نجومية "عسيلة" في المغرب

نجومية "عسيلة" في المغرب

استمع إلى المقال دقيقة

بقدرة قادر أمسى حيوان "غرير العسل" يتصدر عناوين الوسائط الاجتماعية في المغرب، حد أمسى مسترعيا للانتباه بشكل مطرد، متقدما في طليعة الاهتمامات الشائعة على سبيل الطرافة والإعجاب، كأن اكتشافه غدا طارئا، على نحو متأخر، والسبب في تفاقم الإعجاب به، هي مشاهد اقتتالاته البطولية المتناقلة بشكل متعاقب يوميا، والدامغ في الدهشة الجماهيرية، غرابتين مقترنتين في حمى الفرجة إياها، غرابة شكله المشفوعة بغرابة سلوكه.

وأما عن غرابة سلوكه الحربي، فشجاعته حد التهور في الهجوم على كل من يعترض طريقه، بمن في ذلك الأسود والنمور والأفيال والضباع والكلاب البرية، وكذا مناعته ضد سم الأفاعي وما يضاهيها من مخاطر محدقة.

وأما غرابة شكله، فتفصح عنها ضآلة حجمه إذا ما قورن بالضواري المشار إليها آنفا، يبدو أقرب إلى ابن عرس والظربان، بملامح مخادعة توحي بأنه مسالم، وما يضاعف من إثارته هو بياض فروته من فوق المائلة إلى الفضة، وسواد نصف جسمه السفلي، زد على ذلك، إيقاع مشيه المتأرجح، تكاد بطنه المستطيلة تلتصق بأديم الأرض، لكن ما يرجح كفة شراسته في معاركه المظفرة، دائما هو صلابة جلده، درجة سمكه الاستثنائية ومقدرة تمططه الهائلة، مشفوعا بمخالب يديه الحادين، وكذلك أنيابه المستبسلة، في حين يتفرد بشقاوة لافتة، إذ هو من يبادر للعراك أنى حل وارتحل، مشتبكا مع أفتك الحيوانات من ذوات الناب وغيرها في البراري، دونما اكتراث لقوة الخصوم وبطشهم، مع أن حجم جسمه متواضع مقارنة بها.

شيء آخر يثري من رصيد غرابته، هو هوسه بالعسل كنمط غذائي، مما يجعل منه الغريم الوحيد للدببة، ولا تنال جحافل النحل من جسمه الصلد شيئا، وبذا يجمع في أسلوب اقتياته بين اللحم والعسل فضلا عن النباتات، وكأنما يتقاسم مع البشر مسألة التحلية التي لا تستقيم بها الوجبات الأخرى.

كل هذه المواصفات المثيرة، جعلت من الغرير بطلا رمزيا في المغرب، يحتفى به هذه الأيام كنجم بشكل مطرد، فما الحكاية؟

لعل القصة وما فيها، أن طفرات الإنجازات المغربية في كرة القدم (وآخرها كأس العالم للشباب تحت 20 سنة في تشيلي)، وما يشبهها في محافل شعبية ورسمية أخرى، جعلت من هذا الحيوان الشجاع رمزا يطابق الحالة المغربية الملتهبة، أو يحيل على ألقها بحسب الفرجة الرقمية، سواء تعلق الأمر بمدارات صناعة المحتوى، الرديء المستشري منها والجيد النادر حد العدم، أو في رواج صفحات ثقافية واجتماعية تستثمر أيقونته ضمن منحى السخرية والانبهار في آن، وأغلبها لا يخرج عن نمط التسلية والركاكة.

طفرات الإنجازات المغربية في كرة القدم وما يشبهها في محافل شعبية ورسمية أخرى، جعلت من هذا الحيوان الشجاع رمزا يطابق الحالة المغربية الملتهبة

من الشائع أن بهرجة الرموز الحيوانية في الانتخابات المغربية ذات الصلة بشعارات أحزاب تقتصر على أطياف منها الحمامة والأسد والحصان والجمل والفيل والغزال، لكن زحف استعارات غرير العسل الجارف سيميائيا، أنسى دوائر الاهتمام بالمعطى السياسي الرسمي، المستهلك، في حظائر حيواناتهم التقليدية، بينما أضحى "عسيلة" وهذا اسمه بالمغربي، يحظى بمكانة أسقطت رمز الأسد الأطلسي من عرشه.

