رسالة إلى رزان زيتونة

رسالة إلى رزان زيتونة

استمع إلى المقال دقيقة

عزيزتي رزان، أكتب إليك في الذكرى الثانية عشرة لمجزرة الكيماوي 21 أغسطس/آب 2013 التي كنت شاهدة عليها قبل اختطافك في دوما مع رفاقك في مركز توثيق الانتهاكات. كل سوريا في هذه الفترة تختنق وتبحث عن الأكسجين في إعادة لتمثيل المجزرة، والعدالة أيضا كطرف من أطراف المأساة تبحث معنا. تمر الذكرى وأنت مغيبة. ونصك الأخير قبل تغييبك، "الطريق"، لا يزال يخط طريق الحقيقة.

الدافع إلى هذه الرسالة هو أنني أردت أن أكتب إليك في الذكرى الأولى لمجزرة الكيماوي بعد سقوط الأسد. بالتأكيد أخبرك الجميع بذلك. هروبه كان هدية رأس السنة، كنا نعيد ونكرر كي نصدق، الأسد هرب، لم تحتج الحقيقة إلى تكرار؟

هل كنت تكررين البحث مرات ومرات قبل أن تتثبتي من الحقيقة؟ هل كنت تمتلكين المسافة بين المجزرة والمجزرة قبل أن توثقي معلومة أو انتهاكا أو خبرا أو تقيمي الجسور، جسور الشجاعة والفكر الحر والأمل.

أعيدها، هي الذكرى الأليمة المريرة الأولى لمجزرة الكيماوي على سوريا وعلى الغوطتين... وسوريا بلا الأسد. في ذلك اليوم، يوم هروبه، استقبل السوريون السوريين في ساحة الأمويين وكانت أياما لا توصف من أفراح لا توصف. صارت لنا ساحات نحتفل فيها. كان السوريون في كل من الوطن والمنافي شعبا واحدا.

هل كنت تمتلكين المسافة بين المجزرة والمجزرة قبل أن توثقي معلومة أو انتهاكا أو خبرا أو تقيمي الجسور، جسور الشجاعة والفكر الحر والأمل

لمَ الرسائل؟ يقول الإنسان في رسالته ما ينتقي من نفسه للآخر. طالما كتب الناس للناس بلا ورق. الرسالة إلحاح الزمن، حملها الحمام الزاجل في لحظة كي يخترق الغياب. كتبت الشاعرة الأميركية إيميلي ديكنسون رسائل إلى أصدقائها. كانت تحتاج إلى أن تقول أشياء سعيدة ومفتوحة وتعبر عن حاجتها إلى العزلة والوحدة عن الكون، فالتواصل في هذه الحالة يكون في أشد حالاته كثافة.

في رسالة مؤرخة 16 مايو/أيار 1848 إلى صديقتها آبيا كتبت: "كلما تقدمت في العمر يا آبيا أحببت الربيع أكثر وورود الربيع، وأنت؟"، وفي مكان آخر كتبت: "لا نعرف كيف تهطل السعادات على الأرض بلا سبب؟".

دفعني هذا إلى الكتابة إليك، نحن نستطيع أن نكتب عن أشياء جميلة ومفتوحة على التأمل ولا تستدعي القهر من دون أن نتنكر للحقيقة، بل هي من معين الحقيقة. أحب أن تكون رسالتي إليك كورد الربيع أو كالمطر.

بكينا بالتأكيد. وغنينا في ساحة الأمويين وفي كل الساحات في سوريا، وشعرنا أنها بداية جديدة، نبتة العدالة لعلها تزهر في القلوب.  رغم كل ما ابتلينا به غمرنا الفرح. وكنت الغائبة الحاضرة. أجيال جديدة، صبايا وشباب يا رزان، يربون الأمل. كانت ساحة الأمويين عرسا لفرح غيب أربعة عشر عاما، فرحا فيه الوعود للذات الفردية والجمعية بالعمل كي لا تحزن هذه البلاد من جديد وكي تصان كرامات أهلها وسعاداتهم وسلمهم الأهلي. كم دفعوا للوصول إلى هذه اللحظة.

