يصادف السادس من سبتمبر/أيلول ذكرى رحيل أحد أبدع المخرجين السينمائيين داخل اليابان وخارجها، أكيرا كوروساوا، 1910/1998 الذي ناهز ثراء رصيد أفلامه الروائية الثلاثين عبر تجربة فريدة ومتنوعة، استمرت ستة عقود، دشنها بفيلم "سانشيرو سوغاتا"، عام 1943، وختمها بفيلم "مادادايو" عام 1993.
لكن الطفرة الجمالية الكبرى التي جعلت كوروساوا يلفت إليه أنظار العالم، خارج محليته اليابانية، كان الفيلم المدهش، "راشومون"، عام 1950، عززه بفيلم لا يقل إبهارا عام 1954 تحت عنوان "الساموراي السبعة"، ثم سيضاعف من إبهاره في فيلم "أحلام" عام 1990، دون نسيان أفلام أشاد بها النقاد والمخرجون السينمائيون على حد سواء، بل شكلت لبعضهم درسا فارقا في فن السينما، وكانت بمثابة شرارة السحر التي جرفتهم إلى الولع بحب الكاميرا، واحتراف لعبة إخراج الأفلام الروائية، مثل "عرش الدم"، و"الحصن الخفي"، وكذلك فيلمه "إكيرو" الذي احتفى به النقاد بوصفه واحدا من انتصارات السينما الإنسانية.
"معظم المخرجين لديهم عمل واحد عظيم عرفوا به، وبات ملازما لاسمهم، غير أن حالة كوروساوا مختلفة، فلديه على الأقل تسعة أفلام عظيمة"، يقول فرانسيس فورد كوبولا، لدرجة أن ستانلي كيوبريك حينما تلقى رسالة خطية من كوروساوا، صرح في ابتهاج: "هي أغلى من جائزة الأوسكار"، ولم يبالغ مارتن سكورسيز حينما أقر بأن كوروساوا وحده الجدير بوصف العملاق، وعده فيلليني المثال الحي لما ينبغي أن يكون عليه المبدع السينمائي، في حين وصفه ستيفن سبيلبيرغ بشكسبير التصوير البصري في عصرنا، وقبله صدح برناردو برتولوتشي، بأن أعمال كوروساوا وحدها فتنته وحفزته لأن يصبح مخرجا. أكثر من ذلك علق إنغمار برغمان بالقول: "فيلمي الربيع البكر مجرد تقليد سياحي رديء، لأفلام كوروساوا"، وأشاد به أندريه تاركوفسكي خاصة في ما يتعلق بأجوائه الخائضة في العصور الوسطى، وعبقريتها أنها تحمل دوما بعدا إنسانيا معاصرا.
عده فيلليني المثال الحي لما ينبغي أن يكون عليه المبدع السينمائي، في حين وصفه ستيفن سبيلبيرغ بشكسبير التصوير البصري في عصرنا
كان "راشومون" إذن، البوابة التي تخطاها كوروساوا إلى المجد، وهو حري بأن نقف عنده.
كان في الأصل مسودة سيناريو كتبها المؤلف شينوبو هاشيموتو استنادا إلى قصة الكاتب ريونوسكيه أكوتاغاوا، وفق اعتراف كوروساوا في الفصل السادس والأخير من سيرته الذاتية أو مذكراته بعنوان "بعرق الضفدع". غير أن السيناريو لم يكن يفي بغرض فيلم طويل، فظلت الفكرة تهاجس كوروساوا إلى أن دقت ساعتها في مخيلته وشرع في كتابة السيناريو بطريقته الخاصة وتطويره إلى أن صار على ما هو عليه.
أعجب المخرج بطريقة حضور ثنائية الخير والشر في القصة، التي تفضح التناقضات الإنسانية والتعقيدات غير الواضحة لما يسميه الطمأنينة الداخلية للإنسان عندما يتعلق الأمر بحديثه عن نفسه، إذ لا أحد منا يمكن أن يقول الحقيقة عن نفسه حتى بعد الموت، وتلك هي الطبيعة الإنسانية المؤسسة على الكذب، واللايقين بشكل مأساوي.
