أداء "مصدر" الاماراتية مرآة الزخم الخليجي في الطاقة المتجددة

التحول إلى المصادر المستدامة وتحقيق الأرباح هما هدفان لا يتعارضان

.أ.ف.ب
.أ.ف.ب
مجسم مزرعة للطاقة الشمسية في جناح مدينة "مصدر" في معرض القمة العالمية للطاقة، أبوظبي، 18 يناير 2012

أداء "مصدر" الاماراتية مرآة الزخم الخليجي في الطاقة المتجددة

تأسست "مصدر" عام 2006 من ضمن جهود دولة الإمارات العربية المتحدة لتنويع انتاج الطاقة في البلاد وتقديم دورها كطرف فاعل في مكافحة تغيّر المناخ. وعلى مدى معظم الفترة منذ تأسيسها، حظيت الشركة بإعانات حكومية، إذ كانت الربحية هدفا ثانويا مقارنة بالطموح والحضور في سوق الطاقة المتجددة. لكن ذلك تغير عام 2024 حين أعلنت "مصدر" عن صافي أرباح بلغ 412 مليون درهم (112 مليون دولار)، بعدما تكبدت خسارة مقدارها 45 مليون درهم (12 مليون دولار) في العام السابق. هذا التحول جاء نتيجة الانضباط في إدارة التكاليف، والمشتريات الاستراتيجية، والنضج التشغيلي لعدد من المشاريع الكبرى.

يؤدي خفض التكاليف المباشرة دورا محوريا في تحسين أداء الشركة المالي، ويساهم التقدم في تكنولوجيات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، إلى جانب الكفاءة في سلاسل الإمداد العالمية، في خفض تكلفة نشر البنية التحتية للطاقة المتجددة. وتستجيب "مصدر" لذلك عبر ضبط تكاليفها وإبرام اتفاقات طويلة الأجل لشراء الطاقة تساهم في استقرار تدفقات الإيرادات. وكثيرا ما تتمتع هذه الاتفاقات بدعم من ضمانات سيادية أو ضمن أطر متعددة الأطراف، مما يوفر الاستقرار المالي اللازم للانتقال من نموذج يحظى بإعانات حكومية إلى نموذج مستدام تجاريا.

توسع في آسيا الوسطى وأفريقيا

تتزامن ربحية "مصدر" مع توسعها في الأسواق الناشئة. خلال السنتين المنصرميتن، وسعت الشركة حضورها في آسيا الوسطى وأفريقيا جنوب الصحراء وجنوب شرق آسيا. هذه المناطق توفر بيئات تنظيمية مؤاتية وتكاليف أقل للمشاريع، مما يولد فرصا للنمو والتأثير. في زرافشان بأوزبكستان، تطور "مصدر" مزرعة رياح بقدرة 500 ميغاواط – هي الكبرى في آسيا الوسطى حتى الآن – وباستثمار مقرر يتجاوز 600 مليون دولار. وفي غاراداغ بأذربيجان، أنشأت محطة للطاقة الشمسية الكهروضوئية بقدرة 230 ميغاواط، يُتوقَّع أن تزود 110 آلاف منزل الكهرباء وتخفض الانبعاثات بمقدار 200 ألف طن سنويا.

وفي أنغولا، وقعت الشركة اتفاقات لتطوير قدرة إنتاجية من الطاقة المتجددة تصل إلى اثنين غيغاواط، تشمل مشاريع للطاقة الشمسية والمائية بهدف دعم إيصال الكهرباء إلى المناطق الريفية. وفي إندونيسيا، شاركت في إنشاء محطة "سيراتا" العائمة للطاقة الشمسية بقدرة 145 ميغاواط، هي الكبرى في جنوب شرق آسيا، لتوفير الكهرباء النظيفة لما يقارب 50 ألف أسرة.

يقدم أداء "مصدر" نموذجا لكيفية تمكن الدول من استخدام المؤسسات المدعومة حكوميا للدفع بنشر الطاقة النظيفة مع الحفاظ على الجدوى التجارية

بالتوازي، تطور "مصدر" في الإمارات مشروعا في العزيزة تبلغ تكلفته ستة مليارات دولار – هو أول مشروع متكامل يجمع بين الطاقة الشمسية الكهرضوئية ونظام تخزين للطاقة بالبطاريات، ويهدف إلى توفير طاقة نظيفة مع ضمان استقرار الشبكة وإدارة الطلب في أوقات الذروة – ومن المقرر أن يدخل الخدمة عام 2027.