نحن محكومون بالحرية بحسب جان بول سارتر، نحن محكومون بالأمل بحسب سعد الله ونوس. لا بد أن الأصدقاء أخبروك بكل شيء حتى اللحظة. أعتذر يا رزان تأخرت العدالة. سأنتقي لك الفرح، الفرح حاجة. وفي يوم ما سيكون حقيقة، فلمَ أنتظر؟

ليتني أستطيع أن أقول لك إن فلسطين أرض الشعر تحررت. قصفوا المكان ولم يقصفوا الشعر كما قال شاعر يحيا الآن في غزة بين الرصاصة والرصاصة

ليتني أستطيع أن أقول لك إن فلسطين أرض الشعر تحررت. قصفوا المكان ولم يقصفوا الشعر كما قال شاعر يحيا الآن في غزة بين الرصاصة والرصاصة. هناك شاعرات شابات رائعات في غزة. أعرف أنك تحبين الشعر. هذه قصيدة لهند جودة:

لا سكر في المدينة

أريد أن أخبز كعكة ولا سكر في المدينة

لا ابتسامات تهطل في الوجوه العابرة

لا شرفات تطل على الأحلام

والنوافذ لم تعد إلى أماكنها منذ آخر الحروب

أريد أن أخبز رغيفا ولا قمح في الحقول

لا يوجد سوى فزاعة متهالكة ترهب الفلاحين ولا تخيف الغراب

أريد أن أخبز قمرا

ولا فرن يتسع لاستدارته الشاهقة

لذا، قررت أن ألتهم قلبي نيئا

فلا نار في المدينة".  

لا تحزني يا رزان، ومن يجرؤ على حرمان الجمال من أحزانه. سأحاول أن لا أكرر ما قاله لك الأصدقاء، أعرف كم تحبين الخلوة والسينما أيضا والأدب.

طالما قرأت نصك الأخير "الطريق" الذي كتبته بعد مجزرة الكيماوي في الغوطة قبل إخفائك أنت وفريق مركز توثيق الاتتهاكات الأحبة سميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي والقطة التي كانت تظهر معكم في كل الصور. أنت تحفرين الأمل في هذا النص كالمعاول التي تحفر الطريق ليصير سالكا.

"الطريق طويل لا يضيئه إلا الإيمان وما تبقى من حلم. لا وقت للكثير من الحزن. في نهاية الطريق فردوس موعود وعد بحياة تشبه قليلا الحياة. شيء من الدفء من الشبع من الشفاء".. إلى آخر النص.


أود أن أخفي بعض الحقائق ولو للحظات كي لا توجعك رسالتي. ليتني أستطيع أن أقول لك إن سوريا تنعم الآن بالسلم والأمان والاقتراب من حلمك، لكن العدالة تأخرت يا رزان

تتحدثين فيه عن تجار الدم الذين تكدست رفوف مخازنهم بالطعام المسروق فعاقبهم الأهالي ولم يشتروا منهم. وثقت الحقيقة بشجاعة وبلا انحياز، دافعت عن الجميع من جميع الأيديولوجيات والمغايرين لقناعاتك بذات الإخلاص يوم أقسمت القسم كمحامية أو كمناضلة أو كمدافعة عن حقوق الإنسان أو كإنسانة نادرة في لطفها وشجاعتها ونبلها.

أود أن أخفي بعض الحقائق ولو للحظات كي لا توجعك رسالتي. ليتني أستطيع أن أقول لك إن سوريا تنعم الآن بالسلم والأمان والاقتراب من حلمك، لكن العدالة تأخرت يا رزان. لعلها تصل.

هل تتذكرين الفيلم الألماني "وداعا لينين" (2003) لفولفغانغ بيكر الذي يرصد التحولات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على سكان ألمانيا الشرقية عقب سقوط جدار برلين. أخفى أليكس عن أمه أنه أثناء غيبوبتها سقط الجدار.

تغزو الرأسمالية تفاصيل الحياة اليومية، تغزو الرموز الجديدة الأماكن الأكثر خصوصية فبينما الأم على سريرها في غرفتها ينسدل أمامها على إحدى البنايات وراء النافذة إعلان كوكا كولا. لذلك كان على أليكس أن يهيئ لأمه جمهورية اشتراكية لها وحدها في غرفتها خشية أن تتعرض إلى جلطة جديدة باكتشافها أن الحلم الذي عاشت على أفكاره منذ الشباب قد تبخر.  

حكينا عن الفيلم ذات لحظة وتأملنا ذلك اليوم فكرة استبدال الحقيقة بحقيقة. تعالي نشاهده اليوم من جديد.

font change
مقالات ذات صلة