الثقة في الانتخابات ترتفع مع الحقائق الواضحة

التحصين ضد التضليل

Eduardo Ramon
Eduardo Ramon
انتخابات 2016 الأميركية كانت نقطة تحول مفصلية أظهرت حجم التهديد الذي تشكله الأخبار الكاذبة على الثقة بالديمقراطية

الثقة في الانتخابات ترتفع مع الحقائق الواضحة

في يناير/كانون الثاني من العام 2024، تلقى العديد من سكان ولاية نيوهامبشير مكالمة هاتفية آلية بصوت الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، تحث الديمقراطيين على البقاء في المنزل خلال فترة الانتخابات التمهيدية وتوفير أصواتهم لانتخابات نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، التي يواجه فيها دونالد ترمب الجمهوري نظيرته كمالا هاريس الديمقراطية، لكن اتضح أن المكالمة كانت آلية مولدة بالذكاء الاصطناعي. وقتذاك اتخذت الحكومة الإجراءات اللازمة، إذ أصدر المدعي العام للولاية بيانا لتوضيح أن المكالمة زائفة.

وهكذا مرت المكالمة الزائفة بدون أن يتأثر أي ناخب، لكن ظهرت طريقة جديدة لنشر المعلومات المضللة مع انطلاق ثورة الذكاء الاصطناعي، خاصة أن الكشف عنها عبر المكالمات الهاتفية أمر صعب للغاية. الأمر الذي أيقظ الأذهان لإيجاد حلول للكشف المسبق عن تلك الطريقة للتلاعب ونشر المعلومات المضللة خلال أوقات الانتخابات، وتلك استراتيجيا يمكن اتخاذها في مثل تلك الأوقات تعرف بـ"الدحض المسبق" أو "التحصين ضد التضليل".

تطعيم نفسي

في العودة إلى ستينات القرن العشرين، طور عالم النفس الأميركي ويليام جاي ماغواير نظرية تُعرف بـ"نظرية التطعيم النفسي" وهي بمثابة استراتيجيا نفسية لحماية الأشخاص من تغيير مواقفهم نتيجة تعرضهم لمؤثرات أو ضغوط مستمرة، الأمر أشبه بالتطعيمات التي يحصل عليها الناس لمكافحة العدوى أو انتشار فيروسات قاتلة.

التطعيمات أو اللقاحات عبارة عن مستحضرات بيولوجية مكونة من نوع ضعيف أو ميت من الفيروس أو مسبب المرض المراد مكافحته أو حتى أجزاء دقيقة منه، تُحقن في جسم الإنسان قبل الإصابة بالعدوى، وهنا يدرك الجسم البشري أن جسما غريبا قد اخترقه، فيعمل الجهاز المناعي على تكوين أجسام مضادة خاصة بهذا النوع من مسببات الأمراض، فتتكون للجهاز المناعي في ذاكرته استراتيجيا واضحة عند دخول مسبب المرض الحقيقي للجسم، مما يمنح الناس مقاومة ضد العدوى قبل أن يصاب بها الإنسان. فإذا أصابته، يكون الجهاز المناعي في أتم الاستعداد للمواجهة بالأجسام المضادة التي كونها بالفعل.

يتبع الإنسان سلوكا خطيرا، حيث قد يتبنى أفراد الجماعة سلوك وآراء الآخرين، ويغلقون الأبواب أمام إعطاء مساحة للتفكير النقدي ووضع حكم مستقل

بالنظر إلى نظرية ماغواير، نجد أنها مبادئ التطعيم نفسها أيضا، وكان الدافع الأساس وراء تطوير ماغواير لتلك النظرية هو مقاومة غسل الأدمغة وغياب الوعي بين الناس في ظل السيطرة الإعلامية وسهولة انتشار الشائعات والخرافات والمعلومات المضللة بين الناس، خاصة في مواقف مثل الانتخابات أو الأحاديث حول الآراء السياسية والاجتماعية، التي عليها قد يترتب مستقبل المجتمع. وانطلق العديد من الأبحاث والدراسات بعد ذلك لدراسة تأثيرات التطعيم النفسي، وظهرت الحاجة الماسة لمثل هذا النوع من المقاومة النفسية، خاصة في ظل ظروف الانتخابات والتلاعب الحاصل خلالها.

