في المعنى ونقيضه

في المعنى ونقيضه

استمع إلى المقال دقيقة

المعنى وأشكال البحث عنه أو محاولة خلقه وصنعه بالأحرى، مسألة وجودية خالصة قبل أن تكون جمالية. ليس بالفن وحده نسعى وراء سديم هذا المعنى في صحراء الوجود. إنما أيضا بطرق أخرى متعددة، لها علاقة بأساليب الحياة وأنماط العيش.

من ناحية أولى، ثمة قلق ممعن، يصاحب الذات المؤرقة بأسئلة الكينونة الملتبسة. غموض الكون المدهش بلا حدود، لغز أو متاهة العالم المرعبة. ومن جهة ثانية، هذا القلق الممعن في الحيرة، إنما يتقصى السبل لغرابة الواقع، بحثا عن حقيقة أو نسق يقف وراء تعقيدات الأشياء ولغزيتها المفرطة.

وهذا يوجب التساؤل بداية، عم يكونه المعنى؟ هل هو كامن في أشيائنا على نحو مضمر يستلزم الحفر عنه وكشفه؟ هل هو ما نسبغه على العالم، ليكون لذواتنا وحياتنا جدوى أو قيمة؟ هل هو ما نستدعيه بأن نخلقه ونبتكره، فيتماهى مع أسلوب عيشنا وإبداعنا؟ أم هو يعيش فينا ومعنا ولا يغدو عملنا أن يكون سوى الانتباه إليه ومصاحبته باستمرار؟ هل هو نمط وجود نمارسه في حياتنا اليومية بوعي أو بدونه، أم هو نمط تخييلي لا بد منه لشرط إنسانيتنا؟

كيفما كان المعنى يعني كل شيء، ولا شيء في آن، ومهما يبدو لنا معنى في طور سابق، قد يتحول إلى لا معنى في طور لاحق. يفضي بنا موجز هذا التساؤل إلى آخر هو كيف يكون لحياتك معنى إذن؟

يبدو سؤالا مبتذلا من فرط استعماله من لدن مؤسسات الطب النفسي وملحقاته، بالأحرى من لدن مؤسسات تجار الكآبة التي يعتاش بعض موظفيها على مستنقع الأمراض الاجتماعية الكاسحة، ومنها حالات البطالة المزمنة ومضاعفاتها السيكولوجية الحادة والرمادية.

إجمالا، أن تكون الحياة غير ممكنة دون معنى، يجعل هذا الأخير ضرورة وجودية وجمالية في آن، يستحيل تحقق مغامرة العيش، دون الارتهان إلى فلسفتها وعمقها.

حكاية الكاتب مع المعنى، أو البحث عنه أظنها بدأت قبل اكتشاف لعبة الكتابة. شأن كل كائن بشري، تساءل منذ أن تعلم اللغة في طفولته ويفاعته، عن سر الوجود والخلق وعلى نحو مفرد تساءل عن حياته الخاصة باستقلال عن الآخرين، وما يجب عليها أن تكونه حتى تغدو لها القيمة المنشودة والتناغم المفقود، والأسلوب المرغوب وذات إيقاع مختلف.

وبعد أن جرب التفكير بحماس وضراوة، وعلى نحو متكرر في غرابة وجوده المبهم، مفخخا بأسئلة مزمنة، من قبيل: لماذا ولد في هذا البلد وليس ذاك؟ لماذا ولد ذكرا بالضرورة وليس أنثى أو العكس؟ لماذا اختصت ولادته بزمن كهذا وليس قبله أو بعده؟ لماذا ولد إنسانا وليس حيوانا أو نباتا؟ لماذا ولد بهذه البشرة وليس بتلك، ولماذا يحمل هذا الاسم بالذات وليس غيره؟

تحتد الأسئلة ويغيب اليقين والمطلق، ويتضاعف القلق مع الاصطدام بتجربة الموت. لماذا نموت؟ وهل حتمية الموت هي العدم أم إن ثمة حياة مفترضة أخرى فعلا بالانتظار هنالك.

أسئلة تبدو ساذجة، لكنها وجودية اعترت كل واحد منا، لا تحصى ولا تعد، ما من جواب لها، ستتشعب وتتغور أو تتغول لحظة اكتشاف القراءة. قراءة الأدب على نحو خاص. وتلى ذلك الاكتشاف المدهش، العظيم الذي هو الكتابة.

