من اللعنة إلى حصان تورينو

من اللعنة إلى حصان تورينو

استمع إلى المقال دقيقة

في المجر يكاد يكون معيار تصنيف الناس هو: من يحب المخرج بيلا تار، ومن لا يحبه، مع أن قامة روائية سامقة ملازمة له إنسانيا وإبداعيا، لا تقلّ عمقا ورعبا وغرابة، يتمثّلها رفيقه الكاتب لاسلو كراسناهوركاي، هذا الذي أمسى نجمه القطبي ينكشف بعدما شرع منجزه الروائي في حصد جوائز أدبية لاحقا، مبتدؤها "مان بوكر" 2015، وذروتها نوبل للآداب 2025.

في طليعة الصداقات العتيدة التي جمعت بين مخرج سينمائي، وروائي، واستطالت إبداعا فنيا مشتركا، ملؤه الثراء والإدهاش والجمال المختلف، تلكم التي جمعت صفوتها بين المخرج بيلا تار، والروائي لاسلو كراسناهوركاي، وكلاهما من المجر، لدرجة ورفت ظلالها من 1988 حتى 2011 مع اعتزال بيلا تار، أثمرت ستّة أفلام سينمائية ضالعة في العمق:

أولها فيلم "اللعنة" أو "الإدانة" (Kàrhozat) 1988، بنزوع سوداوي يرصد شطرا من حياة رجل منعزل اسمه كارّر، يمضي غير آبه في الوحل تحت وابل مطر، إلى أن يهتدي إلى حانة، فيغرم بمغنية، ويخطط لإبعاد زوجها عنها حتى يظفر بها وحده، لكن مصائره تنحو صوب هاوية اليأس والجنون المطبق، صورة قاتمة عن الخيانة والفساد والخسارة في بلدة تتأرجح بين فداحة الوحل، وفداحة النسيان.

وثانيها، الفيلم القصير، "القارب الأخير" 1990، احتكاما إلى قصة قصيرة لكراسناهوركاي، يرصد مغادرة آخر سفينة للميناء، مع صخب صفارات الإنذار أو التشييع، إذ علامات الخراب تفصح عن نهاية كاسحة.

وثالثها، فيلم "تانغو الشيطان" 1994، أطول الأفلام الروائية في تاريخ السينما، يستغرق سبع ساعات ونيّف، وببطء مزمن تمضي وقائعه السوداوية على مهل في قرية مجرية منسية، مع عودة شخصية غامضة تدعى إيريمياس، يوهم جماعة من القرويين المنهارين روحيا ويقودهم إلى هلاك عميم.

ورابعها، "تناغمات فيركمايستر" 2000، يستند إلى رواية "كآبة المقاومة" لكراسناهوركاي، وموجز حكايته البصرية وصول سيرك مبهم إلى قرية مجرية مهجورة، يفاجئ السكان بحوت محنط، فضلا عن الحضور الملتبس لأمير مجهول يضاعف من قلق وهلع البلدة الآيلة إلى انهيار.

ينزاح منجز بيلا تار وكراسناهوركاي إلى الحدود الجمالية القصوى، درسا تلو آخر من الدروس الكبرى في فن السينما

وخامسها، فيلم "الرجل من لندن" 2007، وكتب كراسناهوركاي نص السيناريو استنادا إلى رواية للكاتب البلجيكي جورج سيمنون، ويسرد الفيلم حكاية عامل سكك حديدية يدعى مالوين، يعثر على حقيبة مليئة بالمال، فيما كان شاهدا على جريمة قتل، فينزلق إلى دوامة من القلق، والرعب، وتأنيب الضمير.

ثم سادسها وختامها، فيلم "حصان تورينو" 2011، كتب قصته السينمائية كراسناهوركاي بطلب من بيلا تار، وهو مؤسس على حكاية حصان نيتشه في تورينو، ويرصد مشاهد أخيرة من حياة أب وابنته يمتلكان حصانا يرفض استئناف العمل، جر العربة، في عزلة قاتمة بينما ينهار العالم من حولهم.