من جانب آخر، يتبع الإنسان سلوكا خطيرا، حيث قد يتبنى أفراد الجماعة سلوك وآراء الآخرين، ويغلقون الأبواب أمام إعطاء مساحة للتفكير النقدي ووضع حكم مستقل، كل هذا تجنبا للخوف من الخطأ أو النبذ من الجماعة التي ينتمون إليها، في ما يُعرف بـ"عقلية القطيع". وقد تساهم عملية انتشار الشائعات والمعلومات المضللة غير المقاوَمة إلى تحويل مسار الانتخابات بأكملها. لذلك، كان من الضروري أن تنشط الاستراتيجيات النفسية التي من شأنها أن تحصن الناخبين وأفراد المجتمع عموما من المعلومات المضللة.

نقطة تحول

في عام 2016، انتشر الكثير من الأخبار الكاذبة خلال الانتخابات الأميركية، مما جعل تلك الانتخابات نقطة تحوّل في مكافحة المعلومات المضللة، وتطور مفهوم "التحصين ضد التضليل" أو (Prebunking) على المستوى الأكاديمي، بغرض دعم الحكومات في بناء ثقة مع المواطنين خلال فترات الانتخابات والقرارات المهمة للدولة، كما أن الشفافية مع المواطنين وإعطاءهم المستجدات أولا بأول من شأنهما أن يعززا الثقة.

يتحدث جو بايدن في اجتماع بالمدينة خلال الحملة التمهيدية في نيو هامبشاير

على سبيل المثل، أشارت دراسة منشورة في دورية "بي إن أيه إس نيكسس" (PNAS Nexus) في أكتوبر/تشرين الأول 2024، إلى أن إبلاغ الناخبين بتمديد فترة فرز الأصوات والأسباب المشروعة للتأخير، من شأنه أن يزيد مستوى الثقة ويخفف انعدام الثقة الناتجة من التأخير، وذلك بعد إجراء مسح شمل ما يقرب من 10 آلاف أميركي، لمعرفة ردود فعلهم. وخلصت إلى أن التأخيرات غير المتوقعة تؤدي إلى انعدام الثقة حتى في حال عدم انتشار معلومات مضللة من جهات خارجية، لكن الشفافية وتزويد المواطنين المعلومات الكافية حول الأسباب الحقيقية من جهات حكومية أو مسؤولة عن العملية الانتخابية، من شأنهما أن يقللا انعدام الثقة ويرفعا مستوى الثقة. 

كان دافعنا لدراسة المعتقدات المتعلقة بانتشار التزوير الانتخابي في الولايات المتحدة هو أن هذه المعتقدات أعلى بكثير مما تدعمه أي أدلة موثقة على التزوير

جون كاري، أستاذ العلوم الاجتماعية في كلية دارتموث في ولاية نيو هامبشير

روج كل من الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو والرئيس الأميركي دونالد ترمب أن التصويت في الانتخابات للفترة الثانية لهما قد تعرض للتزوير، مما قلل الثقة في العملية الانتخابية وحفز مؤيديهما على اقتحام عواصم بلديهما لإلغاء النتائج. تلك الاستراتيجيا التي اتبعها كل من بولسونارو وترمب، تشكك في نزاهة الانتخابات والثقة في المؤسسات الديمقراطية حول العالم. ولحماية الديمقراطية، ينبغي وضع استراتيجيات مناسبة لترسيخ الثقة في الانتخابات، والحد من انتشار المعلومات المضللة.

رأت مجموعة بحثية بقيادة الدكتور جون كاري، أستاذ العلوم الاجتماعية في كلية دارتموث في ولاية نيو هامبشير، أن تلك فرصة جيدة للبحث والتعمق في تلك السلوكيات التي أبداها الناخبون، واختارت البرازيل والولايات المتحدة خاصة. وفي هذا الصدد، يقول الدكتور جون كاري لـ"المجلة": "كان دافعنا لدراسة المعتقدات المتعلقة بانتشار التزوير الانتخابي في الولايات المتحدة هو أن هذه المعتقدات أعلى بكثير مما تدعمه أي أدلة موثقة على التزوير. وفي السنوات الأخيرة، روّج سياسيون (وأبرزهم دونالد ترمب وأنصاره) بنشاط لفكرة تفشي التزوير، مما أدى بدوره إلى تهديدات مباشرة للديمقراطية الأميركية". ويضيف "أثناء إجراء بحثنا، وقعت أحداث البرازيل، التي أعقبت الانتخابات الرئاسية لعام 2022، وكانت أوجه التشابه مع الحالة الأميركية ملحوظة. أدركنا فرصة لتوسيع نطاق بحثنا واختبار ما إذا كانت ردود فعل البرازيليين على المعلومات التصحيحية متسقة مع ردود فعل سكان أميركا الشمالية. وكانت كذلك".

