من الإجحاف المقارنة بين القيادتين الفلسطينية والإسرائيلية في السباق السياسي المحتدم بينهما، إذ لا تجوز المساواة بين غير المتساوين في الإمكانيات وموازين القوى والمعطيات الخارجية المؤثرة ونمط إدارة الموارد والقدرة على المبادرة، ولا بين من يمتلك القدرة على الفعل في الجغرافيا والديموغرافيا، ومن يمتلك مجرد القدرة على الخطاب، وهو ما يمثل التناقض التاريخي والأخلاقي بين شرعية حق القوة وشرعية قوة الحق، وتاليا الانفصام بين الواقع والأحلام، والإمكانيات والطموحات.
لنلاحظ أن الحكومة الإسرائيلية، وهي حكومة اليمين القومي والديني المتطرف، تشتغل على تغيير واقع الفلسطينيين، وتعزيز هيمنتها عليهم، من النهر إلى البحر، في السياق العام لإعادة هندسة المشرق العربي، من لبنان إلى إيران، مرورا بسوريا والعراق، وفق فكرة "إسرائيل الكبرى"، مستندة في ذلك إلى الدعم اللامحدود، السياسي والعسكري والمالي، من الولايات المتحدة الأميركية.
أما في الشق الفلسطيني، مثلا، فإن إسرائيل تشتغل بكل إمكانياتها على إخراج الفلسطينيين من المعادلة السياسية في الشرق الأوسط، عبر حرب الإبادة الجماعية الوحشية، التي تشنها منذ قرابة عامين، والتي نجم عنها تجريف معظم قطاع غزة، بشريا وعمرانيا، في محاولة لمحوه من الخريطة، وذلك بالتوازي مع سعيها لتعزيز الاستيطان في الضفة، ومحاولة تقسيمها، عبر تخليق نوع من الكيانات المنفصلة فيها، وتاليا لذلك شطب، أو تحجيم، مكانة السلطة الفلسطينية.
المغزى من ذلك أن شعار إسرائيل: "لا حماسستان، ولا فتحستان في غزة"، ينطبق على الضفة، أيضا، مثلما يعني أن إسرائيل لا تنوي إعادة احتلال غزة فقط، إذ باتت تصرح علنا عن عزمها، ضم 60-80 في المئة من أراضي الضفة الغربية، أيضا، أي المنطقتين "ب" و "ج"، مع أقل قدر من الفلسطينيين، وهو ما ينطبق على المنطقة "أ"، وفقا لتقسيمات ملاحق اتفاق أوسلو، وهي تضم المدن الفلسطينية.
الآن، وفيما إسرائيل تفعل كل ذلك، فإن القيادة الفلسطينية تبدو حائرة، أو ضائعة، أو لا تملك أوراق القوة التي تمكنها من مواجهة التحديات الوجودية الإسرائيلية، باستثناء الحملة الدولية، التي تقودها فرنسا والمملكة العربية السعودية، لجلب الاعتراف الدولي، بشرعية إقامة الدولة الفلسطينية، في الضفة والقطاع.
إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في الأراضي المحتلة، قبل أعوام، بدلا من إلغائها (2021)، كان سيمنح الحملة الدولية المتعلقة بشرعنة الدولة الفلسطينية قوة مؤسسية، قانونية وتمثيلية
القصد أن مشكلة القيادة الفلسطينية تكمن في تبدد أوراق القوة لديها، منذ سنوات، بحكم تكلس وترهل الكيانات الوطنية الفلسطينية الجامعة، المنظمة والسلطة والفصائل، وبسبب الانقسام والاختلاف، والافتقاد لرؤية وطنية جامعة، وفوق ذلك بسبب ضعف الفعالية والشرعية، والافتقاد للمبادرة، مع تهميش المجتمع المدني، في مجتمعات الفلسطينيين في الداخل والخارج، بخاصة مع اختفاء مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين.
مثلا، ربما كان الأجدى للقيادة الفلسطينية العمل منذ سنوات على تفعيل هيئات منظمة التحرير، الرسمية والشعبية، وتعزيز دورها ومكانتها، بدل التركيز على السلطة، إذ في النتيجة لم يفز الفلسطينيون بالسلطة، وخسروا المنظمة، التي انحسر دورها، وذلك بدلا من الإعلان الفجائي، والغامض، عن التوجه نحو إجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني، المجمد تقريبا منذ سنوات.
