في زحمة المدن وضجيج الحياة الحديثة، قد يجد الإنسان نفسه محاطا بالآلاف لكنه يشعر وكأنه وحيد في عالمه. فالوحدة ليست مجرد غياب للأصدقاء أو الأسرة، بل هي فراغ داخلي يتسلل إلى النفس ويثقل القلب، حتى في أكثر اللحظات ازدحاما. هي إحساس صامت قد لا يرى بالعين، لكنه يترك بصماته واضحة على الصحة والعقل والجسد.
ولأنها تجربة إنسانية مشتركة، يعيشها الشاب في بداية حياته كما يعيشها المسن في شيخوخته، أصبحت الوحدة اليوم قضية أكبر من مجرد شعور عابر. إنها أزمة اجتماعية وصحية تستحق أن توضع في صدارة الاهتمام.
تكاليف الوحدة لا تقاس فقط بما يهدر من طاقة الحياة نفسها. فالوحدة تسرق من العمر معناه قبل أن تسرق من الجسد صحته، ولكنها تقاس أيضا بما ينفقه الإنسان على الأطباء أو بما يثقل كاهل أنظمة الصحة، وكأن الإنسان حين يحرم من دفء الآخرين يدفع ثمنا مضاعفا، ماديا يظهر في فواتير العلاج وزيارات المستشفيات، ومعنويا يتجسد في انكسار الروح وتراجع جودة الحياة.
وفي جوهرها، تذكرنا الوحدة بأن الوجود البشري ليس قائما على الفرد وحده، بل على شبكة من الروابط التي تمنح الحياة قيمتها، فإذا انقطعت تلك الشبكة أصبح الإنسان أغنى بالوقت لكنه أفقر بالمعنى.
تحذر منظمة الصحة العالمية من خطورة العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة، مؤكدة أن تأثيرهما لا يقتصر على الجانب النفسي فحسب، بل يمتد ليضر بالصحة الجسدية ويقلل متوسط العمر المتوقع. تشير تقديرات المنظمة إلى أن الوحدة تتسبب في نحو 870 ألف حالة وفاة سنويا، فضلا عن تكاليف اقتصادية هائلة تتحملها المجتمعات في مجالات الرعاية الصحية والتعليم وفرص العمل.
وقد كشفت دراسة علمية جديدة نشرت في دورية "بلوس وان" أن الشعور بالوحدة لا يقتصر فقط على المعاناة النفسية والاجتماعية، بل يترك آثارا ملموسة على الصحة العامة والاقتصاد الوطني، حيث يكلف الأفراد الذين يعانون من الوحدة نظام الرعاية الصحية البريطاني ما يقرب من 850 جنيها إسترلينيا إضافيا سنويا، مقارنة بغيرهم.
ما هي الوحدة؟
دخل العالم العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين أمام واقع جديد، فالشيخوخة لم تعد شأنا فرديا بل قضية جماعية، تفرض نفسها على الأنظمة الصحية والاقتصادات والمجتمعات. تشير التقديرات إلى أن عدد من تجاوزوا سن الـ 60 عاما سيصل إلى 2.1 مليار نسمة في حلول 2050، مقارنة بـ 1.4 مليار في 2019. هذه الطفرة الديموغرافية تعني أن نحو خمس سكان العالم سيكونون من كبار السن، وهو تحول غير مسبوق في التاريخ الإنساني.
يعرف الشعور بالوحدة بأنه تجربة ذاتية تعبر عن الفجوة بين العلاقات الاجتماعية التي يرغب بها الفرد وتلك التي يمتلكها فعليا. بالتالي، قد يشعر الفرد بالوحدة دون أن يكون معزولا اجتماعيا، لأن الوحدة تشمل جودة التفاعل الاجتماعي إلى جانب كميته.