جورج بهجوري يثبت في التسعين أن الفن لا يشيخ

رسام الذاكرة المصرية في معرض جديد

Khaled DESOUKI / AFP
Khaled DESOUKI / AFP
الفنان جورج بهجوري في جلسة تصوير، القاهرة، 2022 (Photo by Khaled DESOUKI / AFP

جورج بهجوري يثبت في التسعين أن الفن لا يشيخ

في عالم الفن التشكيلي والكاريكاتور العربي يلمع اسم الفنان المصري الكبير جورج بهجوري، كأحد أهم المبدعين الذين رسموا ملامح الوعي الجمعي في مصر والعالم العربي، فهو ليس رسام كاريكاتور فحسب، بل مؤرخ بصري، التقط بريشته ولوحاته تفاصيل المجتمع المصري، وسخر من السياسة، واحتفى بالإنسان البسيط، وخلد وجوها صارت جزءا من التراث الفني والثقافي والإبداعي.

امتد عطاء بهجوري (المولود عام 1932) على مدى أكثر من سبعين عاما، وها هو يحضر اليوم مجددا، عبر معرض واسع أقيم في "إتيلييه ضي" للفنون بالزمالك، يأتي ليعيد تقديم بهجوري ليس فقط كرسام كاريكاتور لامع في الصحافة، بل كفنان شامل يختزل في لوحاته تاريخا من الإبداع الممتد بين القاهرة وباريس، بين الصحيفة والمرسم، بين التراث الشعبي وروح الحداثة.

تنوعت الأعمال المعروضة بين لوحات ورسومات بالحبر وأعمال مختلطة، وقدمت بانوراما واسعة لعالم بهجوري الفني. احتلت ملامح الوجوه المصرية مساحة كبيرة من اللوحات، حيث النساء بملامحهن القوية، والرجال بوجوههم الغائرة التي تفيض بالحكايات. كما حضرت شخصيات أيقونية في تجربة بهجوري مثل أم كلثوم التي لطالما شكلت مصدر إلهام له، فحضرت في أكثر من لوحة بألوان نابضة بالحياة وصوت يتردد في فراغ المعرض.

في كل لوحة يظهر حسه النقدي الساخر، لكنه يتجاوز اللحظة ليخلد الإنسان والمكان بروح فنية تقترب من العالمية


شهد افتتاح المعرض حضورا لافتا من النقاد والفنانين والجمهور، الذين التفوا حول لوحاته يتأملون ما تحمله من طاقة بصرية وثراء فكري. وقد وصف بعض الفنانين المعرض بأنه محطة جديدة تثبت أن بهجوري لم يتوقف عن التجريب والتجديد، رغم مسيرته التي امتدت لعقود. فمن خلال هذا المعرض، يثبت بهجوري أن الفنان الحقيقي لا يشيخ، بل تتجدد روحه مع كل لوحة جديدة. يتجلى في معرضه الحالي كما في معارضه السابقة، ذلك التداخل الفريد بين الكاريكاتور والفن التشكيلي، فتتحول الخطوط الساخرة إلى لغة بصرية ذات بعد إنساني وفلسفي.

في كل لوحة يظهر حسه النقدي الساخر، لكنه يتجاوز اللحظة ليخلد الإنسان والمكان بروح فنية تقترب من العالمية في إطار محلي فريد.

بدايات

ولد الفنان جورج بهجوري عام 1932 في قرية بهجورة بمحافظة الأقصر، ومنها اكتسب لقبه الذي صار علامة فنية يعرف بها، وبين معابد الفراعنة ووهج التاريخ القديم، تلك البيئة الغنية بالرموز والأساطير، غرس في الطفل خيال واسع، أشعل في داخله حب الرسم منذ الصغر. كان يلتقط الفحم والطباشير ليخط على الجدران ملامح وجوه البسطاء من حوله، فانعكست هذه النشأة على أعماله الأولى، لينتقل بعدها إلى مدينة القاهرة، التي كانت آنذاك مسرحا للتحولات الاجتماعية والسياسية الكبرى.

عمل لجورج البهجوري (1932–)، زيت على قماش، 143×130 سم، معروض حاليًا.

التحق هناك بكلية الفنون الجميلة وتخرج منها عام 1955، وهناك صقل موهبته أكاديميا، وتعرف الى مدارس الفن التشكيلي المختلفة، ومنها انطلق إلى عالم الصحافة، ثم واصل دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة بباريس، "البوزار"، عام 1969، حيث وجد ضالته في فن الكاريكاتور الذي جمع بين النقد الاجتماعي والسخرية المبطنة والفن التشكيلي الراقي الذي جذب الجميع الى أعماله منذ انطلاقته الأولى.