شمل البحث المنشور في دورية "ساينس أدفانسز" في 29 أغسطس/آب 2025، نحو 3 دراسات، الأولى كانت في الولايات المتحدة، والثانية في البرازيل، والثالثة في الولايات المتحدة أيضا. وقد اعتمد مؤلفو الدراسة على نهجين أساسيين في دراساتهم، لقياس مدى استجابة الناس للمعلومات المضللة. يتعلق النهج الأول برسائل التحصين المسبقة ضد التضليل، التي تحذر الناخبين من الإدعاءات الكاذبة حول الانتخابات المستقبلية وتعطي الناخبين معلومات حول ممارسات أمن الانتخابات، ويمكن تشبيه هذا النهج بأنه "وقاية". أما النهج الثاني، فهو التصحيحات اللاحقة، وهي عبارة عن تصحيحات يقدمها أشخاص موثوق بهم، وتتمتع بصدقية عالية لأنها تتعارض مع مصالح هؤلاء الأشخاص. على سبيل المثل، إذا صحح أحد أعضاء الحزب الجمهوري بأن معلومة منتشرة تدين الحزب الديمقراطي خاطئة، فهذا يعزز الصدقية لدى المواطنين، لأن ذلك بمثابة تصحيح لمعلومة ضد مصالح الحزب الجمهوري من خلال أشخاص يتبعونه. وهذا النهج يمكن تشبيهه بأنه "علاج".

شملت الدراسات أكثر من 5500 مشارك من الولايات المتحدة والبرازيل، واستعان الباحثون بالنهجين، بالإضافة إلى نوع من التحصين ضد التضليل، يوضحه الدكتور جون كاري قائلا لـ"المجلة": "التحصين ضد التضليل، هو بمثابة تدخل استباقي لمنع انتشار المعتقدات الخاطئة، وهناك نوع مختلف من التحصين ضد التضليل يتضمن تحذيرا مسبقا - وهو في الأساس إخبار المشاركين في البحث بأنهم قد يتلقون معلومات مضللة من جهات تسعى إلى خداعهم. اختبرنا التحصين ضد التضليل مع هذا التحذير المسبق وبدونه".

كان هناك تشابه واضح بين تبعات الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة عام 2020 مع الانتخابات الرئاسية في البرازيل عام 2022، لذلك، أجرى الباحثون دراساتهم حول هذين البلدين. فالغرض النهائي هو البحث في سلوكيات الإنسان. وفي الدراستين الأولى والثانية، تم توزيع المشاركين على مجموعتين لقياس تأثرهم بالنهج المستخدم في الدراسة أو على مجموعة ضابطة.

خلص الباحثون إلى أن كلا من "التحصين ضد التضليل" و"التصحيحات اللاحقة من مصادر موثوق بها" قد زادا مستوى الثقة في نزاهة الانتخابات وقللا الاعتقاد بالتزوير

المجموعة الضابطة هي النقطة المرجعية التي تساعد الباحثين في قياس نتائجهم، وفي الدراسة: لم يتلقوا أي معلومات بغرض التحصين ضد التضليل أو أي معلومات تصحيحية.

في المجموعة الأولى، تلقى المشاركون تحصينا ضد التضليل - Prebunking (نوع من الوقاية)، تضمن بعض الحقائق حول إجراءات أمن الانتخابات، إضافة إلى التحذير من تعرضهم لأي ادعاءات كاذبة لتضليلهم. والهدف من هذه التجربة، هو تحصين المشاركين ضد المعلومات المضللة قبل التعرض لها.

أما المجموعة الثانية، فقد تلقت "معلومات تصحيحية" أو "مصادر موثوقا بها" - Credible Sources (نوع من العلاج)، وتضمنت مقالات تؤكد أن انتخابات 2020 في الولايات المتحدة لم تتعرض للتزوير، وكانت مصادر تلك المقالات من داخل الحزب الجمهوري نفسه المؤيد لترمب. وفي حالة البرازيل، كانت المصادر الموثوق بها هي الهيئة الانتخابية البرازيلية وابن بولسونارو.

Shutterstock
أشخاص في طابور للتصويت يوم الانتخابات الأمريكية

أما الدراسة الثالثة، فقد أُجريت في الولايات المتحدة بعد انتخابات التجديد النصفي لعام 2022، وخلالها تم تقسيم المشاركين 3 مجموعات أيضا، المجموعة الضابطة، ومجموعة ثانية تعرضت للتحصين ضد التضليل وتحذير مسبق قبل تقديم معلومات حول أمن الانتخابات، أما المجموعة الثالثة فقد تعرضت للتحصين ضد التضليل مع عدم وجود تحذير مسبق.

