تكلفة الوحدة... أزمة صحية صامتة وعبء اقتصادي كبير

ثمن باهظ يُدفع بالصحة والاقتصاد

Chiara Vercesi
Chiara Vercesi
تأثير الوحدة على التكاليف الصحية يختلف حسب العمر

تكلفة الوحدة... أزمة صحية صامتة وعبء اقتصادي كبير

في زحمة المدن وضجيج الحياة الحديثة، قد يجد الإنسان نفسه محاطا بالآلاف لكنه يشعر وكأنه وحيد في عالمه. فالوحدة ليست مجرد غياب للأصدقاء أو الأسرة، بل هي فراغ داخلي يتسلل إلى النفس ويثقل القلب، حتى في أكثر اللحظات ازدحاما. هي إحساس صامت قد لا يرى بالعين، لكنه يترك بصماته واضحة على الصحة والعقل والجسد.

ولأنها تجربة إنسانية مشتركة، يعيشها الشاب في بداية حياته كما يعيشها المسن في شيخوخته، أصبحت الوحدة اليوم قضية أكبر من مجرد شعور عابر. إنها أزمة اجتماعية وصحية تستحق أن توضع في صدارة الاهتمام.

تكاليف الوحدة لا تقاس فقط بما يهدر من طاقة الحياة نفسها. فالوحدة تسرق من العمر معناه قبل أن تسرق من الجسد صحته، ولكنها تقاس أيضا بما ينفقه الإنسان على الأطباء أو بما يثقل كاهل أنظمة الصحة، وكأن الإنسان حين يحرم من دفء الآخرين يدفع ثمنا مضاعفا، ماديا يظهر في فواتير العلاج وزيارات المستشفيات، ومعنويا يتجسد في انكسار الروح وتراجع جودة الحياة.

وفي جوهرها، تذكرنا الوحدة بأن الوجود البشري ليس قائما على الفرد وحده، بل على شبكة من الروابط التي تمنح الحياة قيمتها، فإذا انقطعت تلك الشبكة أصبح الإنسان أغنى بالوقت لكنه أفقر بالمعنى.

تحذر منظمة الصحة العالمية من خطورة العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة، مؤكدة أن تأثيرهما لا يقتصر على الجانب النفسي فحسب، بل يمتد ليضر بالصحة الجسدية ويقلل متوسط العمر المتوقع. تشير تقديرات المنظمة إلى أن الوحدة تتسبب في نحو 870 ألف حالة وفاة سنويا، فضلا عن تكاليف اقتصادية هائلة تتحملها المجتمعات في مجالات الرعاية الصحية والتعليم وفرص العمل.

وقد كشفت دراسة علمية جديدة نشرت في دورية "بلوس وان" أن الشعور بالوحدة لا يقتصر فقط على المعاناة النفسية والاجتماعية، بل يترك آثارا ملموسة على الصحة العامة والاقتصاد الوطني، حيث يكلف الأفراد الذين يعانون من الوحدة نظام الرعاية الصحية البريطاني ما يقرب من 850 جنيها إسترلينيا إضافيا سنويا، مقارنة بغيرهم.

ما هي الوحدة؟

دخل العالم العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين أمام واقع جديد، فالشيخوخة لم تعد شأنا فرديا بل قضية جماعية، تفرض نفسها على الأنظمة الصحية والاقتصادات والمجتمعات. تشير التقديرات إلى أن عدد من تجاوزوا سن الـ 60 عاما سيصل إلى 2.1 مليار نسمة في حلول 2050، مقارنة بـ 1.4 مليار في 2019. هذه الطفرة الديموغرافية تعني أن نحو خمس سكان العالم سيكونون من كبار السن، وهو تحول غير مسبوق في التاريخ الإنساني.

يعرف الشعور بالوحدة بأنه تجربة ذاتية تعبر عن الفجوة بين العلاقات الاجتماعية التي يرغب بها الفرد وتلك التي يمتلكها فعليا. بالتالي، قد يشعر الفرد بالوحدة دون أن يكون معزولا اجتماعيا، لأن الوحدة تشمل جودة التفاعل الاجتماعي إلى جانب كميته.

على الرغم من أن الشعور بالوحدة يتأثر به المتقدمون في السن بشكل أكبر، تؤكد العديد من الأبحاث على أهمية النظر في الوحدة في جميع الفئات العمرية نظرا لتأثيراتها الواسعة، والعلاقة غير الخطية مع العمر

وقد اعترفت منظمة الصحة العالمية بشكل متزايد بأن الوحدة هي "مشكلة صحة عامة وقضية سياسات ذات أولوية"، كما اعترفت بها كقضية رئيسة متقاطعة مع أهدافها في "عقد الأمم المتحدة للشيخوخة الصحية" والممتد ما بين 2021-2030.

