غرفة التحميض

غرفة التحميض

استمع إلى المقال دقيقة

التاسع عشر من هذا الشهر، بحسب تقويم الأيام العالمية، كان اليوم العالمي للتصوير الفوتوغرافي، ويلي هذا التاريخ بسبعة أيام ذكرى ولادة أحد سحرة كتاب القصة القصيرة في الأرجنتين، 26 أغسطس/آب 1914، وما هو ببعيد عن فن الفوتوغرافيا كهاوٍ لألاعيبها في مجريات أسلوب حياته، قبل أن يكون من أبدع من احتفى بها سرديا في مجمل قصصه المتاهية، المفرطة في التجريب، دونما تفريط في معدن الحكاية النّادر.

خوليو كورتاثار (1914/1984) اسم يختزل سيرورة من الدهاء القصصي لتطور وتحول الإمكانيات الهائلة لهذا النوع الأدبي الهامشي، من أول حدود ولادته إلى حدود غسقه، تخييلا وتقنية، وهندسة حكائية، ثوّرت الشكل، وانزاحت بجمالياته صوب مآلات ذات أثر غير مسبوق.

مع قاص يحترم أدواته، يدفع بخياله جهة الخطورة اللدودة للسرد القصير، غدت القصة بفعل منجزه الحكائي الجذري، جنسا حادّا يقارع بمكره وبنيته المركبة عتاد الأنماط التعبيرية الأخرى، الأشد مراسا.

فالفانتازيا القصصية، عند هذا القاص الاستثنائي، تناقض كل واقعية زائفة حيث حقيقة الواقع لا تكمن في دراسة قوانينه بل فيما يشذّ عنها وفق مبدأ اكتشاف ألفريد غاري، وعليه فسعي خوليو كورتاثار الشّخصي كان التوجه إلى أدب يقيم على هامش كل واقعية ساذجة.

خلخلة النسق الواقعي للقصة وإحداث رجة في منظومة الأشياء العادية بتمحّص الوضعيات والرؤى، حيث لا شيء يبعث على الاطمئنان والراحة في واقع الأشياء اليومية وإنّما دائما هناك في المحصلة، احتمالات وفرضيّات وأشكال غير معتادة ولا متوقعة تنتصب خلف المشهد المألوف غير مدركة وغير مفهومة.

تعالق السرد وتراكب الأزمنة وتبادل مواقع الحكي واللعب بشتى أشكاله الخارقة في اللغة والإيقاعات والبنية، ملمح سافر من ملامح وجهه القصصي، حيث التخييل يفصح عن تخومه القصوى وحيث النص متاهة مشيدة بإحكام، تتفاعل فيها مصائر وتحتدم حيوات، مع تداخل الميتافيزيقي بالفيزيقي والعيني بالمجرد والاجتماعي بالافتراضي والسياسي بالفلسفي والذهني بالحسي والشعري بالتشكيلي.

الفانتازيا القصصية، عند هذا القاص الاستثنائي، تناقض كل واقعية زائفة حيث حقيقة الواقع لا تكمن في دراسة قوانينه بل فيما يشذّ عنها

مقدمة لا بدّ منها، للوقوف عند واحدة من قصصه الموشومة التي أفردت موضوعها التخييلي لمكر الفوتوغرافيا، لخطورة الصورة، لغرابة المصادفة، لمصائر الإجهاز على انسيابية الزمن في لقطة خالدة، لتحوّل الصورة الفوتوغرافية وقد غادرت غرفة التحميض إلى وثيقة إثبات جريمة ملتبسة، وبذا تغدو آلة الفوتوغرافيا محض سلاح حاسم في اشتباكات التحري، في ملابسات التحقيق البوليسي، وليس آلة منذورة للجمال وحسب.