خلص الباحثون إلى أن كلا من "التحصين ضد التضليل" و"التصحيحات اللاحقة من مصادر موثوق بها" قد زادا مستوى الثقة في نزاهة الانتخابات وقللا الاعتقاد بالتزوير. فعلى سبيل المثل، ارتفعت الثقة بأن بايدن هو الفائز الشرعي في انتخابات 2020 بين مؤيدي الحزب الجمهوري من 33% في المجموعة الضابطة إلى 44% في المجموعة التي تعرضت للتصحيحات اللاحقة من مصادر موثوقة، وإلى 39% في المجموعة التي تلقت تحصينا ضد التضليل. لكن في السياق البرازيلي (في الدراسة الثانية)، فقد لاحظ الباحثون أن نهج التحصين ضد التضليل كان أكثر فعالية وتفوقا على نهج التصحيح اللاحق من المصادر الموثوق بها، وهذا يتفق مع نتائج بعض الدراسات السابقة.

تساهم هذه الدراسة أيضا في فهم الأبعاد النفسية والاستراتيجيات التي قد تتسبب في التضليل ونشر معلومات غير موثوق بها وكيفية التعامل معها

وجد الباحثون أيضا أن تأثير التحصين ضد التضليل كان أطول أمدا مقارنة بتأثير التصحيحات اللاحقة. ويُعتقد أن تزويد الناس معلومات تصحيحية قبل التعرض لها يساهم في ترميز المعلومات في الذاكرة، وتشكيل طرق مناسبة لمعالجة المعلومات اللاحقة. مع ذلك، فالتعرض للتصحيح اللاحق بعد مواجهة المعلومات المضللة كان فعالا أيضا. لكن التحصين ضد التضليل كان أكثر فعالية. يقول الدكتور جون كاري لـ"المجلة": "لقد فوجئتُ للغاية بأن التحصين ضد التضليل نجح بنفس كفاءة التصحيحات اللاحقة من المصادر الموثوق بها، بل، في بعض النواحي، كان أفضل".

Shutterstock
التصويت بالذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة

لاحظ مؤلفو الدراسة أيضا أن تحذير الناس مسبقا من أنهم سيتعرضون لمحاولة إقناع للاستجابة لمعلومات مضللة، يجعل فعالية التحصين ضد التضليل أقل فعالية. ولضمان نجاح استراتيجيا التحصين ضد التضليل، يمكن تقديم معلومات جديدة واقعية وليس مجرد تحذير أو اتباع أي أسلوب نفسي آخر، وهذا ما أكده الدكتور جون كاري لـ"المجلة": "تشير نتائجنا إلى أن ما يجعل التضليل المسبق فعالا هو المعلومات الجديدة المقدمة، وليس التحذير المسبق نفسه".

لحماية الديمقراطية

من الدوافع الأساس لإجراء الدراسة، حماية الديمقراطية وتحديد الطرائق الفعالة لتعزيز الثقة في إجراءات الانتخابات بين المواطنين، وتجنب الادعاءات الكاذبة وتقليل انتشار المعلومات المضللة حول التزوير المحتمل، مما يشكك في نزاهة الانتخابات بين مؤيدي الطرف الخاسر. وقد تجلت آثار التشكيك في نزاهة العملية الانتخابية بعد أن روّج الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس البرازيلي جايير بولسونارو للتزوير في الانتخابات والتصويت، مما أحدث اضطرابات في البلدين، وشكك في قيم الديمقراطية التي يدعيها كلا البلدين.

وفي هذا الصدد، يعلق الدكتور جون كاري لـ"المجلة": "ينبغي على المؤسسات الرسمية بذل قصارى جهدها لنشر معلومات واقعية حول كيفية حماية وضمان نزاهة العملية الانتخابية. وطالما أن هذه المعلومات دقيقة ومدعومة بالأدلة، فلا أعتقد أن هناك تحديات أخلاقية لنشرها"، مما يبرز الدور المحوري لنشر وتعزيز الحقائق الواضحة بين المواطنين في رفع الثقة بالعملية الانتخابية، خاصة في ظل الاختلافات والتوجهات السياسية داخل نطاق الدولة نفسها.

تساهم هذه الدراسة أيضا في فهم الأبعاد النفسية والاستراتيجيات التي قد تتسبب في التضليل ونشر معلومات غير موثوق بها وكيفية التعامل معها، خاصة في ظل الثورة التكنولوجية والانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي التي سهلت انتشار المعلومات والأخبار المضللة والكاذبة بسرعة، كانتشار النار في الهشيم، بما يهدد مستوى الثقة بين المواطنين وحكوماتهم، ويقلل الثقة في نزاهة العملية الانتخابية.

font change