غزة: السكوت عن الإبادة مدخل لشرعنة العنف

غزة: السكوت عن الإبادة مدخل لشرعنة العنف

استمع إلى المقال دقيقة

منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تعمل آلة الحرب الإسرائيلية على تحويل غزة إلى مكان لاختبار أدوات العنف الوقح، مما يجعل استنساخ "المختبر" وتعميم "تجاربه" في أماكن أخرى من العالم وعلى يد قوى أخرى، احتمالا موجبا، وهذا ينذر بمزيد من تراجع فرص تحقيق العدالة، ويقدم نموذجا استقوائيا استبداديا يجعل العنف أمرا طبيعيا، فتفقد المؤسسات الدولية– كالأمم المتحدة– فعاليتها، وتصبح أولى ضحاياه هي الإنسانية نفسها.

فحرب الإبادة في غزة لم تعد مجرد أزمة إنسانية فحسب، بل غدت رمزا لتناقضات العالم وتحديا لقيمه المعاصرة، وما أوصلها إلى هذه النتيجة هو استمرار العنف دون توقف منذ ما يقارب العامين، مقرونا بتجاهل للحق الفلسطيني التاريخي، وانعدام فعالية الأطر القانونية في حماية المدنيين، وتخاذل المجتمع الدولي.

نجح العنف الإسرائيلي في غزة في تبرير نفسه تحت عناوين الدفاع عن الأمن والوجود، ومنعا لتكرار المأساة التاريخية (الهولوكوست) وتمكن حتى الآن من استخدام هذه المخاوف كذرائع لارتكاب جرائم إنسانية أكثر فظاعة مما في ذاكرته، والأخطر أنه استطاع خلق حالة من التأييد والتبرير على صعيد سياسي عالمي، إضافة إلى نوع من اللامبالاة القاسية على مستوى الشعوب، في المقابل ظل التعاطف مع الضحايا الحقيقيين مشروطا ومؤقتا، يظهر من حين لآخر على شكل استفاقات ضميرية فجائية، أو مظاهرات هادرة واستعراضات فنية.

يجوز وصف محدودية التفاعل مع ما يجري في غزة بـ"الخدر العاطفي"، الذي ينتج عادة من تكرار المشهد: قصف إسرائيلي عنيف، غارة على مدرسة نازحين، استهداف مستشفى، قنص أطفال، إطلاق النار على طالبي المساعدات، اغتيال صحافيين، يتبعها قائمة جديدة بأسماء القتلى والجرحى، وإدانات، وقلق أممي، ونقاشات على الشاشات، ومقالات...

تكرار مشاهد الموت وتفاصيله وطقوس إنكاره المملة أو إدانته، يجعل مشهد العنف اعتياديا ويضفي عليه نوعا من المقبولية والطبيعية!

لكن الخدر العاطفي لا يفسر بالتكرار أو التعود فقط، ما يعزز وجوده، هو شعور عام بقلة الحيلة وعدم الجدوى من أي ردة فعل، كون "الحدث" يحتاج إلى إرادة سياسية دولية لإيقافه، وما يزيد من تفاقم هذا الشعور، أنه لم يعد نتيجة موقف القوى السياسية والمجتمعات العالمية المؤيدة لإسرائيل، بل لانحياز الكثير من الشخصيات الفكرية والفنية والإعلامية المؤثرة إلى رواية العنف.

ففي الكثير من المناظرات والمقالات والمقابلات الصحافية في الإعلام العالمي، يتكرر تحميل الجانب الفلسطيني المسؤولية الكاملة عن الإبادة المستمرة في غزة، كردة فعل على ما ارتكبته "حماس"، وفي حين تبرز عبارة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، كلازمة، هناك تجاهل تام لوجود عمليات قتل جماعي بحق الغزيين.

هذا يؤكد كيف يمكن أن يقود التقوقع داخل الذاكرة التاريخية (الهولوكوست) إلى انعدام حساسية عميقة للناجين منها تجاه الحاضر الدموي. فالذاكرة إذا استُخدمت كأداة للسيطرة السياسية، قد تتحول من وسيلة للدفاع عن الوجود إلى أداة لتبرير العنف.

تُظهر التجربة التاريخية أن الدولة القومية التي تُبنى على ذاكرة إبادة جماعية، غالبا ما تقع في خطيئة تشويه هذه الذاكرة وتبريرها، وتوظيفها لإنتاج عنف جديد ضد الآخرين. صون الذاكرة ومنع تكرار المأساة الجماعية مسؤولية المجتمع لا الدولة، إذ إن الأخيرة قد تستغلها لممارسة العنف وتبريره، وصولا إلى ارتكاب الإبادة الجماعية، وهذا ما تفعله حكومة نتنياهو في غزة.

ما تشهده غزة هو الإبادة الجماعية المكتملة الأركان، التي لم تعد بحاجة إلى شرح ولا توضيح: العقاب الجماعي، وعدم التفريق بين عسكري ومدني، وتجريد السكان من إنسانيتهم، وتدمير ذاكرتهم الجماعية

عدا أن المعنى الدقيق للإبادة الجماعية لا يتعلق بمجموع القتلى فقط، فلا يوجد رقم يحدد ما إذا كانت أعمال القتل ارتقت إلى مستوى الإبادة الجماعية، بل حين يصر طرف على إنكار الارتباط العضوي لشعب ما بأرضه وثقافته وإنكار إنسانيته، تحدث الإبادة الجماعية، وهذا يتجلى واضحا في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، بوصفهم الغزيين تارة بالحيوانات البشرية، وتارة أخرى بالدعوة إلى إفنائهم بقنبلة نووية، وكذلك في خطط تهجيرهم إلى مصر أو الأردن، وفي إعلان "إسرائيل الكبرى".
بهذا، فإن ما تشهده غزة هو الإبادة الجماعية المكتملة الأركان، التي لم تعد بحاجة إلى شرح ولا توضيح: العقاب الجماعي، وعدم التفريق بين عسكري ومدني، وتجريد السكان من إنسانيتهم، وتدمير ذاكرتهم الجماعية، وتحويل تجمعاتهم إلى أماكن غير صالحة للسكن. 
أما السكوت عنها فهو تحد صارخ للإنسانية وللعدالة وللقانون الدولي، قد يدفع في المستقبل إلى تشكيل شرعة عالمية جديدة، تكون مدخلا لشرعنة العنف، وذريعة لشن الكثير من الحروب والاحتلالات والإبادات الجماعية في كل مكان وضد أي جماعة بشرية.

font change