وتبرز الدراسات العلمية أن وتيرة الشيخوخة ليست متساوية عبر العالم. ففي أوروبا وآسيا الشرقية تشهد أعلى نسب المسنين -أكثر من 25% من السكان- بينما أفريقيا جنوب الصحراء لا تزال الأصغر عمرا (أقل من 5%). لكن حتى هناك، ستتضاعف أعداد كبار السن مرات عدة في العقود المقبلة.

لكن؛ وعلى الرغم من أن الشعور بالوحدة يتأثر به المتقدمين في السن بشكل أكبر، تؤكد العديد من الأبحاث على أهمية النظر في الوحدة في جميع الفئات العمرية نظرا لتأثيراتها الواسعة، والعلاقة غير الخطية مع العمر، حيث تظهر ذروات في الأعمار المبكرة والمتوسطة والمتقدمة. وبالإضافة إلى ذلك، زادت الحكومات الوطنية، مثل المملكة المتحدة، مؤخرا من اهتمامها بالوحدة في صنع السياسات، وأعطت الأولوية لتحسين قاعدة الأدلة.

وهناك أدلة متزايدة على التأثير الضار للوحدة على الصحة، حيث ترتبط الوحدة بالحالات الصحية السيئة بما في ذلك الوفاة لأي سبب، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والصحة العقلية. كما تشير الأبحاث إلى أن الوحدة مرتبطة بجودة حياة أسوأ.

وعلى الرغم من أن تعريف جودة الحياة متنوع، إلا أنها مقياس ذاتي لرفاهية الفرد يتضمن الرفاهية الجسدية، والاجتماعية، والروحية، والعاطفية على سبيل المثال لا الحصر. كما تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن جودة الحياة تتأثر بإدراك الفرد لموقعه في سياق الثقافة، والتوقعات، والمعايير، والاهتمامات.

جودة الحياة

وقد وجدت الأبحاث السابقة أن العلاقة بين الوحدة وانخفاض جودة الحياة تكون قوية بشكل خاص عند النظر في الجوانب العاطفية للوحدة والصحة العقلية. ومع ذلك، يقتصر هذا البحث على كبار السن ويُشجع على إيلاء اهتمام أكبر للخصائص الاجتماعية والديموغرافية، مما يشير إلى الفائدة من النظر في الاختلافات المرتبطة بالعمر في تقييم الوحدة وجودة الحياة.

shutterstock
تركز الأبحاث على كبار السن مع فهم محدود لعامة السكان أو استخدام خدمات الرعاية الصحية

كما أن الأبحاث في كبار السن المصابين بأمراض الشريان التاجي للقلب وجدت أن الوحدة في الأساس تتنبأ بجودة الحياة الجسدية والعقلية، وتبقى ذات دلالة إحصائية عند التعديل لعامل الاكتئاب، والذي يمكن أن يكون مؤشرًا على الوحدة.

هناك فائدة من النظر في تأثير الوحدة على استخدام موارد الرعاية الصحية في البلدان التي تكون فيها الرعاية الصحية مجانية عند الحاجة، حيث تكون الضغوط المالية المرتبطة باستخدام الرعاية الصحية أقل

تركز الأبحاث حتى الآن حول العلاقة بين الوحدة وجودة الحياة على كبار السن، مع عدد قليل من الدراسات وفهم محدود للارتباط في عامة السكان. وفي الوقت نفسه، حددت الأبحاث حول انتشار الوحدة وجود علاقة غير خطية مع العمر، مما يعزز الحاجة إلى دراسة ارتباطاتها على مدار الحياة. ويتم تعزيز ذلك بشكل أكبر من خلال مؤشرات الى أن العوامل المتعلقة بالوحدة يمكن فهمها من منظور معياري حسب العمر، مثل الصحة المتصورة، والصحة السيئة، والقيود الوظيفية، التي ترتبط بالوحدة بدرجات مختلفة في الأعمار المختلفة.

هناك أيضا بعض الأدلة على أن الوحدة يمكن أن تؤدي إلى الإفراط في استخدام خدمات الرعاية الصحية، حيث تعمل كمؤشر الى إعادة دخول المستشفى، وزيادة عدد زيارات قسم الطوارئ، وتكرار زيارات الطبيب العام، والإيداع في المؤسسات. وفي حين تم تحديد هذه الارتباطات بين الوحدة واستخدام موارد الرعاية الصحية، إلا أن تقدير التكلفة الزائدة المرتبطة باستخدام الخدمة محدود.

