عن الصداقة الحميمة والغريبة بين الكتّاب والقطط

كائن السحر والغموض والأسئلة الوجودية

Shutterstock
Shutterstock
قطة في مكتبة

عن الصداقة الحميمة والغريبة بين الكتّاب والقطط

شيء سحري يجعل من القطط مصدرا حلميا وغامضا للصداقة، لا يقتصر على الحضور المادي في المنزل، بل يتعداه إلى حضور تخييلي فاتن في الكتابة. لا يقف الأمر عند الأناقة البديعة التي أغدقتها الطبيعة السنورية على القطط، وإنما يتخطاه إلى أشكال السلوك الغريب الذي ينطوي عليه نمط عيش هذا الحيوان المثير.

حظيت القطط بتقديس حد التأليه في حضارات مدهشة في ما سبق من تاريخ الإنسانية، فاستأثرت بقيمة لاهوتية رفيعة على نحو خاص عند الفراعنة، وكان الطراز الأمثل لذلك هو القطة الشهيرة باستت، التي اقترنت باللبوءة سخمت. باستت، التي جسدها امرأة فاتنة ورأسها قطة، كانت ترمز إلى الخصوبة والحب، وارتقت إلى درجة إلهة، بل وعبدت في مدينة بوباستيس، كما خصص لها عيد احتفالي عند المصريين القدماء.

أوليت القطط عناية مفرطة في تلك الحقبة، وشملها شرف التحنيط بالطريقة ذاتها التي حنطت بها رموز السلالات الفرعونية الحاكمة. لم ينحصر تقديسها عند الفراعنة كاستثناء، بل نظر إليها بالتأليه نفسه في ثقافات حضارات أخرى، كما عند الصينيين القدامى الذين جعلوا من القطة لي شو ربة خصوبة تقدم إليها القرابين في نهايات مواسم الحصاد، والشيء نفسه في الهند مع القطة ساست، التي ترمز إلى ربة الأمومة.

الأثر السحري والسوداوي

بعكس هذه الصورة المقدسة للقطط في متخيل هذه الحضارات العجائبية، كان للقطط أيضا حضور سوداوي في تمثلات الشعوب منذ القرون الوسطى، والقطط السوداء بخاصة التي كانت مدعاة لفأل سيء، اقترنت بالشيطان، وقوى الشر عموما. ولعل هذه الخلفية المريبة هي التي جعلت من الكاتب الأميركي إدغار آلن بو ينبغ في رسم مناخ مرعب ارتبط بأشهر قط في تاريخ الأدب، هو القط الأسود، عنوان أهم قصصه التي ذاع صيتها وطبق الآفاق، مضاعفا سحرية العلاقة بين الكتابة والقطط بقوله اللاذع: "أتمنى لو أستطيع الكتابة بغموض القط".

انفردت القطط من بين مجمل الحيوانات بولع الكثير من الكتّاب وحبهم، وتسللت أطيافها وأشباحها وظلالها إلى مطابخ كتاباتهم، وبزغت بقوة في العديد من غرابة نصوصهم 

هذا الأثر السحري لأمنية إدغار آلن بو، هو ما نصادف إشراقته في مقولة لافتة للكاتب ألدوس هكسلي "إذا ما أردت أن تكتب، فعليك بتربية القطط".

بعيدا إذن من الحضور الأسطوري للقطط في متخيل الحضارات القديمة، وفي تمثلات الثقافة الشعبية هنا وهناك، انفردت القطط من بين مجمل الحيوانات بولع الكثير من الكتّاب وحبهم، ولم يتعلق الأمر بتربية هؤلاء الكتّاب للقطط في بيوتهم، والعيش في جوارها كضرورة أنطولوجية لا يستقيم معنى الحياة إلا بها، بل تسللت أطيافها وأشباحها وظلالها إلى مطابخ كتاباتهم أيضا، وبزغت بقوة في العديد من غرابة نصوصهم السردية والشعرية.

AFP
الروائية الفرنسية كوليت مع قطتها في باريس في الأربعينيات

هكذا اشتهر ضمن كلاسيكيات الأدب العالمي: القط ليلي للكاتب البريطاني صمويل جونسون، والقط هانس للشاعر والتر سكوت، والقط  مير  للكاتب الألماني هوفمان، فضلا عن القط صاحب الحذاء "البوطي" الذي عرف في الأدب الفرنسي في قصة للكاتب تشارلز بيرولت ضمن إصداره "حكايات الأم لوي". وعلى هذا النحو تضاعف ألق القطط في كتابات كل من تيوفيل غوتييه "الحديقة الحميمة"، وشاتوبريان "مذكرات من وراء القبر"،  وإميل زولا "فردوس القطط"، ودي موباسان "حول القطط"، وجورج صاند "مينو"، وتشارلز ديكنز "قط الأستاذ"، وروديار كيبلينغ "القط الذي يمشي وحيدا"، وتوماس هاردي "القط كوبي"، وفيتزجيرالد سكوت "شوبان"، وتينيسي وليامز "قطة على صفيح ساخن"، وباتريسيا هايسميت "القطط والرجال"، وميشال تورنييه "احتفالات"، وكوليت "القطة"...

