"الضفة" على صفيح ساخن... هل تلجأ إسرائيل إلى ردود عقابية بعد "اعترافات نيويورك"؟

... ردود قد تصل حد ضم أجزاء من الضفة وإجراءات اقتصادية ضد الفلسطينيين

المجلة
المجلة

"الضفة" على صفيح ساخن... هل تلجأ إسرائيل إلى ردود عقابية بعد "اعترافات نيويورك"؟

رام الله- تعيش الضفة الغربية منذ أسابيع على إيقاع تصعيد أمني غير مسبوق، يتراوح بين عمليات فردية دامية في القدس وطولكرم وتجارب صاروخية بدائية في قرية كفر نعمة غرب رام الله، في مشهد يعكس انتقال التوتر من طور المواجهات التقليدية إلى أنماط أكثر تنوعا وخطورة، فقد هزّت ثلاث هجمات فلسطينية منفردة متتالية نفذها شبان بلا انتماء تنظيمي معلن، مستخدمين أسلحة وعبوات محلية الصنع، خلال أيام قليلة منظومة الأمن الإسرائيلية، وأسفرت عن مقتل ستة إسرائيليين وإصابة أكثر من عشرين آخرين، فيما دفعت محاولة إطلاق صواريخ محلية الصنع من منطقة رام الله إلى استنفار كامل للأجهزة الأمنية والعسكرية في تل أبيب، التي تفرض سيطرتها على الضفة الغربية وتسعى إلى ضمها قسرا لإسرائيل.

هذه التطورات تضع الضفة الغربية على صفيح ساخن، حيث تتلاقى عوامل عديدة، مثل انسداد الأفق السياسي، وتصاعد عنف المستوطنين المحمي بتشريعات حكومية، وتفاقم الأزمة الاقتصادية التي تخنق المجتمع الفلسطيني؛ حيث يحول ذلك الضفة إلى ساحة قابلة للاشتعال في أي لحظة، ويثير مخاوف إسرائيلية من أن يتطور المشهد من هجمات فردية يصعب التنبؤ بها إلى محاولات تسليح وتجارب عسكرية محلية، ما يفتح الباب أمام مرحلة أكثر تعقيدا في الوضع الأمني الآخذ في التدهور.

ففي الثامن من سبتمبر/أيلول الجاري أطلق فلسطينيان النار ببندقية محلية الصنع من طراز "كارلو" في حي راموت شمال القدس فقتلا ستة إسرائيليين وجرحا عشرين آخرين، وفيما لم تعلن أي جهة فلسطينية مسؤوليتها فقد باركت كل من حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي" العملية واعتبرتاها "ردا طبيعيا" على الاعتداءات الإسرائيلية، وبعد ثلاثة أيام، في الحادي عشر من سبتمبر، استهدفت عبوة ناسفة ناقلة جنود قرب طولكرم، فأصابت جنديين بجروح طفيفة، وأعلنت "سرايا القدس" الجناح العسكري لتنظيم "الجهاد الإسلامي" في طولكرم مسؤوليتها عن العملية، فيما أقدم شاب من مخيم شعفاط في الثاني عشر من سبتمبر على طعن إسرائيليين في كيبوتس تسوبا قرب القدس، فأصابهما بجروح خطيرة، من دون إعلان أي جهة مسؤوليتها عن الهجوم.

تحولت الضفة الغربية بفعل تكثيف الحواجز العسكرية والبوابات الحديدية إلى شبكة من الكانتونات المعزولة، أقرب إلى أقفاص بشرية مقطّعة الأوصال

وفي مؤشر جديد على اتساع أنماط التهديد الأمني في الضفة الغربية، أعلن الجيش الإسرائيلي أنه في 16 سبتمبر رُصد صاروخان بدائيان محليّا الصنع، أحدهما أُطلق باتجاه مستوطنة قريبة، فيما عُثر على الآخر مجهزا للإطلاق في قرية كفر نعمة غرب رام الله. وأثار ذلك استنفارا واسعا في المنظومة الأمنية الإسرائيلية، أعقبته عملية دهم فجر 19 سبتمبر في قرية سردا شمال رام الله، حيث قال الجيش إن منزلا هناك استُخدم كورشة لتصنيع الصواريخ، حيث تم خلال المداهمة مصادرة صواريخ جاهزة وأخرى قيد التصنيع، واعتُقل ثلاثة أشخاص اتهمهم الجيش بالانتماء إلى حركة "حماس" وإدارة الورشة، حيث يرى مراقبون أنّ هذا التطور يعكس مخاوف تل أبيب من تحوّل الضفة إلى ساحة تجارب عسكرية تتجاوز الهجمات الفردية التقليدية، نحو محاولات أكثر خطورة قد تفتح الباب أمام مرحلة أمنية أكثر تعقيدا.