قصة "راشومون" الأصلية التي تعني باليابانية "بوابة القلعة"، تقدم ثلاث روايات حول وقوع جريمة في غابة، يضيف إليها المخرج رواية رابعة للقتيل نفسه، عبر استحضار روحه.
ولا تفضي الروايات الأربع على اختلافها إلى يقين أو تأكيد حقيقة واحدة، فهي تتناقض وتتنافر بقدر ما تتشابك وتجعل القضية هلامية وملتبسة.
يبرع كوروساوا في الرجوع إلى جماليات السينما الصامتة، باستمزاج روح الأفانغارد الفرنسية، والاعتماد على خلفيتها البصرية بطريقة تعبيرية تنحو بخصوصيتها إلى توظيف جديد، يتناسب وفيلمه الناطق. سبق لأورسن ويلز أن استخدم "الفلاش باك"، في فيلمه "المواطن كين" بهذه الفترة، غير أن بلاغة "الفلاش باك" وإبداعيته في "راشومون" يأخذان منحى أكثر خصوصية، ويشكلان التقنية المركزية المدهشة للعمل. فضلا عن حركية الكاميرا البديعة ومغامرة تصويبها إلى الشمس- اللقطة الشهيرة في الفيلم.
ظل الأدب الروسي من جهة ثانية، أهم مصادر خياله، بل الأقرب إلى ذائقته حد التطابق، وهو ما يبدو جليا في خمس من تجاربه السينمائية
حصد "راشومون" جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية عام 1951، وهو أول فيلم ياباني ينال جائزة في مهرجان عالمي، وبعد ثلاث سنوات ظفر كوروساوا بالجائزة ذاتها للمرة الثانية عن "الساموراي السبعة"، ثم توج بها للمرة الثالثة عن "دورسو أوزالا" عام 1978، بعد أن نال الفيلم نفسه أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 1976، في حين نال فيلمه "العيش" جائزة الدب الفضي ببرلين 1953، وللمرة الثانية نال الجائزة نفسها بفيلم "قلعة العناكب" 1955، ثم عادت الجائزة إليه مرة ثالثة في 1958 عن فيلم "الأشرار الثلاثة في القلعة المرعبة"، وفي 1980 نال فيلمه "ظل المحارب" السعفة الذهبية لمهرجان كان... هكذا دواليك بلوغا إلى جائزة الأوسكار عن مجمل أعماله 1990.
استأثر شكسبير من جهة أولى، باهتمام كوروساوا، كما هو لافت في ثلاث من أعماله: "عرش الدم" المقتبس من مسرحية "ماكبث"، و"ران" المقتبس من "الملك لير"، و"الشرير ينام جيدا" المقتبس من "هاملت".
وظل الأدب الروسي من جهة ثانية، أهم مصادر خياله، بل الأقرب إلى ذائقته حد التطابق، وهو ما يبدو جليا في خمس من تجاربه السينمائية: "الأبله" عن رواية دوستويفسكي، و"إيكيرو" عن "موت إيفان إيليتش" لتولستوي، و"في الحضيض" عن مسرحية لمكسيم غورغي، ثم فيلم "دورسو أوزالا" 1975 من تأليف فلاديمير أرسينييف.
وقد أفردت الكاتبة أولغا سولوفييفا لهذه العلاقة الملهمة كتابا بعنوان "كوروساوا الروسي، السينما العابرة للحدود الوطنية أو فن التحدث بشكل مختلف"، وأما ظلال كوروساوا خارج أعماله السينمائية فيمكن رصدها في سيرته "عرق الضفدع"، التي يختمها بعبارة: "لا شيء في العالم يمكن أن يكشف المبدع مثل إبداعاته نفسها... لا شيء إطلاقا".