التشكيلي المصري مصطفى ربيع واللوحات المضادة للكوابيس

منمنمات ترتحل في فضاء الفرح

التشكيلي المصري مصطفى ربيع

التشكيلي المصري مصطفى ربيع واللوحات المضادة للكوابيس

لطالما كانت البهجة الحقيقية أو المرجوة، الرافد الأبرز في لوحات الفنان التشكيلي المصري مصطفى ربيع، منذ بداية مسيرته الفنية. البهحة باتت بمرور السنوات موقفا وجوديا أمام الحزن والألم والخسارات التي نعيشها في عالمنا المعاصر ضروبا وأصنافا متنوعة. قدم الفنان الشاب أخيرا معرضا في صالة "موشن آرت غاليري" في القاهرة عنونه بـ"منمنمات مصطفى ربيع" جمع فيه أعمال لم تخرج من منطق الترحال في عالم البهجة البسيطة واليومية المحتفلة بذاتها وتلك المهددة بالتلاشي.

قلبا وقالبا

فضول دفعنا إلى محاورة الفنان في محاولة لمعرفة إن كان مصطفى ربيع يشبه لوحاته التي تدخل الفرح إلى قلوب الناظرين إليها، فلمسنا كيف تمكن من الحفاظ على عالم طفولي ساحر دون أن يقف على عتبة نكران ما يحدث من مآس في العالم أو التغاضي عنها. أجاب لدى سؤالنا عما تعني السعادة له بأنها "ليست حالة واحدة وتظهر في أشكال مختلفة، أي يمكن أن تكون لحظات قليلة تترك أثرها في نفوسنا إلى الأبد. لحظات هي أشبه بالساعات التي قد تمتد إلى أيام وصولا إلى شهور وسنوات من عمر الإنسان. كما قد تكون السعادة حالة شاملة يعيشها إنسان ما حتى وإن كانت تشوبها فترات متقطعة من الحزن. وتختلف السعادة باختلاف نفوس البشر وتجاربهم الشخصية. فمثلا، بالنسبة إليّ، مشهد البحر بزرقته وأمواجه هو مشهد مبهج جدا مثل عناصر طبيعية أخرى. أما التحضير لمشروع فني والانغماس في مراحل تنفيذه مع ما يرافق ذلك من إرهاق جسدي وانشغال فكري وعاطفي، فهو أيضا مصدر سعادة كبيرة، لا بل أقول إن ذلك النوع من الإرهاق والتعب المرافقين للعمل الفني محببان ويشحناني بطاقة تعدني بولادة مستقبلية لأعمال جديدة ومنعطفات تزرع بذورها في مسيرتي الفنية المستقبلية".

يبتعد الفنان عن عوالم الميتافيزيقيا والإشارات الغيبية التي تعج بالظلال الداكنة ليدخل إلى عالم الغرابة والأحلام المشبعة بالألوان

الفرح الذي يكثر ظهوره في لوحات الفنان هو فرح أرضي مأسور بالمؤقت. فمن على صهوة حصانه الفضي يبتعد الفنان عن عوالم الميتافيزيقيا والإشارات الغيبية التي تعج بالظلال الداكنة ليدخل إلى عالم الغرابة والأحلام المشبعة بالألوان التي يغشى معظمها ضباب رملي يحيلنا إلى مناخ مصر الحار وإلى الجغرافيا الصحراوية، ويخفف وتيرة التشنج في لوحاته، التي قد تحدثها أي ألوان فاقعة قد يستخدمها. فشخوص مصطفى ربيع تشهر قدرتها الفائقة على إقامة علاقة "حسن جوار" مع كل ما يمكن أن يشوب العلاقة مع العالم من سوء فهم وتفاهم أو اختلاف في الرأي. ولا ننسى تصفيفة شعر شخوصه الظريفة التي مهما تكررت لا تصبح مملة وتبقى منسجمة مع عالم فيه من الاستدارات أكثر مما فيه من الزوايا الحادة والخطوط المتشابكة والمتنافرة.

