اللانهائي في راحة اليد

اللانهائي في راحة اليد

استمع إلى المقال دقيقة

ليس اعتباطا أن تكلف الحكومة الأميركية، امرأة هذه المرة كي ترفع يدها اعتراضا على مشروع وقف حرب الإبادة في غزة. وهي المرة السادسة منذ استفحال المجازر الإسرائيلية في القطاع، التي تُفاقِم فيها الولايات المتحدة حرب الإبادة التي تخطى عدَد الضحايا فيها 66 ألفا.

صاحبة اليد الفادحة، المرفوعة كاعتراض على وقف إطلاق النار الفوري، على سبيل الفيتو، هي السيدة مورغان أورتاغوس، صادحة بالقول المشين: ترفض الولايات المتحدة هذا القرار غير المقبول.

والسيدة سبق أن تدرجت في مناصب حكومية منها ما يعنى بالشؤون العامة في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وكذلك محللة استخباراتية في وزارة الخارجية، وكان لها دور دامغ في "اتفاقيات أبراهام" بين إسرائيل ودول عربية. وقد سبق لسيدة أولى من أصول أفريقية أن رفعت يدها في السنة الماضية، بمجلس الأمن، معترضة على مشروع وقف النار في قطاع غزة، بتكليف من الحكومة الأميركية دائما، تدعى ليندا توماس غرينفيلد، مستخدمة هي الأخرى حق النقض، وتكشف سيرتها السياسية عن تدرجها في العمل ضمن السلك الدبلوماسي الأميركي عام 1982، قبل أن تتولى منصب مساعدة وزير الخارجية للشؤون الخارجية في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما.

يدان ضالعتان في الجريمة، تستبيحان المقتلة اليومية الكبرى، هما يدا سيدتين تخطتا حد النعومة، إلى حد شرعنة الإبادة المتفاقمة في غزة منذ سنتين.

كيفما كان رصيدهما متألقا في المهام ضمن عملهما في هذه الإدارة وتلك، ستظل شارة يديهما ملازمة لفداحة الإبادة، فيما سيصير اسماهما المسؤولان عن حركة اليدين هاتين، علامتين دمويتين لقتلى غزة إلى الأبد.

بالتأكيد لا فرق بين لعنة اليدين لسيدتين كلفتا بذلك عن دموية الأيادي الأربع لرجال كلفوا بالعمل ذاته في مجلس الأمن، لكن الاختلاف هو أن تأتي رياح الصد المسمومة للمشروع الإنساني الطارئ من إشارة يدين ناعمتين، وإن في السياسة لا تأنيث ولا تذكير، أمام الفعل الواحد وهو شائن في كل الأحوال.

لعل أول فيلسوف اهتم بمسألة اليد، وأفرد لها مقالات مثل الوجود في متناول اليد، هو مارتن هايدغر، إذ إن عمل اليد لا يقتصر على إقامة الصلاة، وارتكاب الجريمة، وإعطاء التحية والإعراب عن الامتنان، وأداء القسم، والتلويح بالدليل إلى الطريق.

وبذا ففي اليد المضطلعة بجملة العلامات المتعددة، وفق هايدغر، ما يميز كينونة الإنسان إلى جانب خصيصة الكلام، ومع ذلك يلاحظ جاك دريدا، في كتابه "يد هايدغر.. أذن هايدغر": "إن كان هناك فكر لليد، أو يد للفكر، كما يوحي بذلك هايدغر، فليس بمعنى الإدراك العقلي".

يدان ضالعتان في الجريمة، تستبيحان المقتلة اليومية الكبرى، هما يدا سيدتين تخطتا حد النعومة، إلى حد شرعنة الإبادة


في استقصائه لرمزية اليد، يمضي دريدا بعيدا في الأثر اليدوي، سابغا المعنى الثقافي لليد بحسب الوظيفة والفاعلية، فمثلما هناك يد تاريخية، هناك أيضا يد فلسفية، ويد قومية، ويد خاصة، ويد عامة.

