رافاييل غروسي... قمة الصراحة الدبلوماسية

ترشح غير مستغرب

رافاييل غروسي... قمة الصراحة الدبلوماسية

ليس الدبلوماسي الأرجنتيني رافاييل غروسي بالجديد على الاضطلاع بأدوار قيادية في الساحة الدولية، فهو شخصية بارزة في صميم الجدل المحيط بطموحات إيران النووية. وطالما وجد غروسي نفسه– في منصبه كمدير عام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، الهيئة المدعومة من الأمم المتحدة لمراقبة القضايا النووية المعقدة– في خضم نقاشات حادة مع النظام الإيراني، بشأن تعاطيه مع الملفات النووية الحساسة.

وعلى مدى نحو عقدين، جادل الكثير من وكالات الاستخبارات الغربية، بأن برنامج إيران النووي ينطوي على بُعد عسكري، وأن هدفه الأخير هو إنتاج أسلحة نووية، على الرغم من تأكيد طهران المتكرر أنه مخصص لأغراض سلمية، وأدى عدم استعداد إيران لتزويد مفتشي الأمم المتحدة بكامل التفاصيل المتعلقة بأنشطتها النووية، إلى مواجهات ساخنة مع الوكالة بشأن النوايا الحقيقية للنظام الإيراني.

تولّى غروسي إدارة الوكالة في ديسمبر/كانون الأول 2019، ومنذ ذلك الوقت، وهو يجد نفسه في قلب مواجهة آخذة في التصاعد بين إيران والغرب، ولا سيما بعد عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض مطلع هذا العام. وكان من أبرز قرارات ترمب خلال ولايته الأولى، الانسحاب من الاتفاق النووي المثير للجدل، الذي كانت إدارة أوباما قد تفاوضت عليه مع طهران، والذي نص على أن تحد إيران من أنشطة تخصيب اليورانيوم– وهي عملية حاسمة في تطوير الأسلحة النووية– مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية.

وقد دفع انسحاب ترمب من خطة العمل الشاملة المشتركة عام 2018 إيران إلى استئناف تخصيب اليورانيوم بمستويات تجاوزت بكثير حدود الاستخدامات السلمية. وأسفر ذلك عن نشر الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في مايو/أيار الماضي، تقريرا حادا خلص إلى أن "إيران هي الدولة الوحيدة غير النووية في العالم، التي تنتج وتخزن يورانيوم مخصبا بنسبة 60 في المئة"، وهو ما وصفته الوكالة بأنه مثير لقلق بالغ.

وعلق غروسي على التقرير بقوله: "إن الزيادة الكبيرة، في إنتاج وتخزين اليورانيوم عالي التخصيب من قبل إيران... تثير قلقا جديا". وبعد أسابيع من صدور التقرير، شن ترمب سلسلة غارات جوية على منشآت نووية إيرانية رئيسة. وزعم ترمب لاحقا أن المنشآت "دُمرت بالكامل" بيد أن غروسي شكّك علنا في هذا التقييم، وعلّق على تصريحات الرئيس الأميركي قائلا: "بصراحة، لا يمكن للمرء أن يدعي أن كل شيء قد اختفى، ولم يعد هناك شيء".

ويدعو غروسي حاليا إيران إلى السماح لخبراء الأمم المتحدة النوويين، باستئناف عمليات التفتيش في مواقعها النووية، وسط مخاوف من أن كميات كبيرة من اليورانيوم المخصب، يؤكد الخبراء أنها تكفي لإنتاج ما لا يقل عن عشرة رؤوس نووية، قد نجت من الهجوم الذي شنّته الطائرات الأميركية والإسرائيلية على المنشآت النووية الإيرانية. وقال غروسي في مقابلة أجريت في مكتبه بفيينا هذا الشهر: "أعتقد أن هناك تفهما عاما بأن المادة لا تزال موجودة إلى حد كبير".

لم تكن في هذا القرار مفاجأة لأحد، إذ جاء بعد أشهر من التكهنات المكثفة، ولا سيما في موطنه الأرجنتين، حول نيته الترشح لهذا المنصب الرفيع


ونظرا لخبرته الطويلة في أروقة الدبلوماسية الدولية على أعلى المستويات، لم يكن مستغربا أن يعلن غروسي عن نيته الترشح لمنصب الأمين العام المقبل للأمم المتحدة. وقد أعلن عن قراره الترشح لأرفع منصب دبلوماسي في العالم، في مؤتمر صحافي خلال زيارة أخيرة إلى واشنطن، حين أخبر الصحافيين: "سأكون مرشحا لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة". ولم تكن في هذا القرار مفاجأة لأحد، إذ جاء بعد أشهر من التكهنات المكثفة، ولا سيما في موطنه الأرجنتين، حول نيته الترشح لهذا المنصب الرفيع. وقال غروسي موضحا: "بدأت العجلة تدور" وأكد أن إجراءات تأكيد ترشحه ستبدأ "خلال الأسابيع القادمة".

