف الصحي، بيدرو أروخو أغودو، اضطر لتأجيل زيارته إلى الجمهورية العربية السورية والمقررة للبدء في 9 يوليو/تموز، وذلك نظرا لعدم حصوله على تعاون كامل من قبل الحكومة".

تؤدي الهجرة الداخلية الناتجة عن جفاف وتلوث الأهوار الجنوبية في العراق ومناطق أخرى من البلاد إلى مزيد من الضغط على البنية التحتية للمياه في المناطق الحضرية المتضررة أساسا

وأضاف بيان الأمم المتحدة الصحافي: "كانت زيارة أروخو أغودو ستوفر أول فرصة لخبير الأمم المتحدة المستقل لفحص أوضاع مرافق المياه والصرف الصحي بشكل مباشر في مواقع مختلفة وتحليل التحديات والممارسات الإيجابية فيما يتعلق بالحصول على هذه الحقوق".

وأشار البيان إلى أنه "عندما تدعو الحكومات مقررين خاصين من الأمم المتحدة للزيارة، يتعيّن عليها ضمان وتسهيل حريتهم في اختيار من سيلتقون وأين سيسافرون". وقال أروخو أغودو أيضا: "على الرغم من جهودي المتواصلة، إلا أنني أشعر بالأسف لأن السلطات لم تقدم المعلومات أو تتخذ الخطوات اللازمة لإتمام هذه الزيارة".

وفي الوقت نفسه، أشار تقرير نشر في "نيتشر كوميونيكيشنز" في 23 مايو/أيار إلى أن "البصمة المائية لنزوح اللاجئين زادت بنحو 75 في المئة على مستوى العالم بين عامي 2005 و2016"، مشيرا إلى أن "اللاجئين ربما ساهموا بما يصل إلى 75 نقطة مئوية من الإجهاد المائي في الأردن".

وأضاف التقرير: "تسبب التخلي عن الزراعة المروية في جنوب سوريا خلال الحرب الأهلية الأخيرة في مضاعفة حجم تدفق الأنهار إلى مصباتها في الأردن، مما يشير إلى أن تأثير النزاعات المسلحة على الموارد المائية يمكن أن يمتد خارج الحدود على طول المجاري المائية الدولية. ومع ذلك، فإن هذا التأثير على توفر المياه ليس سوى نصف القصة، إذ تسبب النزاع أيضا في هروب ما لا يقل عن 1.1 مليون لاجئ سوري عبر الحدود إلى الأردن، مما زاد الضغط على الموارد المائية الشحيحة أصلا في البلاد". وبالتأكيد، ستساهم هذه الزيادة في المنافسة على الموارد المتناقصة في خلق توترات مع السكان المحليين.

في البصرة، المدينة العراقية الجنوبية الغنية بالنفط، اندلعت احتجاجات دامية في السنوات الأخيرة بسبب أزمة المياه

مزيد من الصراعات

غالبا ما أدت النزاعات على المياه إلى صراعات كبيرة وصغيرة في جميع أنحاء المنطقة. فوفقا لتقرير أعدته وكالة أخبار "إيرين" (IRIN) والتي كانت جزءا من مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، في يونيو/حزيران 2011، "اقتحم مسلحون منزل فيصل حسن في غرب بغداد وقتلوه كما قتلوا زوجته وطفليه الصغيرين. لم يكن الدافع طائفيا أو سياسيا أو حتى اقتصاديا– ولكنه كان متعلقا بالمياه".

وأضاف التقرير أن الأب كان ثالث موظف في إدارة الري يتم قتله في منطقة أبو غريب غرب بغداد في تلك الفترة. وأشار التقرير إلى أن الإدارة كانت تشرف على توزيع المياه الحكومية على الأراضي الزراعية في المنطقة ومحيطها.

وفي عام 2008، وفقا لتقرير استشهد ببيانات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أنفق كثيرا من العراقيين ثلث دخلهم على شراء مياه الشرب.

وبعد ما يزيد على عقد من الزمن، وفي عام 2021، اكتشف المجلس النرويجي للاجئين أن العائلات في العراق "تنفق بانتظام ما يصل إلى 80 دولارا شهريا على شراء المياه الصالحة للشرب"، حيث يبلغ متوسط الراتب الشهري في البلاد 515 دولارا بينما يبلغ الحد الأدنى للأجور 181 دولارا.

dpa
تتعرض دول عربية لموجات حر أكثر شدة من الأعوام الماضية بسبب التغير المناخي

ويبدو أن صراعات أكبر حول المياه تختمر في البلدان المجاورة للعراق أيضا؛ إذ اندلعت في الأشهر الأخيرة على الحدود الشرقية لإيران اشتباكات مسلحة مع طالبان مرتبطة أيضا بإمدادات المياه.

