يدرك قارئ "الذاكرة الموشومة" لعبد الكبير الخطيبي أنه أمام كتابة هلامية، منفلتة ومتموجة، ذات إيقاع هذياني صرف يتماهى مع إيقاع الشعر الذي يتحقق هنا كوجه يطابقه وجه عاتٍ آخر، هو إيقاع الفكر. الشعر والفكر يتواشجان في نشيد لا يروم تمجيدا للذات أو اختلاق ملحمة ذات نزوع مأساوي خالص، بقدر ما يتطابقان في جدال وحوار أشبه ما يكون بموسيقى فاغنرية: "هات حكاية جميلة وإلا قتلتك. هذا المبدأ الحصري على الإطلاق المعتمد في (ألف ليلة وليلة) من شأنه، عندي، أن يؤدي بكل راو حيث يتجلى: صورة لحد مشع منه– قد– ينبعث نشيد الشعر والفكر".
يزحزح الخطيبي جرحه القدري تحت ضوء كاشف، متقصيّا استيهامات أشكاله وعنف مفارقاته، عبر تقاطعات الغيرية الصادمة، صدمة تاريخية وجمالية وفكرية، قبل أن تكون لغوية وذاتية.
عن زخم الهويات المارقة، الملتبسة والمتعددة، ولو على سبيل الازدواجية، تلوح المدن في "الذاكرة الموشومة" مجرات تستأثر بالغواية والمسخ والتحول، كمرايا شيطانيّة، يدخلها الخطيبي فيؤول إلى ذوات منشطرة، لا سبيل إلى لملمة شظاياها المنزاحة، بدءا بمدينة "الجديدة" وصنْوتها "الصويرة"، ومراكش مدينة مراهقته، ثم باريس ولندن واستكهولم.
يفرد الخطيبي حيّزا مركزيا لباريس في ذاكرته الموشومة، على غرار باريس خوليو كورتاثار وجورج أورويل وإرنست همينغواي وهنري ميللر وصموئيل شمعون.
يسافر الخطيبي إلى باريس كطالب لعلم الاجتماع في السوربون، ولا يخفي لقاءه بالغرب في "رحلة الهوية والغيرية المتوحشة". يعلن السفر بلا رجعة وقد عقد العزم على التلاشي في غواية الضفاف الأخرى، محمّلا بأعطابه وجروحه النرجسية.
تبدو باريس شأنها شأن اللغة الفرنسية "غريبة جميلة شريرة"، منشطرة إلى صور، الصورة الأولية هي صورة باريس الإيروتيكية التي يكتشف زمنها السري عبر غواية الجنس وكان دليله إلى أبجدية "زير النساء" صديق مغربي له جدية الأب وخبث الخال.
ثمّ صورة ثلاثية، لباريس سديمية، يجلو ملامحها تعاقب ثلاثة وجوه لأصدقاء هم شريف الخلاسي (هوية إيرانية بولونية) شبيه ببهلوان في علاقاته النسائية، وجاك المولع بموسيقى الجاز، صاحب الوسامة النّاهبة الذي يثير الاضطراب عند المراهقات، وبطرس الريفي المولع بالرسم. هكذا تتمزق أو تتلاشى صنميّة باريس البكر عند الخطيبي التي ارتبطت في مخيلته بسارتر، وصارت تتأرجح بين موسيقى الجاز وبريق النساء وهذر النظريات حول الثقافات الأخرى.
يعلن السفر بلا رجعة وقد عقد العزم على التلاشي في غواية الضفاف الأخرى، محمّلا بأعطابه وجروحه النرجسية
باريس الموسيقية هذه، ستتضاعف مع حبّ الخطيبي للنّغمة الأشد تعقيدا، شأن صوتي بيلي هوليداي وجون كولترين اللذين يحفزان قلقه على الكتابة: "جسدي ينصت فأنا كاتب"، كما يكتب. تتعمق العلاقة الموسيقية بباريس من خلال تعرفه على فتاة تعزف البيانو، وعبر التسكع معها في نوادي الموسيقى يكتشف الخطيبي الحدود القصوى للذة والمعنى، وللفراغ المفزع أيضا.