مع أنه غرير بالنظر إلى لقبه، إلا أنه نقيض معناه وفق هذا التوصيف، فإن كان بلا تجربة، أو محض مغرور، فأسلوب وجوده يقول بشكل دامغ العكس تماما، إذ هو مغامر، لا مبال، متجاسر، جامح، غير متردد في الاشتباك مع الكل، بل هو من يجنح للهجوم، مسارعا بالترهيب، ومشاغبا في التهديد، دونما كلل في النزاع الشرس حتى لو أغمي عليه، سرعان ما يستفيق ليستأنف النزال، والمحصلة في الغالب أنه من يحسم المعارك لصالحه، خاصة حينما يسرق طعام غيره، أو يتجاسر على مملكة الأفاعي، وينال من أسمها قتلا. أكثر من ذلك، ينفرد بذكاء خاص، لا في استعمال أدوات طارئة للهروب من الكمائن وحسب، بل في توظيفه لطائر يدله على مكامن العسل.

سبقت نجومية غرير العسل في المغرب، حصيلة أولى أضخم عالميا سنة 2011، بسبب فيديو على "يوتيوب" موسوم بعنوان "غرير العسل لا يهتم" مركب من مشاهد أفلام وثائقية آنفة لشخص يدعى راندال، وشوهد بشكل قياسي، في حين لمع الغرير في أفلام وثائقية نوعية أخرى، منها: قاتلو الأفاعي، غرير العسل في كالاهاري 2000 من إخراج ديفيد هيوز- ورحلة الغرير، صائدو العسل في نياصا 2008 من إخراج كيث بيغ- وغرير العسل الأسطوري 2013 من إخراج غرايم دوان- وغرير العسل، سادة الفوضى، 2014 من إخراج ستيف جودر.

بينما صنفته موسوعة غينيس عام 2002، بأجرأ حيوان في العالم.

المفارقة أن صاحب الفيديو الشهير المركب "غرير العسل لا يهتم" الملقب براندال، حول ظاهرة الغرير إلى الحقل الثقافي، بنزوع كوميدي وعلمي وجماهيري، إذ أصدر كتابا بذات العنوان، عام 2012، مستندا إلى شخصية غرير العسل كرمز للامبالاة بالخطر، للشجاعة المطلقة، وبذا آل هذا الحيوان غريب الأطوار إلى علامة تجارية أيضا، وهذا ما ستحتكم إليه سلسلة روايات بذات المنحى، موسومة بـ "يوميات غرير العسل" لشيلي لورينستون ذات نزوع رومانسي، فانتازي، ابتداء من 2018، وقد صدر من السلسة ستة أجزاء حتى الآن.


ألطف ما يمكن أن تحدثه الظاهرة من أثر، تعزيزها رصيد المعجم السياسي والاجتماعي والثقافي بمفهوم طارئ، عن سلوك إنساني في التفكير والعيش

وفي المقابل تظل أقدم رواية تحمل عنوان "غرير العسل" لروبرت رواك الصادرة عام 1965، يسبغ شراسة هذا الحيوان النادر على كاتب يعيش في أفريقيا، ولعل هذه الإرهاصات ما تحول نقديا بشكل مجازي ليغدو الكاتب الحقيقي هو نفسه غرير عسل لا يخضع لسطوة الرقابة، كما لا يتقيد في حرية خياله بحدود أي سلطة، دينية كانت أو سياسية.

هل تحتاج موجة "عسيلة" إلى التفاتة وإمعان نظر، كونها من بنات زبد الوسائط الاجتماعية المنذورة للجفاء؟ قطعا نعم، إذ طفا صخبها وتخطى حد النكتة إلى حد الظاهرة، وألطف ما يمكن أن تحدثه من أثر، تعزيزها رصيد المعجم السياسي والاجتماعي والثقافي بمفهوم طارئ، عن سلوك إنساني في التفكير والعيش، يمكن نعت أصحابه بـ "العسليون".

font change