AFP
الكاتبة البريطانية دوريس ليسينغ في منزلها بلندن عام 1984

فيما خصصت نوعية أخرى من الكتّاب تجربة إبداعية كاملة للقطط، مثلما فعل صاحب "الأرض الخراب" الشاعر إليوت في ديوانه "كتاب الجرذ العجوز عن القطط العلمية". هذا الذي استرعى انتباه الموسيقى أندرو لوبير فحوّله إلى مؤلف موسيقي، ثم تأثر به مخرج مسرحي يدعى تريفور نان فنقله إلى المسرح القومي بشكل غنائي... وعلى نحو أكثر خصوصية قامت الكاتبة البريطانية دوريس ليسينغ المولعة بالقطط –شأنها شأن الروائية كوليت- وتربيتها منذ طفولتها في جنوب أفريقيا، بإفراد كتاب كامل لها تحكي فيه عن سيرتها مع الهررة في مؤلف "القطط في الأخص"، ومن أهم شذراتها اللامعة حول القطط: "إذا كان السمك هو حركة الماء متجسدة في شكل ما، فإن القطط هي الرسم البياني لتخطيط رقة الهواء".

إذا كان السمك هو حركة الماء متجسدة في شكل ما، فإن القطط هي الرسم البياني لتخطيط رقة الهواء

كوليت

ومن الكتّاب الذين مهرت القطط حياتهم وتحولت إلى شخصيات تخييلية لا تقل قيمة وقوة عن شخصيات رواياتهم وقصصهم، الكاتب خوليو كورتاثار وحكايته الشهيرة مع القط، تيودور أدورنو هذا الكاتب المهووس بالقطط، ظلت الهررة تتكرر في عتمات نصوصه: مؤلف "حول اليوم في ثمانين عالما"، وقصة "نظرة القطط" على سبيل المثل، وكذلك بشكل لافت في روايته "لعبة الحجلة".

يقول عنها في كتاب "حول اليوم في ثمانين عالما": "في بعض الأحيان كنت أتوق الى شخص يشبهني، لم يتكيف على نحو تام مع عمره، وكان من الصعب العثور عليه، لكنني سرعان ما اكتشفت القطط".

هذا المنحى للمعنى ذاته يتحقق بصورة أخرى في مقولة الفيزيائي والثيولوجي ألبرت شفايتزر: "المهرب الوحيد من مآسي الحياة هو الموسيقى والقطط".

Shutterstock
تماثيل تجسد شخصيات نيكولاي غوغول في ميرهورود، أوكرانيا

أن تتحول القطط وفق توصيف شفايتزر إلى ملاذ وخلاص تتقاسم فيه الدرجة الشاهقة نفسها مع الموسيقى، يجعل منها كيمياء جمالية ذات خطورة وعمق مهول لا يستشعر أثرها العجيب هذا إلا من عايشها وصادقها من الكتّاب في عزلة خاصة بمنزله، وهذا ما يجعل الكاتب هاروكي موراكامي أول من يخطر في الذهن، طالما ردد في حواراته متلازمة حبه للقطط والموسيقى، هو من أطلق على حانة الجاز التي كان قد أسسها في مقتبل العمر اسم "القط بيتر"، وليس غريبا أن تتكرر متلازمة القطط والموسيقى في مجمل ما كتبه، خاصة "كافكا على الشاطئ"، و "1Q84".

غلاف رواية "كافكا على الشاطئ"

التماهي بين القطط والكتب والموسيقى

هكذا تغدو منازل الكتاب موحشة وخرائبية دون قطط وكتب وموسيقى، وقد أمسى أقصى ما يتمناه شاعر مثل غيوم أبولينير أن يرى قطا يمر بين الكتب في منزله: "ما أتمناه في منزلي... قط يمر بين الكتب" (قصيدة القط).

هكذا تفقد المنازل كل قيمة في غياب الهررة الحميمة: "أحب القطط لأنني أهوى منزلي، شيئا فشيئا تغدو روحها مرئية"، يقول جان كوكتو في صدد الحضور الفانتازي للقطط في المنزل دائما. إن القطط هي ما يجعل المنزل منزلا، أو هي شرط وجودي من ضمن الشروط الضرورية التي لا غنى عنها لكي يتحقق للمنزل معناه وفق ما تتفق عليه مجمل شهادات ويوميات وحوارات الكتّاب الذين وشمت سيرهم صداقات خالدة مع الهررة، ومنهم الكاتبة الأميركية في صنف أدب الجريمة باتريسيا هايسميث صاحبة مؤلف "قطط ورجال": "القط هو ما يجعل المنزل منزلا، والكاتب ليس أبدا وحيدا مع قط... وعلاوة على ذلك، سواء كان يمشي أو كان نائما، القط هو عمل فني حي، في تحول دائم".

