منذ انفجار شرارة الحرب بين ميليشيا "قوات الدعم السريع" والجيش الحكومي في السودان في أبريل/نيسان 2023، غدت مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، أيقونة للمأساة وملخصا للمعاناة. تلك المدينة التي كانت حاضرة إقليمية للمساعدات والإيواء والتعايش المجتمعي، باتت اليوم في قبضة حصار خانق امتد لحوالي الثمانية عشر شهرا منذ أبريل 2024. ما يقرُب من 260 ألف مدني، نصفهم من الأطفال، لا يزالون محاصرين داخل أسوارها، مقطوعة عنهم سُبُل الإغاثة الاعتيادية، ومُعرَّضين لبراثن المجاعة، وفتك الأوبئة كالكوليرا، وانهيار المنظومة الصحية. طُرق الوصول مقطوعة، وأسعار الغذاء تضاعفت مئات المرات، وسوء التغذية بلغ حِدَّة بالغة لدرجة أن الأسر المحاصرة لجأت إلى إطعام أطفالها علف الحيوانات لإبقائهم على قيد الحياة. لم يعد هذا الحصار تكتيكا عسكريا فحسب، بل هو حربٌ على مقدرات البقاء نفسها.
وفي خضم هذه البيئة التدميرية، يتسارع زخم تصعيد نوعي جديد من الأسلحة يتمثل في الطائرات المسيرة الانتحارية. كشف تقرير حديث صادرة عن "مختبر ييل للبحوث الإنسانية" (HRL) النقاب عن نشر طائرات دون طيار طويلة المدى ذات أجنحة من نوع دلتا، إلى جانب أنظمة إطلاق، بالقرب من نيالا، وهي طائرات تتوافق مع نمط الهجمات الانتحارية (ذات الاتجاه الواحد). هذه المعطيات تُنذر بأن بصمة الحرب آخذة في التوسع في التدمير العشوائي الممنهج الذي تمارسه ميليشيا "الدعم السريع".
في التاسع من سبتمبر/أيلول 2025، أعلن تحالف "تأسيس" (وهو التجمع الذي تقوده "قوات الدعم السريع" والذي أعلن نفسه سلطة حاكمة على الأراضي الخاضعة لها برئاسة مالك الميليشيا حميدتي ورئيس وزرائه محمد حسن التعايشي عضو مجلس السيادة السابق) مسؤوليته عن موجة من الهجمات بالطائرات المسيرة على العاصمة الخرطوم، واصفا إياها بـ"ضربات جوية دقيقة وناجحة" استهدفت مواقع عسكرية ولوجستية.
ولكن لم تشمل الأهداف سوى هدف عسكري واحد وهو مصنع اليرموك للذخيرة بينما شملت عدة أهداف مدنية مثل محطة لتوليد الكهرباء في أم درمان، ومصفاة النفط في الجيلي بالخرطوم بحري، بالإضافة إلى محطات تحويل كهربائية أخرى. لم تكن هذه هي الضربة الأولى التي تستعمل فيها ميليشيا "الدعم السريع" المسيرات، فقد سبقتها هجمات لقصف سد مروي ومحطات الكهرباء في الخرطوم ودنقلا والقضارف وغيرها فيما أصبح نمطا جديدا للهجمات الإرهابية التي تشنها الميليشيا.
هذه الهجمات لا تمثل مجرد دعاية حربية أو مضايقات تكتيكية عابرة، بل تُشير إلى تحوُّلٍ نوعي في سير المعارك، من المواجهات المباشرة، نحو اعتماد أنظمة جوية انتحارية تهدف إلى تحقيق أكبر قدر من الدمار في المنشآت الحيوية والحساسة دون أي اعتبار لسلامتها. وهي تمثل جرائم إرهابية بلا جدال. كما أن إعلان تحالف "تأسيس" مسؤوليته علنا عن هذه العمليات يكتسب أهمية بالغة بحد ذاته، فـ"قوات الدعم السريع" وقواتها المتحالفة كانت، حتى وقت قريب، تتجنب الاعتراف الصريح بهجمات الطائرات المسيرة، على الأرجح بهدف تقليل التبعات السياسية والقانونية المحتملة، ولكن هذا الإعلان يأتي بمثابة اعتراف صريح بالمسؤولية عن هذه الهجمات الإرهابية.