صوت هند رجب

صوت هند رجب

استمع إلى المقال دقيقة

إذا كان هناك من سمة أساسية في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة، فهي عدد الأطفال الذي قتلوا ويقتلون يوميا، إذ بلغ عددهم، بحسب الأمم المتحدة، 44 في المئة من مجموع القتلى المدنيين، فإذا سلمنا بالأرقام الحالية التي يعتقد أنها في حقيقة الأمر أكبر بكثير، نظرا إلى من لا يزالون تحت الأنقاض ومن لم تشملهم الإحصاءات بسبب ضراوة الحرب واتساع رقعتها، فقد قتل حتى الآن ما لا يقل عن ثلاثين ألف طفل، وهو رقم مهول بكلّ المقاييس وبالمقارنة بجميع الحروب السابقة على مستوى العالم. تكفي المقارنة مع حرب أوكرانيا التي تفيد تقارير بمقتل نحو 650 طفلا منذ بدايتها، حتى تنجلي حقيقة هذه المقتلة، وحتى نفهم جزئيا لماذا يصعب على إسرائيل أن تدفع عن نفسها تهمة ارتكاب الإبادة الجماعية في غزة.

يأتي التفاعل غير المسبوق مع فيلم التونسية كوثر بن هنية "صوت هند رجب" خلال عرضه الأول ضمن مهرجان فينيسيا السينمائي، ليعكس حجم الصدمة العالمية من فداحة الجريمة. صفق الجمهور بعد مشاهدة الفيلم (الذي فاز بجائزة الأسد الفضي) لـ24 دقيقة، ومن بين هؤلاء نخب معروفة في صناعة السينما على مستوى العالم. لا نعرف ما إذا كان التصفيق بسبب جدارة الفيلم فنيا، فنحن لم نشاهده بعد لنحكم عليه، أو بسبب القضية التي يتناولها، إلا أن مجرد عرض تفاصيل قصة الطفلة هند كاف لتحقيق هذا التفاعل. نحن لسنا فقط أمام جريمة قتل يمكن للمسؤولين الإسرائيليين ومن يؤيدهم نسبها إلى "الأعمال الحربية"، وهي الحجّة التي لا يملّون من استخدامها، بل نحن أمام عملية قتل متعمدة، بطيئة، تدريجية، باردة، وحشية، شاهد العالم وقائعها لساعات بينما تقع على أرض الواقع.

الأرجح أن ما شاهده جمهور فينيسيا هو إعادة سرد لهذه الوقائع التي لم تُنس أساسا. فما تفاعلوا معه ليس أمرا منسوبا للذكرى أو لفكرة تحقيق عدالة رمزية ما للضحية، بقدر ما هو صرخة ألم واحتجاج حقيقية على استمرار المقتلة. لسنا هنا أمام إحياء ذكرى، بل أمام استحضار لما يجري في اللحظة الراهنة وما سيجري غدا وبعد غد، إذ قتل يوم عرض الفيلم، كما في كل يوم آخر، ما معدّله 100 مدني، جلهم من الأطفال، ومنهم من قضوا ويقضون بسبب الجوع، هذا دون أن نأخذ في الحسبان الأطفال الذين يُجرحون ويتعرضون للتشويه وتبتر أطرافهم أو في الحدّ الأدنى يصبحون أيتاما. أما من يبقون أحياء فهم إما ينتظرون مصيرهم المحتوم وإما يعانون لعنة التشرد والنزوح والجوع والمرض.

نحن لسنا فقط أمام جريمة قتل يمكن للمسؤولين الإسرائيليين ومن يؤيدهم نسبها إلى "الأعمال الحربية"، بل نحن أمام عملية قتل متعمدة، بطيئة، تدريجية، باردة، وحشية، شاهد العالم وقائعها لساعات