خفضت إيران بشكل كبير في السنوات الأخيرة تدفقات المياه من جانبها إلى العراق. وفي أبريل/نيسان 2022، نقلت قناة "العربية" الإخبارية عن وزير المياه العراقي في ذلك الوقت قوله إن إيران قطعت 90 في المئة من المياه المتدفقة إلى العراق، مما أدى إلى انخفاض بنسبة 20 في المئة في إجمالي موارد العراق المائية. وهددت الوزارة باتخاذ إجراءات قانونية ضد إيران.

القضايا العابرة للحدود والجماعات الإرهابية

حاولت مؤتمرات كثيرة الجمع بين ممثلين من مجموعة واسعة من البلدان في المنطقة وخارجها لمناقشة هذه القضايا وتعزيز تعاون أكبر فيما بينها.

وتحدثت "المجلة" إلى علي محمود حرسي، رئيس دائرة المياه في وزارة الموارد المائية والطاقة في الصومال، خلال المؤتمر الدولي الثالث للمياه في بغداد في مايو/أيار 2023 حول قضايا المياه وفائدة جلب ممثلين من جميع أنحاء العالم لمناقشة هذه القضية في العاصمة العراقية من حيث تعزيز التعاون.

وفي رد عبر البريد الإلكتروني على أسئلة المتابعة، أشار إلى أن "الصومال انخرطت في تعاونات متعددة في مجال المياه العابرة للحدود مع البلدان المجاورة. وأبرز هذه التعاونات كان تعاونها مع إثيوبيا من خلال منظمات أحواض الأنهار المشتركة، حيث يشمل التعاون تبادل المعلومات، والرصد المشترك، ووضع اتفاقيات لضمان الاستخدام العادل والحفاظ على المياه العابرة للحدود". وأشار أيضا إلى أن "الاضطرابات الأخيرة التي شهدتها إثيوبيا أثرت سلبا على الصومال". وأضاف: "لربما أثر انقطاع طرق التجارة والتحركات عبر الحدود على توافر الموارد المائية في مناطق معينة. ولربما زاد نزوح الأشخاص من إثيوبيا إلى الصومال بسبب النزاع من الضغط على موارد المياه في المجتمعات المضيفة".

في عام 2008، وفقا لتقرير استشهد ببيانات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أنفق كثيرا من العراقيين ثلث دخلهم على شراء مياه الشرب

كما أوضح حرسي لـ"المجلة" قائلا: "علاوة على ذلك، فإن للصراع مع حركة الشباب تداعيات كبيرة على موارد المياه في البلاد. إذ استهدفت حركة الشباب البنية التحتية للمياه، مثل الآبار وأنظمة توزيع المياه، مما تسبب في الضرر وتعطل إمدادات المياه للمجتمعات، وأدى الصراع إلى نزوح السكان".

التوصل إلى اتفاقية طويلة الأمد يبدو بعيد المنال

في شهر مارس/آذار، أصبح العراق أول دولة عربية تنضم إلى اتفاقية الأمم المتحدة للمياه. وقال وزير المياه العراقي السابق، حسن الجنابي، لـ"المجلة" إنه وزملاءه بذلوا جهودا كبيرة للانضمام إلى اتفاقية المياه التابعة للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا (UNECE) (هلسنكي 1992) "قبل فترة طويلة من فتح إمكانية الانضمام لعضويتها أمام العالم في اجتماعها السادس الذي عقد في روما عام 2012.

وأشار الجنابي إلى أنه كان في ذلك الوقت الممثل الدائم للعراق لدى وكالات الأمم المتحدة في روما، و"عندما أصبحت عضوا في مجلس الوزراء العراقي اتخذنا قرار الانضمام إلى الاتفاقية في عام 2017 ثم صادق البرلمان العراقي على الانضمام بعد ذلك".

وأضاف أن "وجود العراق في منصة عالمية تملك أمانة دائمة وسجلا جيدا في حل النزاعات المتعلقة بالمياه عبر الحدود بناء على المبادئ الدولية لقانون المياه يصب في مصلحة العراق".