لوحة لمصطفى ربيع

التجريد كتهديد

أما ما أصاب أعماله الفنية من تحول في التشكيل والمضمون على السواء (لا سيما في بعض أعماله الأخيرة) التي تلت معرضه الأخير،  فربما يكون نتيجة اجتياح الضربات القصيرة مزاج ريشته بأنصاف استدارات غزيرة خنقت فضاء لوحاته. الشخوص المرسومة في هذه الأعمال شبه ذائبة في الخلفيات ومحاصرة بمواد لونية تريد أن تكون الناطقة الوحيدة بأحوال اللوحة، بصرف النظر عن الشخوص المتسيدة، في الظاهر فقط، معالم العمل الفني. شخوص فرض عليها أن تكون حضورا تزينييا ربما لرغبة من الفنان في افتعال تجريدية فنية ما، سلبت على الأرجح قسطا مهما من جمالية الأعمال الفنية.

أما حول تأثر مضمون لوحاته بهذا الانزياح غير الموفق نحو التجريدية، فيكمن في تحول شخوصه الناطقة بأفكار ومشاعر عديدة إلى مجرد كتل لونية مرصوصة أجسادها وذات ملامح متشابهة جدا سلخت عنها قدرتها على التعبير. شخوص حاصرها فراغ مكتظ وخانق بعد أن كان فراغا تسرح فيه النسائم وعطور القهوة والأزهار وسخونة شمس العصر الذهبية.

غير أنه من الضروري في هذا السياق القول إن التجريب في الفن هو من الممارسات المهمة والضرورية، إذ أنه يجعل كل نتاج فني قابلا للتطور وللتجديد. فربما  تكون اللوحات المذكورة آنفا هي أشبه بحقول تجارب خاضها ربيع بجرأة وشغف وستغني حتما تجربته الفنية .

معظم ما نعيشه فيه الكثير من الحزن الألم، لكنني أؤمن بأن قليلا من الفرح يبعث الضوء في حياتنا ويجعلنا أقدر على تحمل الأزمات

ويعدّ النزوع الى الحلم والغرابة دون الانفصال عن الواقع، من أهم ميزات أعمال مصطفى ربيع. فالمرء أمام لوحاته يكاد يصدق أن كل ما يراه، على الرغم من غرابته، ليس غريبا. فقد استلهم الفنان الأساطير المصرية المعروفة وحضرت في لوحاته الطيور والفاكهة والأسماك والحيوانات الأليفة والطائرات الورقية والأشجار والأزهار والآلات الموسيقية والكتب وفناجين القهوة في جو يحتفي بالحياة الأرضية إلى أقصى حد.

لوحة لمصطفى ربيع

ترانيم الفرح

الواقع في معظم لوحات ربيع هو حالة وجودية حقيقية ترتدي لباس عيد مبهم لا يريد أن ينتهي. هل الفنان يرسم واقعه أو أحلامه بسعادة متجددة، أجابنا: "أرسم ما أراه في محيطي المباشر.  بشر سعداء  يحملون البهجة لأنفسهم وللآخرين، وإن كانوا قلة، فلهم أثر كبير في حياتي. كما أود أن يرى الآخرون ظاهر السعادة الممكنة وباطنها عبر لوحاتي ومن خلال نظرتي إلى الحياة". ويستطرد: "الفرح ورسمه يساهمان كثيرا في تخفيف قباحة العالم. لا أنكر أن معظم ما نعيشه فيه الكثير من الحزن الألم، لكنني أؤمن بأن قليلا من الفرح يبعث الضوء في حياتنا ويجعلنا أقدر على تحمل الأزمات. فقط أتمنى من خلال لوحاتي أن أزرع بصيصا من الضوء في نفوس الناس".