من "اللعنة" إلى "حصان تورينو"، ينزاح منجز بيلا تار وكراسناهوركاي إلى الحدود الجمالية القصوى، درسا تلو آخر من الدروس الكبرى في فن السينما، خاصة فيما يتعلق بملمحين تجريبيين نوعيين، الأول: أسلوب التصوير المؤسس على فلسفة اللقطة الطويلة، وهو ما يعادله أسلوب الجملة الواحدة في الرواية. والثاني: الخلفية الفلسفية الممعنة في غسق الوجود، بل رعب النهايات.

ماراثونيٌّ إذن هو إيقاع اللقطة السينمائية التي يراهن عليها بيلا تار، في تَمَاهٍ مع أوديسيّة الجملة الروائية لدى قرينه كراسناهوركاي، دون الانسلاخ عن لونيْ الأبيض والأسود، فيما يرصدان  وُجودا كابوسيا من رؤية قيامية.

دون نسيان أن العبور الحاذق، الفاتن، من التخييل الروائي، إلى التخييل السينمائي، إنما فلسفته كامنة في تواطؤ بديع بين رؤيتين، محض تعالق بين الديستوبيا وبين الأبوكاليبس.

هذا التعالق النادر لرؤيتين ضاريتين في منجز فني غائر الدهشة، جعل المخرج والروائي يقترنان في متلازمة إبداعية بات توسيمها نقديا بـ: بيلا كراسناهوركاي.

هذا التعالق النادر لرؤيتين ضاريتين في منجز فني غائر الدهشة، جعل المخرج والروائي يقترنان في متلازمة إبداعية بات توسيمها نقديا بـ:بيلا كراسناهوركاي

"ليس أكثر من هذا"، وفق ما يصرّح به المخرج بيلا تار في حوار، إذ تلفتنا مفارقة جديرة بالإشارة، هي أن يكون فيلم "حصان تورينو" في مقدمة ما انتاب مخيلة المخرج، وسعى بكل هوس أن يشتغل عليه سينمائيّا، منذ البداية 1985، غير أنه تأجّل لهذا السبب وذاك، المغامرة السينمائية تلو الأخرى، إلى أن أمسى الفيلم الختامي في رصيده حينما تحقق له تصويره أخيرا عام 2011، إذ اعتزل بيلا تار كمخرج بعدئذ وإلى الأبد، وكأن حصان نيتشه الذي مهر على نهاية الفيلسوف، سيمهر على نهاية بيلا تار أيضا سينمائيّا، فيما يشبه سخرية سوداء.

"ليس أكثر من هذا"، مقولة لاسعة نبس بها بيلا تار في حوار، جديرة بأن توجز فلسفته السينمائية، في تواطؤ ملحمي مع روائية كراسناهوركاي الكابوسية:

"في عام 1985 حضرت أمسية قرأ فيها كراسناهوركاي نصوصا له، من بينها قصة عن نيتشه والحصان. أثّرت فيّ بشدّة. وبعد سنوات، عندما عدنا من برلين واشترينا بيتا ريفيا يتفرّد بإصطبل في الجوار، استعدت المشهد نفسه. قلت لكراسناهوركاي: أريد أن أعمل على هذا. فكتبنا معا موجزا: أب، ابنته، وزائر غريب–جار، عابر سبيل، لا فرق. هذا ما كنا نعرفه في 1990، كنا خلالها نعمل على تانغو الشيطان، فتركناه جانبا. أثناء تصوير الرجل من لندن، توقف العمل لمدة عام، وكان ذلك صعبا جدا، عندها قال لي كراسناهوركاي: فلنعد إلى الحصان... جلس كراسناهوركاي وكتب النص خلال أسبوعين وكان هذا مثل جلسة علاجية بديلة، وهذا ما أرسلناه للمنتجين، وقلنا لهم: لن يكون أكثر من هذا".

font change