جورج بهجوري خلال تنفيذه مشروع لوحات عن المترو في باريس

في الصحافة

بدأ بهجوري مسيرته الفنية بالعمل في الصحافة منذ عام 1953 في مجلتي "روز اليوسف" و"صباح الخير" و"الأهرام" حتى عام 1975، حيث لمع اسمه كأحد أبرز رسامي الكاريكاتور في مصر، لتصبح أعماله جزءا من لغة القراء اليومية، بل تعبيرا عما يدور في حياتهم اليومية. وقد حرص بهجوري على أن يضع الكاريكاتور في مكانة راقية بوصفه فنا توثيقيا ناقدا يلتقط لحظة اجتماعية أو سياسية ليحولها إلى علامة باقية. يقول في أحد حواراته: "الكاريكاتور عندي ليس نكتة أو ضحكة عابرة، هو أقرب إلى قصيدة قصيرة مكثفة، فيها موقف وفكرة وصرخة في وجه الظلم".

في سنوات المد القومي، ثم النكسة (1967) وما تلاها من تغيرات، تحولت رسوماته إلى مرآة صادقة تعكس وجدان الشارع المصري والعربي

فن حديث ومعاصر من الشرق الأوسط، ضمن الروايات المجموعة — جورج البهجوري (مصر، 1932–)

هكذا جعل بهجوري الكاريكاتور لوحة مكتملة العناصر، تتجاوز اللحظة إلى قراءة المستقبل والحياة بكل ما فيها، ليكتسب بسرعة شعبية واسعة. إذ لم يكن القارئ يجد في رسوم بهجوري ابتسامة فحسب، بل دعوة إلى التأمل والتفكير. وفي سنوات المد القومي، ثم النكسة (1967) وما تلاها من تغيرات، تحولت رسوماته إلى مرآة صادقة تعكس وجدان الشارع المصري والعربي.

باريس والعالمية

سافر جورج بهجوري عام 1969 إلى باريس ليكمل دراسته في مدرسة الفنون الجميلة، ووجد نفسه في قلب عاصمة الحداثة الفنية في أوروبا، وهناك انفتحت أمامه آفاق عالمية. استلهم الفن الغربي من تكعيبية وسوريالية وانطباعية، كما حصل على دبلوم من لوس أنجليس بالولايات المتحدة الأميركية، لكنه ظل وفيا لجذوره المصرية، فأعاد صوغ تجاربه الجديدة بما يتماشى مع هويته المصرية، ليؤكد أن الفنان يظل حاملا ذاكرة شعبه في إبداعه وأعماله الفنية.

وقال بهجوري عن إقامته في فرنسا: "باريس أعطتني الحرية الكاملة كفنان، لم يسألني أحد هناك: لماذا ترسم بهذا الشكل؟ أو كيف تعبر؟ كانوا يتركونني لخيالي وطفولتي الدائمة، ومن هنا جاءت لوحاتي خليطا بين السخرية المصرية والمدرسة التكعيبية والحداثة الأوروبية".

Khaled DESOUKI / AFP
الفنان التشكيلي جورج بهجوري خلال جلسة تصوير في القاهرة، 2022

وعلى الرغم من سنوات إقامته في باريس، ظل بهجوري مسكونا بمصر وشخصياتها، من أبرز أعماله سلسلة بورتريهات عن أم كلثوم التي رسمها بعشرات الأشكال من التكعيبي إلى التجريدي، وعبد الناصر ونجيب محفوظ ومحمد عبد الوهاب، ويوسف إدريس، وصلاح جاهين، وغيرهم من رموز الفن والإبداع كالفنان عمر الشريف وعماد حمدي وهند رستم ونادية لطفي، مؤكدا في الكثير من لقاءته أنه كلما أمسك بالريشة في مرسمه في باريس، كان يجد مصر تخرج من تحت يديه: نيلها، أهراماتها، شوارعها، ومقاهيها الشعبية، كأنها قدر لا فكاك منه أمام أعماله في محاولة لالتقاط جوهر الشخصية لا مجرد شكلها.

سخر من الطغاة ودافع عن الفقراء واحتفى بالموسيقى والحياة الشعبية واليومية للمصريين


في الكثير من أعمال بهجوري تتشابك خطوط الكاريكاتور مع ملامح المدرستين التكعيبية والانطباعية، فيجد المتلقي نفسه أمام مزيج فني خاص لا يشبه إلا صاحبه. يبالغ في الملامح ليكشف جوهر الشخصية، ويستعين بالألوان الصاخبة لتكثيف الحالة الشعورية. وظل طوال مسيرته شاهدا على التحولات السياسية والاجتماعية في مصر والعالم العربي. وسخر من الطغاة، ودافع عن الفقراء، واحتفى بالموسيقى والحياة الشعبية واليومية للمصريين. لذلك لم يكن غريبا أن يطلق عليه لقب "بيكاسو الكاريكاتور العربي".