تليها صورة أخرى لباريس الأدبية والثقافية، المتعلقة بتردّده على الحلقات الشعرية في المقاهي السرية والجماعات في الحي اللاتيني الذي يصفه بمزبلته، أو قصره الرّملي: "فيه أدفن مراهقتي فيما المبتزون ينامون في نهر السين مسدلي الجفون"، كما يقول.
في صلب هذا الزخم الهادر كتب الخطيبي أشعارا وقصصا ونصوصا نقدية، مدركا فخ باريس الشبيهة بمؤامرة، وفي معترك هذه التخوم، نسج صداقات مع كتاب مثل آلان روب غرييه الذي ينعته بالمهووس المنهجي، وبأنه "نظام معتوه من العادات المضحكة السخيفة".
أما باريس السينمائية، فصورة مزدوجة لها صلة بارتياده قاعات السينما بتلك المرحلة البكر، التي كانت تعرض أفلام تشابلن مع أخرى ذات علاقة هشة بالواقع من جهة، ومن جهة ثانية لها صلة بصداقته مع المخرج غودار، الذي جمعتهما نقاشات حول أفلامه وفق هذيان الثقافات حسب توصيفه.
وتعقبها صورة لباريس اليسارية والراديكالية، ذات الارتباط بحرب الجزائر، إذ يعلن الخطيبي نفسه إلى جانب ماركس، كمناضل منقسم على نفسه: "يختار الالتزام العملي حين يحلو له، ويختفي حين يمسي مأساة سخيفة"، على حدّ قوله.
يعود الخطيبي لباريس الرسم والفن التشكيلي، ليقرّ بأن الفنان شاغال كان هو الدليل العملي إلى المعرفة الفنية وتذوق اللوحات، إضافة إلى الفنان التشكيلي المغربي الشرقاوي الذي فتح باب الكلّي في وعيه الجمالي، فيما يتعلق بنظرية الألوان. ثمة حالة يسجلها الخطيبي غداة دخوله لمعرض ووقوفه أمام لوحة، إنه يشعر بوحدة تجعله يفكر في الهرب، وتكفيه لوحة واحدة لمدة أسبوع كي يستمتع باهتزاز إيقاعها البصري ورعب اللون. أما المعارض فيشبّه نضارتها بنضارة المقابر، فيكتب أن "الغرب يعرف جيدا هذا المذاق الأخروي الذي ثمنه ألم الرسامين الكبير".
تلك هي صور باريس المتاهيّة في المجمل، صاخبة وجارفة، حالمة ومجنونة، فردوسيّة وجحيمية، أليفة وغريبة، عابرة وراسخة
كذلك صورة باريس المسرحية. لا يتعلق الأمر بمشاهداته لمسرحيات في مسارح بعينها، بل يتعلق بنصوص مسرحية كتبها هو نفسه، وأُخرجتْ ومُثّلتْ، بعضها كان فاشلا وبعضها ظفر بنجاح خاص. ابتدع الخطيبي مسرحا جديدا، انطلاقا من أنه "لم يعد للمؤلف ولا للمخرج ولا للشخصيات أية فائدة. تقنية عجيبة لتدمير الحياة وخلقها من جديد"، كما يقول.
تلك هي صور باريس المتاهيّة في المجمل، صاخبة وجارفة، حالمة ومجنونة، فردوسيّة وجحيمية، أليفة وغريبة، عابرة وراسخة، مضيئة وعاتمة، سديمية وبلورية، واحدة ومتعددة، متناغمة وانشطارية. واستنادا إلى تناقضاتها هذه ينعتها الخطيبي في علامة مكثفة وموجزة: "الغيرية امرأة، والغيرية المتوحشة غواية خفية".