غير أن الأشدّ تأثيرا في قصة هند رجب، وفي صوتها الباقي، هو حجم الرعب الذي عاشته، والذي ما زال يعيشه مئات آلاف الأطفال الفلسطينيين. حروب الإبادة، في جوهرها، تقضي على هذا الصوت الفردي. لا يعود صوت الفرد مهماً ولا اسمه ولا صفاته، فهو مجرد واحد من آلاف. نشرات الأخبار اليومية الآتية من غزة، والمتضمنة حصاد القتلى، تزيد الأمر تعميما، إذ تشير إلى عشرة أو عشرين طفلا قتلوا اليوم، وكذا تفعل الصور ومقاطع الفيديو. نرى ثلاثة أو أربعة أو خمسة أطفال قتلى ممددين أرضا جنبا إلى جنب، أو مكفنين بالبياض يبكيهم من بقي من أهلهم. يختفي صوتهم وتضيع أسماؤهم في زحمة الأسماء. اسم هند رجب، وكل عمل فني أو تأريخي أو توثيقي مرتبط به، يقلب هذه المعادلة، ليقول إن كلّ اسم مهم، وكلّ روح تزهق لها قصة، وإن الأمر لم ينته عند هذا الحدّ.

هنا تتجلى أهمية ملايين الأصوات حول العالم، التي لا تكتفي بالاحتجاج والرفض والشجب، بل تدرك أن عليها فعل أقصى ما تستطيعه، أولا لوقت الحرب، وبالتزامن مع ذلك لعدم السماح بأن يكون الضحايا مجرد أرقام عابرة في خبر عاجل، ولولا أصوات الضمير الصادحة هذه، لما ولدت "مؤسسة هند رجب" وغيرها من الجمعيات الحقوقية والإنسانية، ولما كنا ما نزال نسمع صوت هند رجب يصرخ في البشرية برمتها بأن ثمة إبادة ترتكب، وبأن هناك الآلاف من هند رجب قتلوا، والآلاف غيرها سيقتلون إن لم تتوقف هذه الحرب.

الأمر الآخر الجوهري في قضية هند رجب، هو أنه وفي حين تسلط الضوء على الضحايا، فإنها لا تغفل عن القتلة. أصبحت "مؤسسة هند رجب" كابوسا يطارد الجنود والمسؤولين الإسرائيليين. لم تعد أسماء الضحايا وظروف قتلهم معروفة فحسب، بل باتت معروفة كذلك أسماء القتلة، بمن فيهم الجنود الذي أطلقوا الـ355 رصاصة على جسد هند رجب، وبتنا نسمع عن المطالبة بالقبض على هذا الجندي أو ذلك الضابط، وهو يقضي إجازته في بلد ما، بسبب شبهات مشاركته في حرب الإبادة. هذا أيضا غير مسبوق، إذ إن الحرب مستمرة، والجهود الإسرائيلية للتعتيم على فظاعاتها هائلة ومستمرة، وقد أدرك الحليف الأميركي أن إسرائيل تحتاج إلى دعم يتجاوز الدعم العسكري والاقتصادي والدبلوماسي والإعلامي، فرأينا الخزانة الأميركية تفرض أخيرا– على نحو غير مسبوق أيضا– عقوبات على 3 منظمات حقوقية فلسطينية. كل هذا يدلّ على حجم الضرر الذي لحق بإسرائيل وحلفائها، وأيضا على حجم القلق من المحاسبة الآتية على جرائم الحرب. 

لم تعد أسماء الضحايا وظروف قتلهم معروفة فحسب، بل باتت معروفة كذلك أسماء القتلة، بمن فيهم الجنود الذي أطلقوا الـ355 رصاصة على جسد هند رجب


هذا كله ليس بالأمر العادي. عادة تتطلب مثل هذه الأمور سنوات، وهي ربما المرة الأولى في تاريخ الحروب التي تظهر فيها الحقيقة لحظة تلفيق الكذبة، والتي تُعيّن فيها الضحية بالاسم، ويُعيّن القاتل أيضا، لا بوصفه مجرد جندي ينفذ الأوامر، بل بوصفه جزءا من آلة قتل إجرامية لا تعرف الحدود، وقد رأينا من تصريحات الجنود الإسرائيليين المشاركين في الحرب ومن تصرفاتهم الهستيرية، ما يكفي لإدانة شخصية لكل واحد منهم، إذ بيّنت الوقائع أنهم لا يحتاجون إلى أوامر عليا للقتل، بقدر ما أن تلك الأوامر العليا تلبّي ثقافة قتل وإبادة متأصلة في كل واحد منهم.

font change