وحول قضية تركيا وتقاسم مياه نهري دجلة والفرات، قال الجنابي لـ"المجلة": "لقد تمكنت من تطوير- والحفاظ على- مستوى عال من الثقة المتبادلة مع نظرائي الأتراك في مناقشة قضايا المياه العابرة للحدود بطريقة بناءة للغاية" خلال فترة عمله سفيرا للعراق في تركيا في 2019-2020. وقال إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان "طلب مني بنفسه العمل بجد مع مبعوثه الخاص للمياه إلى العراق" وأنه والمبعوث التركي "طوّرا خارطة طريق للتعاون الثنائي".

وأضاف الجنابي أنه "أراد تمهيد الطريق لاتفاق طويل الأمد مع تركيا يتم فيه الحفاظ على مصالح العراق وكذلك المصالح التركية واحترامها"، ولكن حتى الآن "فإن هدفنا في توقيع اتفاقية طويلة الأمد لتقاسم المياه لا يزال احتمالا بعيد المنال". وقال أيضا: "لكن، في الوقت الحالي، نعتبر التعاون التقني مع تركيا وسيلة جيدة للمضي قدما".

دور الزراعة والتقاليد

عالميّا، تعتبر الزراعة العامل الأكبر في ندرة المياه. إذ أشار تقرير صادر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) في مارس/آذار 2019 إلى أن "الزراعة تشكل سببا رئيسا في ندرة المياه وهي تعاني من هذا النقص في الوقت نفسه. إذ تشكل نحو 70 في المائة من جميع عمليات ضخّ المياه، وتصل إلى 95 في المائة في بعض البلدان النامية".

وشددت المنظمة، كما فعلت لعقود في تقارير مختلفة، على أهمية خفض استهلاك اللحوم. وقالت المنظمة في تقريرها: "هل تعلم أن محاصيل البقول لها بصمة مائية صغيرة تعني أن إنتاج كيلوغرام واحد من العدس لا يحتاج إلاّ إلى 1250 لترا من الماء؟ قارن هذا بكمية 13 ألف لتر من الماء اللازمة لإنتاج كيلوغرام واحد من لحم البقر". ومع ذلك، فإن أي محاولة لتغيير العادات الغذائية وغيرها من العادات القديمة تُواجَه عادة بمقاومة هائلة.

يبدو أن صراعات أكبر حول المياه تختمر في البلدان المجاورة للعراق أيضا؛ إذ اندلعت في الأشهر الأخيرة على الحدود الشرقية لإيران اشتباكات مسلحة مع طالبان مرتبطة أيضا بإمدادات المياه

وأشار مقال نشرته صحيفة "الغارديان" عام 2010 بعنوان: "اليمن مهدد بتدمير نفسه بسبب إدمانه على نبات القات المخدر"، إلى أن "الحل الأفضل، كما يتفق الجميع، هو الحد من زراعة القات، الذي يمتص الحصة الأكبر من المياه. لكن هذا الأمر يشكل أيضا مشاكل اجتماعية وسياسية، وفقا لمقال "الغارديان"، ففي بلد "يكسب فيه نصف السكان أقل من دولارين في اليوم، توفر زراعة القات كثيرا من الوظائف".

وأكد تقرير صدر في مارس/آذار 2023 أن موارد المياه الجوفية المتناقصة في اليمن، "تهدد بشكل مباشر الإنتاج الزراعي لأن القطاع يمثل 90 في المئة من ضخ المياه، أما الاستخدام البلدي والصناعي فيمثلان 8 في المئة و2 في المئة على التوالي".

وأضاف التقرير أن الأبحاث التي أجرتها جامعة صنعاء "وجدت أن حوالي 70 إلى 80 في المئة من النزاعات في اليمن تدور حول المياه. وعادة ما يتم تجاهل الفقراء والضعفاء في هذه النزاعات مما يجعلهم عرضة لانعدام الأمن الغذائي والتغذية. كما لا تُستثنى النساء من العبء الأكبر من انعدام الأمن الغذائي والتغذية الناجم عن ندرة المياه، إذ تقطع النساء والأطفال مسافات طويلة بحثا عن المياه، وهم أيضا الضحايا في أي نزاع يندلع بسبب المياه". وتنطبق الجملة الأخيرة على المنطقة العربية بأسرها، وبقية أنحاء العالم أيضا.

font change

مقالات ذات صلة