تظل كتابة سيرة حياة الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، أحد أعظم كتاب القرن العشرين، مهمة شاقة ومحفوفة بالتحديات. فبورخيس ليس مجرد كاتب شهير، بل أسطورة أدبية متعددة الأبعاد، تتقاطع حياته الخاصة مع إنتاجه الأدبي المعقد، ما يجعل أي محاولة لتفكيك شخصيته أمرا بالغ الصعوبة.
في كتابه الجديد "خورخي لويس بورخيس: مصير أدبي" (كاتيدرا، 2025)، يقدم الباحث الأرجنتيني لوكاس أدور رؤية متكاملة تجمع بين السرد السيري والتحليل النقدي، مستفيدا من مصادر حديثة وغير مستغلة سابقا، مثل مذكرات بيوي كاساريس، والرسائل الشخصية، وأبحاث حول تصريحات بورخيس في وسائل الإعلام.
من خلال هذا المنهج، يعيد أدور تقديم بورخيس ليس فقط كرمز أدبي، بل ككائن إنساني مركب، تتقاطع فيه التجربة الشخصية والبحث الروحي والفلسفي، مما يتيح فهما أكثر ثراء لعمله الأدبي. فالباحث لا يكتفي بسرد الوقائع التاريخية لحياة بورخيس، بل يحلل بعمق الصراعات النفسية والوجودية التي شكلت خياراته الفنية، متتبعا تأثير البيئة الأسرية، التجارب العاطفية، الصداقات، والعوامل الروحية على نصوصه.
الطفولة والتشكيل النفسي
يفتتح أدور تحليله بالحديث عن طفولة بورخيس في بوينس آيريس، مسلطا الضوء على البيئة الأسرية وتأثير والديه، خورخي غويلرمو بورخيس وليونور أسيفيدو، على تكوين شخصيته. كان والده رمزا للمعرفة والوعي النقدي، فيما لعبت والدته دور الحامية والداعمة، مما منح بورخيس مساحة للانغماس في القراءة والكتابة منذ الصغر. إنه إدراك مبكر للمصير الأدبي لم يأت مصادفة، بقدر ما كان نتيجة تفاعل الإرادة الفردية مع الإرث العائلي. فقد أنهى بورخيس أول مخطوطة له وهو في الخامسة من عمره، وهو مؤشر الى إدراكه المبكر لقدراته والخيارات التي تنتظره في الحياة.