وفلسفة اليد دائما تلفي معناها الأكثر شمولية في طبيعة العلاقة بين الفكر والفعل، وفق إيمانويل كانط: اليد هي الجزء المرئي من الدماغ.

وهذا ما فصل فيه الروائي الأميركي راي برادبري في روايته "فهرنهايت 451"، عبر تشريح الفرق الجذري بين نشاط اليد المنتجة، وخمول اليد غير المبدعة، تذكرنا بشذرة لاذعة لأدونيس: اليد التي لا تكتب رِجل.

اليد أداة الأدوات عن بكرة أبيها وفق أرسطو، لكن لهيغل جدارة السبق في الخروج بمعنى اليد من دائرة الفهم الآلي، إلى مستوى العلامة، إذ يضعها مع الكلام واللغة موضع تلازم، وعبر اليد يتمرأى كل باطن، فليست اليد شيئا خارجيا بقدر ما هي شيء باطني، وعليه قام هيغل بتحويل أساسي، منطلقه اليد في بعدها الروحي، بعيدا عما هو عضوي محض.

لتاريخ اليد المرفوعة، إما كشارة نصر، أو رمز جماعة سياسية ثورية كانت أو فاشية، أشكال متعددة، جديرة بكتاب علامات وحدها، وألمعها ما ترجمته لوحات فنية، منها قبضة يد الثورة الفرنسية 1848 كما في لوحة أونوري دومييه، وقبضة اليد العاملة كما في الملصق الشهير المصمم من طرف ميهاي بيرو، عام 1912، وهي حركة رمزية من اليد تعرب عن حقوق العمال في العالم.

ويظل أعتق صدى لشعرية اليد، ما اجترحه وليام بليك في "أغاني البراءة"، عن العالم المرئي في حبة رمل، والجنة المشهودة في زهرة برية، والإمساك باللانهائي في راحة اليد، والخلود في ساعة، وهو ما اقتبسته الروائية جيوكوندا بيللي من نيكاراغوا كاستعارة لقصة الخلق في العقد القديم بالعنوان ذاته، لروايتها: "اللانهائي في راحة اليد".

وشعريا دائما، يعادل آرثر رامبو بين اليد التي تحمل قلما، واليد التي تحمل محراثا، صادحا بالقول: يا له من قرن من الأيدي!

وعودا دائريا إلى صدى البدء، فيد السياسي الأمارة بالخراب، في حالة أفدح يد امرأة رفعت ضد شعب غزة، مؤبدة بأشنع ما يكون الإبادة التي يتفنن جيش إسرائيل في كتابة فصولها الوحشية بالدم، الساعة تلو الأخرى، فألطف ما يمكن توصيفها بأنها يد الشيطان، إذا ما احتكمنا إلى أشهر يد رفعت بمهارة فنية في مباراة كرة قدم، بكأس العالم 1986، يد دييغو مارادونا مع المنتخب الأرجنتيني ضد المنتخب الإنكليزي، حينما سجل هدفا بيده، لكن بخفة ساحر، انطلت على الحكم التونسي، والجميع، فأطلق عليها توصيفا بالغ الطرافة: يد الله.

فلسفة اليد دائما تلفي معناها الأكثر شمولية في طبيعة العلاقة بين الفكر والفعل، وفق إيمانويل كانط: اليد هي الجزء المرئي من الدماغ


شتان بين اليدين، في هذا المثال الرياضي الموشوم في الذاكرة، وذاك المثال السياسي المقيت، كما نكل بشبيهاتها من الأيدي فيما مضى، الشاعر ديلان توماس، في قصيدته الموسومة بـ"اليد التي وقعت على الورقة"، احتجاجا منه على بشاعة الحرب التي ضلعت فيها أيدي السياسيين الآثمة إذ وقعت على قرار نشوبها دونما اكتراث لمضاعفاتها الوخيمة من أجل مصالح شخصية وضيعة:

"اليد التي وقعت على الورقة أسقطت مدينة

خمسة أصابع سيادية فرضت ضريبة على النفس

مضاعفة عدد القتلى في العالم

وتقسيم البلاد نصفين".

font change

مقالات ذات صلة