قصة "لعاب الشيطان" لخوليو كورتاثار، نموذج حقيقي، لهذا التدبير السردي المختلف، تحكي عن مصوّر هاوٍ، يسترعي انتباهه امرأة وفتى في منتزه، بعد إمعان في الرؤية يسعى المصوّر إلى إنقاذ الفتى من إغراء المرأة/المومس كما ظنّ أوّل وهلة، فبالتقاطه الصورة المعوّل عليها، سيربك حسابات المرأة التي تستدرجه. لا يتردد في تصويرهما اللقطة تلو الأخرى، إلى أن يهرب الفتى بالفعل، وتشتبك المرأة في حوار محتدم مع المصور عقب ذلك، في حين يظهر رجل كان منزويا في سيارة راصدا للمشهد، ولا يدرك المصور ما يفعله هذا الرجل إلا حين يكبّر الصورة في غرفة التحميض، ويكتشف حقيقة فظيعة ثانية غير الأولى، وهي أن المرأة كانت تستدرج الفتى إلى الرجل المنزوي في السيارة بالمحاذاة، لغاية في نفسه. وعكس ما ظنّه المصور أيضا بأنه نجح في إيقاف الزمن في تلك اللقطة، ستتحرك الصورة في غرفة التحميض، ويتضح له المشهد الآثم من جديد وهو ما يشعره بأنه سقط في شركه، الشبيه بشرك لعاب الشيطان.

نص "لعاب الشيطان" محاولة جسورة لخلق التوازن بين الكتابة والصورة الفوتوغرافية وبناء فهم عميق للمشهد الذي شيّدت حوله الحكاية، فمن جهة موقع المصور ومن جهة موقع الكاتب وهما ذات واحدة، فالصورة تقبض على الزمن في لقطة والكتابة تحيي هذا الزمن بطريقتها من بعد، محاولة إيجاد تفسير منطقي لما حدث بالفعل ضمن ملابسات ذلك المشهد المبهم.

ثم تخلص القصة إلى منظر الغيوم في السماء المتقلبة كما جاء في بدايتها، تلكم البداية التي ينزع فيها الكاتب إلى التساؤل بشكل يبدو عبثيا، حول دوافع كتابة تلك التجربة وحول الطرائق التي يجب أن تُصرف بها، وهذا يأخذ حيّزا من الاستطراد القلق في مفتتحها.

محاولة جسورة لخلق التوازن بين الكتابة والصورة الفوتوغرافية وبناء فهم عميق للمشهد الذي شيّدت حوله الحكاية

منظر تقلب الغيوم في السماء هو استعارة لتقلب مزاج المصور والكاتب في آن، حيث بدا في الأول مبتهجا، سعيدا، يعتدّ بشعور الرضا كونه أنقذ الفتى بفعله الطارئ، عبر آلة التصوير الحاذقة، ثم سرعان ما ألمّ به شعور الأسى بعدها، حين يكتشف الحقيقة الخادعة التي ينطوي عليها المشهد المحتال.

لا تقف مصائر هذه القصة الفنية عند هذا الحد، إذ يقتبسها المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني، محوّلا إياها إلى فيلم سينمائي أثار جدلا واسعا، تحت عنوان الصورة المكبرة "blow-up" عام 1966، الذي صوّره في لندن قياسا إلى صخب الستينات، عاصمة الهلوسة التي ترتدي تنورة قصيرة وهي تستأثر بسديم اللذة، والمخدرات، والثقافة المضادة، في مهب استعارات موسيقية جارفة للبيتلز ورولينغ ستونز، مع أنّ وقائع قصة خوليو كورتاثار الأصلية تدور في باريس.

عُرض الفيلم في مهرجان كان في 8 مايو/أيار 1967، وعُدَّ في النقد السينمائي، أثرا بديعا لقدرة التصوير الفوتوغرافي على كشف الحقيقة (جريمة القتل)، بالمقابل، هو كذلك ينتج الوهم، فبالقدر الذي يساهم في توضيح الحقيقة، يزيدها غموضا في آن، ونلفي تأثير الفيلم في تجربتين لاحقتين له، هما "المحادثة" "The Conversation" لفرانسيس فورد كوبولا 1974، وفيلم "Blow Out" للمخرج بريان دي بالما 1981.

"لعاب الشيطان" في اللغة الإسبانية تعني السقوط في شرك محكم يصعب التخلص أو الفرار منه، تلك هي كمائن خوليو كورتاثار السردية، الشّبيهة تماما بفخاخ شيطانية مدبرة بذهنية عاتية الدقة، لا يمكن للقارئ الانفصال عن سديم هاويتها، بعد الوقوع فيها، أو الهروب من حذاقة هندستها العنكبوتية إلا بمشقة أكيدة، تلك المشقة التي يظفر معها بمتعة أقل ما يمكن القول عنها إنها غائرة الأثر.

font change