قُدّر لمدن، مر بها غرباء مصادفة، أن ترتبط بأسماء أولئك الغرباء، ومعظمهم كتاب وفنانون ومبدعون في المجمل. وهذا حال فضاءات داخل هذه المدن نفسها، لم تكن شهيرة في ما مضى، ولكن بمجرد أن ارتادها هؤلاء، أمست علامات راسخة، فانعطف تاريخها ليغدو شيئا لامعا، مستقطبا، مغويا، جاذبا، لا لشيء، سوى أن قامة فنية عبرت المكان مثلما يعبر طائر نحام سطح بحيرة، تاركا أثر دوامة على صفحة المياه، مؤبدة التدوير، دون أن يتقصد الزائر الغريب إحداث ذلك. وبذا تحتفظ ذاكرة هذه الأمكنة بأطيافهم، الى درجة يتلازم اسمها بالحضور البديهي لوجوههم، وكأنما أضحى للمكان وجهان، وجهه الأصلي، ووجه الزائر الدامغ، في ما يشبه وجهين لعملة أو أيقونة واحدة.
لا يتعلق الأمر هنا بالإشارة إلى مبدعين أقاموا طويلا في بلدان غير بلدانهم حد الممات، وفق اختياراتهم الوجودية، ولا بحسب إكراهات العيش، سواء امتثلوا لضرورة عمل يستوجب هجرة كهذه، أو لاذوا قسريا بسبب حرب ضارية، ملاحقة سياسية موصولة بمشنقة، هدر دم بسبب كتلة دينية أو عقائدية متطرفة، أو انسياقا وراء مهمة رسمية، تعليمية أو قضائية أو سياسية، بما فيها الجاسوسية على سبيل المثل... بل يتعلق الأمر، فعلا، بمبدعين سافروا إلى هذه البلدان لفترة وجيزة، إما عبر مصادفة محضة، أو وفق دعوة فنية، ثقافية، ربما تكون دعوة صداقة لا غير أو من خلال تخطيط ذاتي، إشباعا لفضول شخصي، لرغبة في الاكتشاف، أو سعيا وراء متعة، صيدا أو قنصا كان، أو غيره من المآرب.
ليس انحيازا كلية للفن التشكيلي أن نحصر الحالات الإبداعية في أمكنة كهذه بنماذج أو منتخبات منه، ولكن على سبيل المثل على نحو أوضح، وليس محاباة.
فان غوغ وأصفر بلدة آرل
ما يهمنا هو المقام العابر، لأسماء ذات جاذبية، لم يستغرق عبورها إلا أياما أو شهورا على أبعد تقدير، مثلما تحقق لفان غوغ في مدينة آرل الفرنسية ابتداء من فبراير/ شباط 1888 إلى مايو/ أيار 1889، وكانت من أبدع لحظات منجزه الفني، أنجز فيها أكثر من 300 لوحة، ألمعها "ليلة النجوم فوق نهر الرون" و"غرفة النوم في آرل" و"دوار الشمس" و"الغربان في حقل القمح". وفي الآن ذاته كانت منعطفا حادا في سيرته الذهانية، وتوتره العصبي، الموشوم بانهيار آل به إلى أن يكون نزيلا في مستشفى البلدة الذي سيغدو في ما بعد حاملا لاسمه.