يعتمد بهجوري المبالغة في الملامح، فيكبر الأنف أو العين، لا بهدف السخرية فقط، بل للكشف عن جوهر الشخصية وعمقها النفسي. كما يستخدم الألوان القوية والمتداخلة ليصنع حالة من الصخب البصري، وكأنه يقول إن الحياة نفسها خليط من الفوضى والجمال.

رموز وأناس عاديون

من أبرز ملامح تجربة بهجوري الفنية عشقه الكبير لسيدة الغناء العربي أم كلثوم، حيث رسمها في عشرات اللوحات، بأوضاع وملامح مختلفة، وكأنه يحاول أن يخلد صوتها بريشته. في أحد لقاءاته قال: "كنت أرى في صوت أم كلثوم مصر كلها، لذلك أردت أن أجعل صورتها جزءا من ذاكرة المصريين البصرية كما هو صوتها في ذاكرتهم السمعية"، حيث قال: "أم كلثوم ليست فقط مطربة، بل هي تمثال من الصوت، كل خط في وجهها يحمل موسيقى خاصة".

من أعمال جورج بهجوري

لم يتوقف بهجوري عند رسم الرموز فقط، بل التفت أيضا إلى حياة الناس العاديين. رسم الأحياء البسيطة والمقاهي الشعبية، والأسواق، والباعة الجائلين، والموسيقيين في الشوارع، ليقدم عبر لوحاته ما يمكن أن يكون صورة بانورامية للحياة اليومية في مصر عبر سنوات طويلة. وهكذا، أصبح بهجوري شاهدا على تفاصيل الحياة الصغيرة التي تصنع تاريخا موازيا لا تكتبه الكتب، بل تحفظه الفنون وريشة الفنان المهموم بالناس وتفاصيل حياتهم اليومية.

فضح القبح بابتسامة

وجّه بهجوري في كثير من أعماله، نقدا مباشرا الى السلطة الحاكمة كما وجه النقد إلى السياسة وأهلها والقائمين عليها، وسخر من الطغاة والفساد. لكنه لم يكن ناقدا غاضبا، بل فنانا ساخرا يفضح القبح بابتسامة. كان يرى أن السخرية أكثر فاعلية من الغضب، وأن الفن يستطيع أن يقول ما لا تستطيع السياسة التصريح به والتعبير عنه بريشته وإبداعه.

تربت على يديه أجيال كاملة من رسامي الكاريكاتور والفنانين التشكيليين الشباب، الذين وجدوا فيه نموذجا للفنان المتمرد والمخلص لفنه


شارك بهجوري في مئات المعارض داخل مصر وخارجها، من القاهرة إلى باريس، ومن بيروت إلى نيويورك، كما حصل على جوائز عديدة، محلية وعالمية، ورغم كل هذا، ظل يؤكد أن أعظم تكريم بالنسبة اليه هو أن يرى الناس يتوقفون أمام رسوماته ويبتسمون أو يتأملون ما رسمه أو ما عرضه لهم في الصحف والمجلات أو في المعارض التي أقامها طوال مشواره الفني. ورغم تجاوزه التسعين من عمره، لا يزال حاضرا في المشهد الثقافي المصري، مؤكدا دائما أن الفنان الحقيقي لا يتقاعد، بل يواصل الرسم حتى آخر نفس له في الحياة.

ولم يتوقف بهجوري عند الريشة فقط، بل كتب نصوصا موازية لمسيرته، مثل "بهجوري في المهجر"، "باريس"، "أيقونة شعب"، "أيقونة الجسد"، و"بورسعيد"، ومزج في هذه الكتب بين السيرة الذاتية واليوميات والتأملات الفنية، كاشفا عن عقلية فنان يرى أن الإبداع "حياة كاملة لا تنفصل فيها الكلمة عن الخط".

من أعمال جورج بهجوري

أخيرا، يتبين من خلال هذا المعرض الأخير في القاهرة، أن ما قدمه جورج بهجوري ليس مجرد رصيد من اللوحات والرسوم، بل إرث بصري كامل للحياة المصرية والعربية. إرث يخلد وجوه رموزها، كما يوثق لحظاتها التاريخية، ويحتفي بإنسانها البسيط. وهذا كله جعل منه مدرسة قائمة بذاتها، تربت على يديه أجيال كاملة من رسامي الكاريكاتور والفنانين التشكيليين الشباب، الذين وجدوا فيه نموذجا للفنان المتمرد والمخلص لفنه وإبداعه ووطنه في آن واحد.

font change

مقالات ذات صلة