لا نضع طائرا كهذا في قفص

لا نضع طائرا كهذا في قفص

استمع إلى المقال دقيقة

طالما أطلقت على الكاتب المغربي محمد خير الدين الذي يشهد هذا العام الذكرى الثلاثين لوفاته (1941-1995) توصيفات من مملكة الريش، على سبيل المجاز، بالنظر إلى طينة تمرده، وعدم استقراره، واستعصاء القبض عليه ضمن نمط أحادي، وألمعها أو اللافت منها أقرب إلى طباع الطير، مثل توصيف "الطائر الأزرق" وفق ما نعته به محمد شكري في أحد الحوارات.

كذلك، "لا نضع طائرا كهذا في قفص"، العبارة المستنبتة من مخطوط يومياته 1995، التي اختارها الناشر الفرنسي كعنوان لها، وقد صدرت عام 2002، والمقصود بالطائر في العنوان الموشوم: الهدهد، بحسب يوميته بتاريخ الاثنين 21 أغسطس/آب 1995: "هذا طائر لم يخلق ليحبس داخل قفص، حسبه أن يعيش حرا طليقا"، فيما صدرت يوميات 1995 مترجمة إلى العربية بعنوان مغاير، "يوميات سرير الموت"، من اختيار مترجمها عبد الرحيم حزل عام 2004.

وقد ورد ذكر الهدهد قبلئذ في اليوميات نفسها: "داعبت الهدهد في عنقه، أغمض عينيه، ثم فتحهما ورنا إلي. أنا مولع بهذا الطائر التوراتي، ما أجمله من طائر، أجد له قداسة لا أعرف لها تفسيرا".

والطريف أن محمد خير الدين بادر بمعية الفنان الساخر أحمد السنوسي الشهير بلقب "بزيز"، إلى تأسيس جريدة ساخرة عام 1983، مزدوجة اللسان، أطلقا عليها اسم "الهدهد"، سرعان ما منعت، وهي لم تتخط عددها الـ13، إذ أمر مفوض الشرطة "بزيز" أن لا ينشر ومحمد خير الدين أي عدد قبل أن تطلع عليه الشرطة، فردّ عليه السنوسي ساخرا: لا بأس سيدي المفوض، لقد عيناك منذ الآن رئيسا لتحرير "الهدهد". ومنذئذ ماتت الصحيفة إلى الأبد.

داعبت الهدهد في عنقه، أغمض عينيه، ثم فتحهما ورنا إلي. أنا مولع بهذا الطائر التوراتي، ما أجمله من طائر، أجد له قداسة لا أعرف لها تفسيرا

ولعل في أثر هذه التسمية ما يبرر مسوغ لقب محمد خير الدين بالهدهد الطليق المتداول عند بعض مقربيه، أو بعض الإعلاميين الذين حاوروه أو كتبوا عنه بهذه الصورة وتلك.

بالعودة إلى يومياته المشار إليها آنفا، يلفتنا حضور أنيق متواتر لطائر بديع يزاحم الهدهد سحرية، أو يكاد يفوقه منزلة وفتنة في تقدير الكاتب، هو طائر الصفارية الذي يخصه بالحديث سبع مرات، وكلها في ضيعة الغزالة ببوزنيقة وهو يحل ضيفا على صديقه، بول روسلون– مهندس المياه والغابات- في فترة نقاهة:

- بدءا بـ: "سرني أن أعلم من بول بوجود طيور الصفارية هنا بين الأشجار. كانت لي قصيدة في هذا الطائر أسميتها الصفارية، ظللت أكتبها وأعيد كتابتها أيام كنت أقيم في كليشي، دون أن أفرغ منها، ثم ضاعت مني. إني مولع بهذا الطائر".

ثم انتهاء بالقصيدة التي يذيل بها يومياته:

"يغني في التينة الحارسة المرتجفة

الصفارية قرين

غصنها الراعش

يغني البريق الزائل

في الصفيحات المتماوجة

يقذفها البحر

ههنا

...

الصفارية

المنار

الهادي إلى عالم تلاشى

واندثر".