شخوص الفنان المتشابهة/ المختلفة في معرض "منمنمات مصطفى ربيع" الأخير لا تزال تسعى إلى أن تكون سعيدة أو أن تجلب الفرح للآخرين في خفة تنقلها جماعة وأفرادا، لكنها في تمظهر رغبتها هذه توغل عميقا في فضاء لوحاته لتصبح منمنمات ولتشبه بتيلات ورود شديدة الفواح احتفظت بتهدجات الفرح ولطافة الترحال وسهولة التحليق دون أجنحة. وكأن ذلك ممكن، بل عادي، لا يخرج عن قوانين الطبيعة وجاذبية الأرض. في لوحاته هذه لا ضحكة فارغة تعلو ولا فرحا يرسم ابتسامات عريضة بل هو فرح كامن يحرك كل مفاعيل اللوحة جاعلا منها مسرحا لحياة ارتضت أن تكون ثباتا في عالم يتحول بسرعة هائلة. 

منمنمات مصطفى ربيع تبتعد عنا في الفضاء وتصغر أحجامها وتبدو في حالة تحليق فوضوي وهادئ في الوقت ذاته. تحليق يعتمد على اتجاهات الرياح والنسائم اقترابا وابتعادا، تريد بهما المنمنمات إنقاذ ذاتها من أي خطر داهم قد يهشم أجنحتها الخفية. الفرح في لوحاته هو صمام أمان، والتواصل بين الأفراد هو الخيط الفضي الذي به يحوك الفنان تعويذة عاطفية تفقد "المعاصرة"، بمعناها السلبي، قدرتها على تسخيف كل ما يعتبر شعورا أو تصرفا أو انشغالا إنسانيا بسيطا في زمن التوحش وصعود الآلة.

الخوف هو من أهم المشاعر التي يمكن أن تخرجك من جنتك الأرضية، فما إن يتسلل الخوف إلى نفسك ويسيطر عليك، حتى تخسر طعم كل شيء جميل

أمام هذا الواقع، سألنا الفنان عما يعني له الخوف، فأجاب: "الخوف هو من أخطر الأمور التي يمكن أن تحدث لك. وهي حالة عاشها أو سيعيشها كل إنسان، غير أن اسلوب التعاطي مع هذا الخوف أو مدى السماح له بالسيطرة علينا هو ما ينتج كل الفرق، وبالتالي ينعكس على كل مفاصل الحياة. الخوف هو من أهم المشاعر التي يمكن أن تخرجك من جنتك الأرضية، فما إن يتسلل الخوف إلى نفسك ويسيطر عليك، حتى تخسر طعم كل شيء جميل مهما كان صغيرا".

لوحة لمصطفى ربيع

شارك ربيع متابعيه على التواصل الاجتماعي أخيرا صور لوحات جديدة، بعد معرضه الأخير. لوحات اختنقت فيها شخوصه على مستويين: الأول اختناق جسدي في ملابس ضيقة أشبه بأكفان مرصعة بعناصر بصرية شبيهة بتلك التي زرعها في فضاء اللوحات، والثاني تجلى في توتر المساحة المحيطة بالشخوص التي لم تعد منشغلة بعمل يومي ما أو بالاجتماع مع العائلة أو الأصحاب. شخوص غلبها السكون وأصبحت وجوها متطابقة وليست متشابهة كما في لوحاته السابقة، وقد اعتصرها ضغط غرائبي خضع لقواعد جديدة ومتشددة وضعها الفنان بعد تخطي مرحلة التحليق في منمناته.

يذكر أن مصطفى ربيع فنان عصامي له العديد من المعارض، خاصة منها معرض بعنوان "الأمل في السفر". ومعرض "فرح × مرح"  ومعرض "أوقات" ومعرض "رائحة الألفة" ومعرض "ترانيم البقاء". كما شارك في العديد من المعارض الجماعية في تونس وصالون الشباب الثالث والعشرين عام 2012، وصالون الشباب الخامس والعشرين عام  2014، ومعرض "مصر وثورة يناير" عام  2015.

font change