أيضا، كان من الأفضل للقيادة الفلسطينية إجراء انتخابات تشريعية، ورئاسية في الأراضي المحتلة، قبل أعوام، بدلا من إلغائها (2021)، إذ كان من شأن ذلك منح الحملة الدولية المتعلقة بشرعنة الدولة الفلسطينية قوة مؤسسية، قانونية وتمثيلية.
من الناحية السياسية فإن تمترس القيادة الفلسطينية عند خيار الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، منذ نصف قرن، وبخاصة منذ أكثر من ثلاثة عقود (بعد عقد اتفاق أوسلو)، أثر سلبا، أو لم يكن موفقا، بخاصة أن إسرائيل ظلت تصارع الفلسطينيين على كل شبر في الأراضي المحتلة (1967)، وفي هذه الحال فقد كان من الأنسب التسلح بخيارات موازية، تتحدى إسرائيل، وفقا للمعايير الدولية، في كفاح سياسي يشدد على إقامة دولة مواطنين، أحرار ومتساوين، دولة ديمقراطية، بالضد من طبيعتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية، علما أن ذلك قد لا ينجح بسبب موازين القوى، لكنه كان يمكن أن يفتح أفقا افضل لمصارعة إسرائيل على كل المستويات، بدلا من الحال التي آلت إليها الأمور.
الحديث عن مستقبل غزة بعد الحرب، وتحويلها إلى ريفييرا في المنطقة، يعني إخراجها من التاريخ والجغرافيا
في كل الأحوال فإن افتقاد القيادة الفلسطينية للمبادرة، وتاليا القدرة عليها، أضعف من التأثير في نقاط ضعف إسرائيل، سواء الناجمة عن التصدعات الداخلية فيها، بين متدينين وعلمانيين، وبين متطرفين ومعتدلين، أو عن المسارات العالمية الناشئة لنزع شرعيتها وعزلها على صعيدي الحكومات والمجتمعات في العالم، لتأكيدها ذاتها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية، وكدولة إبادة جماعية، مع أكثر حكومة متطرفة عرفتها في تاريخها.
ضمن كل تلك المعطيات لم يكن غريبا، ولا مفاجئا، الاجتماع الذي عقد في البيت الأبيض الأميركي، بحضور الرئيس دونالد ترمب، والذي ضم توني بلير، رئيس الحكومة البريطانية الأسبق، والذي بات يشتغل كمقاول سياسي وأمني واقتصادي، وجاريد كوشنر الملياردير العقاري وصهر الرئيس الأميركي، مع عدد من أركان الإدارة الأميركية، إلى جانب رون ديرمر وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، والذي تزامن مع قرار الإدارة الأميركية حجب تأشيرات الدخول للولايات المتحدة للوفد الفلسطيني، وكتحدٍ للجهد الدولي للاعتراف بالدولة الفلسطينية في الاجتماع القادم للجمعية العامة للأمم المتحدة.
ولنلاحظ أنه في هذا الاجتماع جرى التعاطي مع قضية فلسطين كقضية عقارية، ودار الحديث عن مستقبل غزة بعد الحرب، في شأن تحويلها إلى ريفييرا، في المنطقة، أي إخراجها من التاريخ والجغرافيا، وذلك في ظل تصعيد كبير بحرب الإبادة الوحشية التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين، ورغم اعتراف ترمب بصعوبة وضع إسرائيل في الرأي العام العالمي، وضمنه في الولايات المتحدة، وحتى في أوساط الشباب في الحزب الجمهوري، والفكرة أن العالم الذي تديره الولايات المتحدة، التي لولاها لما استطاعت إسرائيل فعل ما فعلته في المنطقة، لا يبالي بعالم الأقوال.
في المقابل لنلاحظ أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مقابلته التلفزيونية مؤخرا (على قناة "العربية") ما زال مصرا على عدم مراجعة أخطاء الماضي، والتمسك بمقولات من نوع أن اتفاق أوسلو هو إنجاز تاريخي، وأنه اتفاق ثنائي، لا تستطيع إسرائيل إلغاءه، وأن من محاسن أوسلو أن إسرائيل اعترفت بالمنظمة، مقابل الاعتراف بها، متناسيا أن الاعتراف لم يشمل الشعب الفلسطيني، ولا حقوقه الوطنية المشروعة التي أقر له بها المجتمع الدولي، وضمنها وقف الاستيطان ولا مشروعيته، والحق بدولة فلسطينية.