وقد أقرت مراجعة حديثة للتكاليف الاقتصادية للوحدة بأن الأدبيات في هذا المجال نادرة وتسلط الضوء على الحاجة إلى مزيد من البحث حول عبء الوحدة. وتظهر ثغرات معينة في الأدلة في هذا المجال البحثي حول تكاليف الرعاية الصحية الزائدة، والعبء الاقتصادي، وفعالية تكلفة التدخلات المتعلقة بالوحدة.

وهذا يؤكد نقص الفهم في العلاقة بين الوحدة والتكاليف المتعلقة بالصحة في عامة السكان. وتشير الأبحاث التي أُجريت في هولندا إلى أن الوحدة تزيد قليلا الاتصالات مع الأطباء العامين، وزيارات غرف الطوارئ، وأيام دخول المستشفى. ويمكن أن تتأثر هذه النتائج من هولندا بوجود نفقات رعاية صحية تدفع من الجيب ضمن خطة التأمين الأساسية، مما قد يؤثر على استخدام الرعاية الصحية.

بالتالي، هناك فائدة من النظر في تأثير الوحدة على استخدام موارد الرعاية الصحية في البلدان التي تكون فيها الرعاية الصحية مجانية عند الحاجة، حيث تكون الضغوط المالية المرتبطة باستخدام الرعاية الصحية أقل. وهذا الأمر ذو أهمية خاصة بالنظر إلى بعض الأدلة على أن الوحدة ترتبط بعدد أقل من زيارات طبيب الأسنان عندما يكون الفرد أيضا تحت ضغط مالي.

بشكل عام، فإن تأثير الوحدة واسع النطاق ومتعدد العوامل. حتى الآن، تركز الأبحاث على كبار السن مع فهم محدود لعامة السكان أو استخدام خدمات الرعاية الصحية.

نتائج صحية

وقد سعت الدراسة الجديدة إلى تقدير النتائج الصحية والاقتصادية المرتبطة بالوحدة في عامة السكان في المملكة المتحدة. وباستخدام مجموعة بيانات تنظر أولا في مقاييس الصحة، والرفاهية، وجودة الحياة لفهم ارتباط الوحدة بهذه النتائج. ثانيا، تُقدّر التكاليف المرتبطة باستخدام موارد الرعاية الصحية عبر الأفراد الذين يعانون من مستويات مختلفة من الوحدة عبر الفئات العمرية المختلفة. ومن خلال ربط هذين الهدفين، تعمق هذه الدراسة فهم كيفية تأثير الوحدة على صحة الفرد، ورفاهيته، وجودة حياته، مع تقدير تأثيرها الأوسع على نظام الرعاية الصحية العامة من خلال الاختلافات في استخدام الموارد. كما أنها تحفز الحاجة الملحة للتدخلات الفعالة من حيث التكلفة لتحسين الوحدة في سكان المملكة المتحدة.

اعتمد الباحثون على "دراسة المجتمع البريطاني الطولي" التي تضم بيانات أكثر من 23 ألف مشارك في الفترة ما بين 2021 و2023 بمتوسط عمر 50 سنة، ونسبة السيدات في العينة كانت 56%. معظم المشاركين من ذوي البشرة البيضاء (84%). أما من ناحية الوضع الاجتماعي، فالنصف تقريبا متزوجون (54%) والباقي غير متزوجين (47%). وبالنسبة للتعليم، 43% حصلوا على تعليم جامعي أو أعلى، بينما 57% لم يحصلوا على تعليم عالٍ. ثلثا العينة تقريبا كانوا في عمل أو دراسة وقت إجراء الاستبيان (65%).

60% من المشاركين نادرا ما يشعرون بالوحدة أو لا يشعرون بها أبدا، بينما 32% قالوا إنهم أحيانا يشعرون بالوحدة فيما قال 8% إنهم يشعرون بالوحدة كثيرا

تم تقييم الشعور بالوحدة بطريقتين مختلفتين، الأولى من خلال سؤال مباشر من بند واحد، والثانية باستخدام مقياس مكون من ثلاثة بنود. يطرح السؤال الأول بشكل مباشر "كم مرة تشعر بالوحدة؟" ويحتوي على ثلاثة خيارات للإجابة هي: "نادرا أو أبدا"، "بعض الوقت"، و"غالبا". أما المقياس فيتكون من ثلاثة أسئلة غير مباشرة، وهي: "كم مرة تشعر أنك تفتقر إلى الرفقة؟"، و"كم مرة تشعر أنك مستبعد؟"، و"كم مرة تشعر أنك معزول عن الآخرين؟". كل سؤال من أسئلة المقياس الثلاثة لديه خيارات الإجابة الثلاثة نفسها.