وكان غروسي قد لمح إلى الفكرة خلال زيارة إلى بوينس آيرس في أبريل/نيسان، لكنه أكد حينها أن القرار النهائي لم يتخذ بعد. ومن المقرر أن يصبح المنصب شاغرا في يناير/كانون الثاني 2027 مع انتهاء ولاية الأمين العام البرتغالي أنطونيو غوتيريش. وتستمر الولاية خمس سنوات مع إمكانية إعادة الانتخاب. وإذا فاز، فسيكون غروسي، المتزوج وأب لثمانية أبناء، ثاني شخصية من أميركا اللاتينية تتولى المنصب بعد البيروفي خافيير بيريز دي كويار.

أ.ف.ب
رافائيل غروسي اثناء اجتماع استثنائي لمجلس محافظي الوكالة، وذلك في مقرها الرئيسي في فيينا، النمسا، 23 يونيو

ويقوم تقليد غير مكتوب في الأمم المتحدة، على مبدأ التناوب الجغرافي. وبما أن المنصبين الأخيرين تولاهما مرشحان أوروبيان، يسود شعور قوي في مقر المنظمة الدولية في نيويورك، بأن الدور المقبل يجب أن يذهب إلى الكتلة الإيبيرية-الأميركية. ومع النفوذ الأميركي الكبير في المنظمة، لا يتوقع أن تقدم واشنطن مرشحا من جانبها.

يقوم تقليد غير مكتوب في الأمم المتحدة على مبدأ التناوب الجغرافي. وبما أن المنصبين الأخيرين تولاهما مرشحان أوروبيان، يسود شعور قوي في مقر المنظمة الدولية في نيويورك بأن الدور المقبل يجب أن يذهب إلى الكتلة الإيبيرية-الأميركية

وخلال مؤتمره الصحافي، أشار غروسي إلى أنه ناقش ترشحه مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، رغم عدم وجود مؤشرات على استعداد إدارة ترمب لدعمه رسميا. ومن المؤكد أن ترشيحه سيقابل بريبة في طهران، حيث شكلت انتقاداته المستمرة لسلوك إيران النووي مصدر توتر دائم مع الغرب.

وُلد غروسي في الأرجنتين عام 1961، وتخرج من الجامعة الكاثوليكية البابوية في بلاده عام 1983 بشهادة البكالوريوس في العلوم السياسية، قبل أن يلتحق بالسلك الدبلوماسي الأرجنتيني عام 1985. ونال في عام 1997 من جامعة جنيف، ومعهد الدراسات الدولية العليا، درجتي الماجستير والدكتوراه في التاريخ والعلاقات الدولية والسياسة الدولية. وإلى جانب لغته الأم الإسبانية، يجيد الفرنسية ويتحدث الإنكليزية والهولندية والألمانية بطلاقة.

ورغم شغله مناصب دبلوماسية رفيعة، من بينها تعيينه سفيرا للأرجنتين في النمسا عام 2013، فقد تركزت مسيرته على قضايا منع الانتشار النووي، وأسلحة الدمار الشامل. وقبل انتخابه مديرا عاما للوكالة الدولية للطاقة الذرية، شغل منصب الرئيس المعين لمؤتمر مراجعة معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية لعام 2020. وبين عامي 2014 و2016، ترأس مجموعة الموردين النوويين، وكان أول من يتولى رئاستها لدورتين متتاليتين. وبعد خدمته كسفير في النمسا، أصبح الممثل الأرجنتيني لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وغيرها من المنظمات الدولية في فيينا.

ومن عام 2010 إلى 2013، تولى منصب المدير العام المساعد للسياسات ورئيس الديوان في الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وقبل ذلك، عمل رئيسا للديوان في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية في لاهاي بين عامي 2002 و2007. وفي مراحل سابقة، خدم في وزارة الخارجية الأرجنتينية، بما في ذلك ترؤسه البعثة في بلجيكا ولوكسمبورغ بين 1998 و2002، ومثّل بلاده لدى حلف شمال الأطلسي بين 1998 و2001.

في حال اختياره، سيرتقي غروسي بمسيرته المهنية إلى مستوى جديد، إذ سيكون مطالبا بالتعامل مع تحديات تتجاوز نطاق الحد من انتشار الأسلحة النووية، مثل النزاع في غزة والحرب في أوكرانيا. وعلى الرغم من اكتسابه شهرة واسعة بفضل صراحته خلال توليه إدارة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن المنصب الأممي قد يتطلب منه تبني نهج دبلوماسي أكثر تحفظا، إذا أراد الإسهام في حل بعض من أعقد أزمات العالم المعاصرة.

font change

مقالات ذات صلة