الطاقة المتجددة والربحية شراكة ممكنة

يكتسب توقيت تحقيق "مصدر" للربحية دلالة خاصة. وتسعى الامارات إلى إبراز تقدمها في مسار التحوّل في مجال الطاقة، خلال "مؤتمر الأطراف" (كوب 30) المقبل، ويقدم أداء "مصدر" نموذجا لكيفية تمكن الدول من استخدام المؤسسات المدعومة حكوميا للدفع بنشر الطاقة النظيفة مع الحفاظ على الجدوى التجارية.

.أ.ف.ب
مزرعة لتوليد الطاقة الشمسية في منطقة الظفرة، 31 يناير 2023

يؤدي الإطار التنظيمي في الإمارات دورا أساسيا في تمكين نمو "مصدر". بفضل وجود سياسات واضحة في شأن التعرفة، وإمكان الوصول إلى الشبكة، وحماية الاستثمارات، يتوفر للشركة الاستقرار اللازم لتنفيذ مشاريع بعيدة الأجل. ويساعد الموقف الديبلوماسي للإمارات إياها في إقامة شراكات وإتاحة فرص لمشاريع في الخارج، مما يعزز مكانة "مصدر" في أسواق الطاقة النظيفة العالمية.

إذا أرادت دول أخرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تقليد نجاح "مصدر"، فسيتعين عليها تجاوز العديد من التحديات. لا يزال مشهد الطاقة في الشرق الأوسط متأثرا بالإعانات المستمرة منذ زمن بعيد، التي تواصل التأثير في سلوك السوق وفي سرعة تبني الطاقة المتجددة. تظل تعرفة الكهرباء في بعض الدول منخفضة في شكل مصطنع، مما يعرقل الاستثمار في كفاءة الطاقة وتوزيع الكهرباء. وغالبا ما تعاني البنية التحتية للشبكات من التقادم والافتقار إلى المرونة اللازمة لاستيعاب المصادر المتقطعة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وتتفاقم هذه التحديات التقنية بسبب الجمود المؤسسي، إذ تقاوم الأنظمة القديمة والمصالح القائمة الإصلاح.

تتشكل تحولات الطاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بفعل عوامل عدة: الأولويات المحلية، والاستثمارات والتطورات التكنولوجية، وتُعَدّ المملكة العربية السعودية والإمارات رائدتين في هذا المجال

وتبرز مسألة قابلية التوسع. ففي حين نجحت "مصدر" في التحول إلى نموذج تجاري مستدام، ستحتاج الدول الأخرى التي ترغب في تكرار نجاحها إلى أكثر من ضخ رؤوس أموال جيدة التوجيه. يعتمد التوسع على قدرة الحكومات على إنشاء بيئات تدعم الابتكار وتحمي مصالح المستثمرين، وقدرتها في الوقت نفسه على تطوير القدرات المحلية الكافية وخفض تكاليف الطاقة للمستهلك النهائي. وليس في وسع دول المنطقة كلها الانطلاق من النقطة نفسها التي بدأت منها الإمارات، مما يفرض عليها التخطيط في الأجل البعيد.

نموذج إقليمي قيد التشكل

يتشكل التحول في مجال الطاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بفعل عوامل عدة: الأولويات المحلية، والاستثمارات والتطورات التكنولوجية، ومسعى دول الخليج العربي إلى قيادة التحول العالمي في مجال الطاقة. وفي الواقع، تُعَدّ المملكة العربية السعودية والإمارات رائدتين في هذا المجال.

.أ.ف.ب
محطة عائمة من إنتاج شركة "مصدر" في إقليم جاوا الغربية، إندونيسيا، 9 نوفمبر 2023

وتقدم تجربة "مصدر" دروسا مفيدة عن كيفية إدارة الدول لعمليات التحول في مجال الطاقة. فالصبر الاستراتيجي، والانضباط التشغيلي، والمشاركة العالمية المستمرة، يجب أن تحتل كلها موقعا مركزيا في هذه العمليات. لكن من المهم التذكير بأن هذا التحول لا يمثل فقط تحديا على صعيد السياسات التي تستهدف الابتعاد عن الاقتصادات المعتمدة على الهيدروكربونات، بل يوفر أيضا فرصا تجارية جديدة. تظهر "مصدر" بوضوح أن إدارة هذا التحول والسعي وراء الربحية ليسا هدفين متعارضين، أحدهما مع الآخر.

مع اقتراب موعد "كوب 30"، توضح إنجازات "مصدر" ما يمكن تحقيقه حين تدعم الطموحات رؤية واضحة، ومجموعة سياسات منسجمة، وإرادة لتنفيذ المشاريع حتى نهايتها. وفي مجال الطاقة والمناخ، تمثل "مصدر" مرجعا لما هو ممكن، وتذكيرا بالعمل المفترض القيام به.

font change