غدا سؤال لماذا نكتب؟ بصورة من الصور: ما معنى أن نكتب؟ وما معنى أن نكتب؟ هو بحث أيضا عن ما معنى أن نكون؟

ومع التقدم في ممارسة لعبة الكتابة واكتشاف سحريتها وعمقها وخطورتها، تغدو الكتابة كل شيء. ليس لأن الحياة دون معنى إن انتفت الكتابة، لكن المسألة تتخطى كوجيتو أنا أكتب إذن أنا موجود. إلى: الكتابة هي أجمل ما يوجد، وبها أكون أنا، أنا، لا غير. غدا سؤال لماذا نكتب؟ بصورة من الصور: ما معنى أن نكتب؟ وما معنى أن نكتب؟ هو بحث أيضا عن ما معنى أن نكون؟

كيفما كانت الأسباب التي تقف وراء الكتابة، فهي غامضة وضبابية وملتبسة. ليس هناك من سبيل أو طريقة للجواب عن هذا السؤال بيقين صلد: ما معنى أن نكتب؟ هو ما تحاول الكتابة نفسها أن تبحث فيه وعنه، دون أن تخلص إلى وضوح نهائي. هذا لأن معنى الكتابة ذاته يبطل ويفسد عند الوصول إلى تفسير أو إلى حقيقة تقف خلف ذلك. هذا لأن معنى الكتابة ملازم لمعنى الوجود، وكلاهما يتمنعان على القبض في صورة ثابتة ومستقرة.

للاقتراب من حقيقة المعنى، أظن أن على المرء أن يعرف ما هو نقيضه، وهو اللامعنى؟

اللامعنى هل هو الشيء الفارغ؟ العدم؟ اللاوجود؟ أم هو ما يفتقر إلى دلالة. ما ينحط عن قيمة ما. طبعا ثمة سلطة أخلاقية وسياسية تتحكم في إنتاج المعاني، وتحصين دائرة قداستها، ضمن نسق، أو منظومة. وهنا يكون الخروج عن هذا النسق، عن هذه المنظومة، خروجا عن منطق معناها. وهذا يعني أن كل خروج عن العادة في نظر هذه السلطة والخاضعين لها من الجموع أمرا موصوما باللامعنى. يستوجب الإدانة والإقصاء والتهميش والعقاب بصورة رمزية أو مادية.

اللامعنى هنا يصير معنى معكوسا أجدر عند الأقلية الخارجة عن هذا النسق. وفي المسألة ما يجعل من اللامعنى معنى مضاعفا بل جذريا. وهنا تخطر مقولة فلوبير: كل ما ليس له معنى له معنى متفوق على الذي له معنى.

الكاتب بالضرورة يمثل هذه الأقلية. إنه نقيض السلطة بل كابوسها المزعج على الدوام، السلطة هذه الآلة اللئيمة التي لا عمل لها سوى احتواء أفق المعنى وإفراغه من جماليته وإنسانيته.

وأفدح اللامعنى في رؤية هذه الأقلية، هو موجز الوحشية التي يصخب بها تاريخنا الإنساني، ونعاود تكرارها بأفظع ما يكون، مهما بدت ملطفة بشعارات الحضارة الزائفة، وهو ما تفضحه الحروب المعاصرة الأشد وحشية باسم هذه الذريعة وتلك، دينية وعرقية كانت أو غير ذلك، فيما مبدأ القوة والمصلحة هو ديدن شرها وشيطانها. يسقط المعنى حينما يكرر التاريخ جرائمه الإنسانية الكبرى، ولا يغدو أمام المرء سوى أن يأخذ العالم على محمل عبث وكابوس أو مزحة سوداء.

لكل قرن معناه التراجيدي، وقدر هذا القرن المأساوي تنزاح به سحرية التقنية الشعواء، الرقمية الخارقة، صوب ذكاء اصطناعي جارف بات يهدد الوجود الإنساني نفسه. ذكاء ستغدو انفلاتاته أخطر من التهديد الكلاسيكي المتعلق بقيامة السلاح النووي وكوارث تقلب المناخ.

لكل قرن معناه التراجيدي، وقدر هذا القرن المأساوي تنزاح به سحرية التقنية الشعواء، الرقمية الخارقة، صوب ذكاء اصطناعي جارف بات يهدد الوجود الإنساني نفسه

الدرس الأول الذي تلهمنا به الكتابة، والقراءة معا، الأدب والفن عموما، هو أن العلاقة بالعالم لا يمكن أن تكون ذات معنى إلا إن كانت تخييلية. فقصة العالم نفسه أقرب إلى التخييل أكثر منها إلى الواقعية. حتى عندما نتفكر في الكون علميا تظل المسألة تخييلية، ولا أدل على ذلك من قصة الانفجار العظيم التي يفسر بها الفيزيائيون حقيقة نشوء العالم. يا لها من حكاية فانتازية عظيمة، كيفما حاولت الرياضيات تشكيلها في خطاطات وبيانات ومعادلات وعمليات أرقام على نحو حسابي ومنطقي.

وغير الفيزياء والرياضيات ومجمل العلوم، وكل المعتقدات الشعبية في أصقاع المعمورة عبر التاريخ، فسرت الأمر، ونظرت إليه على سبيل التخييل أيضا.

يبقى خيط التفكير في المعنى الكلي (الوجود) تخييليا حكائيا، يمتد إلى المعنى المفرد، الذاتي، المعنى الجزئي، (المعنى الإنساني). كلاهما خيط مزدوج، مفتول من قنب الحيرة والقلق والغموض والغرابة والسؤال. زد على ذلك معضلة أن نكون محض كائنات داخل اللغة، وهذا الوجود المرعب داخل اللغة، لا يمكن أن يتحقق مع الواقع والعالم إلا تخييلا.

font change