يتم حساب درجة الوحدة للمقياس بجمع إجابات البنود الثلاثة، مما ينتج منه مقياس يتراوح من 3 إلى 9، حيث تشير الدرجة الأعلى إلى مستوى أكبر من الوحدة. ولأن المقياس يعتمد على إجابات فئوية وليست بيانات متصلة، يتم تفسير درجته باستخدام الفئات الأولية. فالدرجة من 3 إلى 4 تصنف على أنها "نادرا أو أبدا"، ومن 5 إلى 7 على أنها "بعض الوقت"، ومن 8 إلى 9 على أنها "غالبا". تتيح هذه الطريقة الاحتفاظ بدقة الطبيعة الذاتية للوحدة ودرجات شدتها المختلفة، وتتوافق مع الأبحاث الحالية التي تؤكد أهمية التصنيف الفئوي، كما أنها تنسجم مع تنسيق السؤال الواحد، مما يضمن الاتساق بين الأدوات.

وقال نحو 60% من المشاركين إنهم نادرا ما يشعرون بالوحدة أو لا يشعرون بها أبدا، بينما 32% قالوا إنهم أحيانا يشعرون بالوحدة، فيما قال 8% إنهم يشعرون بالوحدة كثيرا، وظهرت النسبة نفسها تقريبا في تفاصيل أخرى مثل الشعور بالعزلة عن الآخرين أو نقص الرفقة.

وأوضحت النتائج أن الوحدة مرتبطة بشكل وثيق بمشاكل نفسية مثل الضيق والاكتئاب، إضافة إلى تدهور الصحة البدنية والعقلية بشكل عام، فالأشخاص الذين وصفوا أنفسهم بأنهم "غالبا ما يشعرون بالوحدة" كانوا أكثر إقبالا على زيارة الأطباء العامين والعيادات الخارجية وحتى دخول المستشفيات، وهو ما رفع تكاليف علاجهم بما يقارب 900 جنيها سنويا فوق المتوسط.

shutterstock
الوحدة تزيد قليلا الاتصالات مع الأطباء العامين، وزيارات غرف الطوارئ، وأيام دخول المستشفى

واحدة من الملاحظات المثيرة في تلك الدراسة، أن تأثير الوحدة على التكاليف الصحية يختلف حسب العمر. فبينما كان من المتوقع أن يظهر العبء الأكبر لدى كبار السن، كشفت الدراسة أن الفئة العمرية 16-24 عاما، أي الشباب، تكبدت أيضا تكاليف صحية إضافية تفوق أحيانا الفئات المتوسطة العمر (25-49 عاما)، مما يعني أن العلاقة بين الوحدة والتكاليف الصحية تسير على شكل منحنى U: أكثر وضوحا في بدايات العمر المتقدم ونهاياته.

والتكلفة الإضافية التي تتحملها الـمؤسسات الصحية البريطانية ليست مجرد أرقام مالية، بل تعكس أعباء متزايدة على نظام صحي يعاني أصلا من ضغوط ونقص في الموارد. الباحثون يرون أن الوحدة ليست مجرد مشكلة اجتماعية عابرة، بل قضية صحة عامة لها أبعاد اقتصادية واضحة، تستدعي إدراجها ضمن أولويات السياسات الصحية.

أكدت الدكتورة نيا موريش من جامعة إكسيتر، الباحثة الرئيسة في الدراسة، أن الوحدة تؤثر بشكل واضح على الصحة العامة والرفاهية ولا تقتصر على كبار السن فقط، بل تمتد لتشمل مختلف الفئات العمرية، حيث أثبتت البيانات أن من يعانون من الوحدة يتكبدون تكاليف صحية أعلى ويعانون من تراجع في نوعية الحياة. فيما شددت البروفسورة أنتونيتا ميدينا-لارا، المشاركة في البحث، على أن هذه النتائج تمثل جرس إنذار لصناع القرار، إذ إن الوحدة كثيرا ما يُغفل عنها رغم ما تتسبب به من أعباء شخصية ومجتمعية ضخمة، داعية إلى تبني سياسات جديدة تعزز الروابط الاجتماعية وتحسّن الصحة العامة وتخفف الضغط عن الخدمات الصحية.

font change

مقالات ذات صلة