هكذا تغدو منازل الكتاب موحشة وخرائبية دون قطط وكتب وموسيقى، وقد أمسى أقصى ما يتمناه شاعر مثل غيوم أبولينير أن يرى قطا يمر بين الكتب في منزله


هذه النظرة الجمالية الخالصة نحو القطط هي ما قد يجعلنا لا نبدي استغرابا عندما ينحاز إليها ألبرتو جياكوميتي في اختياره البديهي قائلا: "في الحريق، بين رامبرانت والقطة، سأنقذ القطة".

Gabriel BOUYS / AFP
ليندا لي بوكوفسكي في معرض "تشارلز بوكوفسكي، شاعر على الحافة" في كاليفورنيا

يكفي إذن تأملها أو النظر إليها في حالات المرء الرمادية والأكثر سوداوية، لتكون ملاذه الآخر كي يستعيد ضوء الابتهاج الهارب، ويتراءى له طيف الحكمة المفقودة في العبث الكاسح، في لحظات الهشاشة العاصفة المنذورة للكسر والرماد، كما يفصح الشاعر والروائي تشارلز بوكوفسكي –وهو صديق كبير للقطط -في قصيدته "قططي": "حين أشعر بالهشاشة/

ما علي سوى النظر إلى قططي/ فأسترد شجاعتي/ إنني أدرس هذه الكائنات/ إنهن معلماتي".

بوكوفسكي يمضي أبعد من ذلك عندما يقول بنبرة طبيب أو ساحر: "بقدر ما تمتلك الكثير من القطط، تعيش أكثر، لو كنت تمتلك مائة قطة فستعيش عشرات المرات أطول مما لو كنت تمتلك فقط عشر قطط. يوما سيتم اكتشاف ذلك، وسيمتلك الناس ألف قطة كي يعيشوا إلى الأبد".

ومن الشعراء الذين كتبوا أكثر من مرة عن القطط وعيونها الفوسفورية، الشاعر الفرنسي شارل بودلير مطابقا بين سحرها والمرأة، إذ هي الايحاء الدامغ لفتنتها وعطرها وشبقها. وغير ذلك، فالقطط لها علاقة غريبة بالزمن والوجود والأبدية. عن الساعة التي كان يراها الصينيون في عيون القطط، كتب بودلير في قصيدة نثرية: ما الذي تنظر إليه بكل هذه العناية؟ عن أي شيء تبحث فى عيني هذا الكائن؟ هل ترى فيهما الساعة، أيها الزائل، المسرف، الخامل؟ سوف أجيبه بلا تردد: نعم، أرى الساعة... إنها الخلود".

وفي الشعر دائما استأثرت القطط بقصائد شعراء من طراز بول إيلوار وجاك بريفير وريلكه وبورخيس ونيرودا وباوند وسيلفيا بلاث وجاك كيرواك... استمزجت في المجمل بين أثر غرابتها والأثر الغامض للمرأة، وعطفا على هذا التماهي الفاتن بين القطط وأجمل النساء يمكن إضافة لمسة الجريمة لتغدو هذه المتلازمة ثلاثية بالنظر إلى ما أشار إليه أستاذ اللاشعور فرويد إلى أن القطط والنساء بالإضافة إلى المجرمين يشتركون في ميزة المثالية التي يصعب الوصول إليها مع قدرة هائلة على حب الذات تجعلنا في انجذاب إليهم.

Getty Images
الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس مع ماريا كوداما في السبعينيات

ويعزز هذا المنحى الأسود بالمعنى البوليسي ما قاله الكاتب الأميركي مارك توين: "القط أكثر ذكاء مما يعتقده الناس، إن باستطاعته تعلم أي جريمة".

يعزز هذا المنحى الأسود بالمعنى البوليسي ما قاله الكاتب الأميركي مارك توين: "القط أكثر ذكاء مما يعتقده الناس، إن باستطاعته تعلم أي جريمة"

وكيفما تشعبت متاهة القطط، تظل سحريتها ملازمة لجماليات الكتابة وأناقة الكتاب الذين لم يحرصوا على الحديث عن غرابتها في أكثر من مناسبة وحسب، بل لم يفوتوا التقاط صور (بورتريهات) فاخرة معها باختلاف اللحظات الزمنية، ومنهم على سبيل المثل وليام بتلر ييتس وهرمان هسه وجيمس جويس ووليام فوكنر وجان بول سارتر ويوكيو ميشيما وترومان كابوتي وألبير كامو وجاك ديريدا وأودن وراي برادبري ومارغريت دوراس ونيل غيمان وستيفان كينغ.

Getty Images
صورة للأديب والشاعر الألماني السويسري هرمان هِسه في مونتانيولا، سويسرا

ومثلما كل كتاب يقود إلى آخر، فكل قط يقود إلى آخر بحسب إرنست همنغواي، على نحو لا نهائي.

font change