ما حضر طائر الصفارية في اليوميات إلا وكان له أثر النعمة التي يصلي من أجلها الشاعر ضحية السرطان المزمن المستفحل في شق فكه بسبب عملية قلع ضرس فاشلة، زد على ذلك تغول التهاب الأذن الحاد.

ما حضر طائر الصفارية في اليوميات إلا وكان له أثر النعمة التي يصلي من أجلها الشاعر ضحية السرطان المزمن المستفحل

الممعن في شبكة صداقات محمد خير الدين في باريس وغيرها، خاصة الشعراء من المقربين والقرناء الذين عايشهم، وتقاسم معهم لحظات صاخبة، سيسترعي انتباهه أن بعض هؤلاء الشعراء، الشهير منهم والمغمور، يتفردون بعناوين دواوين وتجارب شعرية ذات علاقة وجودية بالطير، ومنهم من قضى عمره ينجز كتابا أو معجما حول طائر بعينه، وكأن ما جذب محمد خير الدين إليهم في المضمر، هي علاقتهم المهووسة بالطير هذه، فالشاعر هنري بيشيت صاحب ديوان "أعياد الغطاس"، أخبره بأنه يصرف معظم وقته في إعداد كتاب حول طائر أبو حناء، ومارسيل بيالو شاعر الحياة الخاصة وفق كثيرين، فيما يراه محمد خير الدين شاعر الحب العجائبي كما في روايته الشعرية "عنكبوت الماء"، كان مولعا بطيور الكناري، طالما حدثه عنها باحتفال: "هذه المكبات الصفراء، تحمس يا مارسيل، الشعر دائم". ومارسيل بيالو صاحب مكتبة في شارع سان سيفيران، من أول الشعراء الذين احتفوا بقصيدة محمد خير الدين "شمس عنكبوتية"، وكان أهداه كتاب إيمي سيزير، "شمس مقطوعة الرأس"، فأعرب محمد خير الدين عن انتشائه بذلك:

غادرت المكتبة فرحا منتشيا كطائر البرقش.

فضلا عن افتتانه بطائر الصفارية الأثير، نكتشف وجها آخر لمحمد خير الدين، هو ولعه بصيد الأسماك: "نزلت في ميجيف ضيفا على جورج بواسون في فندق مون بلون، فكنت أصيد سمك الترونة، مستعملا في صيده الدود الذي أجده تحت الحجارة".

وفيما يصادف محمد خير الدين صيادين في الشاطئ ينتابه الحنين: "وأما لو أوتيت المقدرة، لوددت أن أصيد في شاطئ خال من كل إنسي، أو أصيد على الساحل في الصحراء، فهذا صيد تجد فيه متعة أن تعارك السمك الكبير، حقا لقد مضى زمن يسير لم أمسس فيه قصبة، ولا بكرة صيد، ولا ما يتصل بهما، صارت هذه الشواطئ تكاد تكون خلوا من السمك. أو يلزم المرء أن يصيد ليلا، فقد يتيسر له فيه الإمساك بثعابين البحر، أو أسماك الشارغو الصغيرة. وأما القاروس والمرجان والباجو فمكانهما في شواطئ الصحراء"، كتب متحسرا على زمن صيد سمك الشابل النادر في نهر أبي رقراق وواد سبو، بسبب تكالب مصانع الزيوت والمدابغ والشركات البيتروكيماوية، ومن مضاعفاتها تسميم طحالب البحر أيضا.

لا يني محمد خير الدين يتذكر سنوات الصيد، ويسترجع بالافا لي فلو، مقيما في شارع برادبي، بجوار حديقة بوتي-شومون، منصرفا إلى صيد فرخ الشبوط في بحيرة الحديقة إياها وغيرها.

وليس غريبا إذن أن يبادر هو والكاتب جيروم فاڤار، الذي عرفه عليه الناقد كلود بونفوا، وهما معا اشتغلا في مجلة "نوفيل ليتيرير"، بونفوا كناقد وخير الدين ككاتب عمود، فأعدا عددا خاصا من المجلة حول الصيد، هذا الذي رافقه إلى الصيد في نهر الواز، صاحب مؤلفات في الصيد وألبومات باذخة، عالما رصينا بشتى أنواع أسماك المياه العذبة، محيطا بخرائط المياه في فرنسا والنرويج وأيرلندا.

font change