ومع تصعيد سياسات الحكومة الإسرائيلية اليمينية بقيادة نتنياهو ووزرائه بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، ومع ازدياد عنف الجيش والمستوطنين، تبدو الضفة الغربية مهيأة لموجة جديدة من الهجمات الفلسطينية ضد أهداف إسرائيلية، حيث تخشى أجهزة الأمن الإسرائيلية أن يشكّل نجاح هذه العمليات نموذجا ملهِما ومحفّزا لفلسطينيين آخرين سبق أن خطّطوا أو فكّروا في تنفيذ هجمات مشابهة، فيسرع نجاحها من خروجها إلى حيّز التنفيذ، خصوصا في ظل الهالة البطولية والتبجيل الشعبي الذي يحظى به منفّذو هذه العمليات داخل المجتمع الفلسطيني. حيث يُنظر إليهم كرموز للمقاومة والتحدي وهو ما يضفي على كل هجوم ناجح بعدا رمزيا يتجاوز أثره العسكري المباشر ليترك تداعيات استراتيجية أعمق على حسابات الأمن الإسرائيلي.

أ.ب
عناصر من قوات الأمن الإسرائيلية في موقع حادثة الهجوم بالسكين التي وقعت في فندق في كيبوتس تسوفا، خارج القدس، 12 سبتمبر 2025

ويقول مصطفى البرغوثي، الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية لـ"المجلة"، إن موجة العمليات الفلسطينية الأخيرة جاءت كردّ مباشر على الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية المتصاعدة في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويضيف: "الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة تمضي في سياسة التهويد والضم، وتسعى إلى ترحيل الفلسطينيين وخنقهم اقتصاديا، وقتل أي أمل لديهم، معتبرة أن حق تقرير المصير حكر على اليهود وحدهم، لكن الفلسطينيين لن يستسلموا".

وفي هذا السياق، فقد كشف تقرير أمني صادر عن جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)- حصلت "المجلة" على نسخة منه- عن تصاعد ملحوظ في حجم العمليات الشعبية والمسلحة ضد أهداف إسرائيلية في الضفة الغربية والقدس خلال الأشهر الثلاثة الماضية. حيث سُجلت 486 عملية تراوحت بين ما يسميه الشاباك "إرهابا شعبيا" وعمليات وُصفت بالخطيرة، فيما أبرز التقرير أن هذه العمليات تنوعت بين 281 رشق حجارة، و97 زجاجة حارقة، و39 محاولة إشعال حرائق، و44 عبوة ناسفة محلية الصنع، إضافة إلى 18 عملية طعن وعدة محاولات إطلاق نار ودهس، فضلا عن سيارة مفخخة واحدة.

وتصدرت الضفة الغربية التقرير بـ294 عملية، تلتها القدس بـ11 عملية، ثم داخل إسرائيل بـ16 عملية، كما برزت مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس كمراكز رئيسة للاشتباكات المسلحة مع الجيش الإسرائيلي، في مؤشر على تصاعد قوة المجموعات العسكرية المسلحة في تلك المخيمات، واتساع دائرة التحدي الأمني لإسرائيل.

من جانبه، حذّر اللواء (متقاعد) محمد المصري، رئيس المركز الفلسطيني للبحوث والدراسات الاستراتيجية ومدير جهاز المخابرات العامة الأسبق في قطاع غزة، من أن استمرار احتجاز إسرائيل لأموال السلطة، إلى جانب اعتداءات المستوطنين في الضفة، كفيلان بتفجير الأوضاع، وأوضح لـ"المجلة" أن كثيرا من الفلسطينيين في الضفة الغربية لديهم روابط عائلية مع غزة، وأن ما يرتكبه الجيش الإسرائيلي من مجازر هناك يغذي غضب الشباب ويدفعهم للقيام بعمليات مسلحة بدوافع وطنية بالدرجة الأولى.

لقد تحولت الضفة الغربية بفعل تكثيف الحواجز العسكرية والبوابات الحديدية إلى شبكة من الكانتونات المعزولة، أقرب إلى أقفاص بشرية مقطّعة الأوصال. حيث نشر الجيش الإسرائيلي حتى الآن أكثر من ألف حاجز عسكري ثابت ومتنقل وبوابة حديدية، ما يحوّل حركة الفلسطينيين بين مدنهم وقراهم إلى معاناة يومية تحت رقابة أمنية مشددة.

ويشير المصري إلى خطورة خطة وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش، حيث وضع ثلاثة خيارات أمام الفلسطينيين. إما أن يقتلوا، وإما أن يعملوا كـ"عبيد" لدى الإسرائيليين، أو الهجرة، مؤكدا أن دفع الفلسطينيين إلى هذا "الواقع المستحيل" لن يؤدي إلا إلى تصاعد الهجمات الفردية العنيفة.

يؤدي تصاعد الهجمات ضد أهداف إسرائيلية إلى استغلالها من قِبل اليمين الإسرائيلي ذريعة لتسريع مخططات الضم وتوسيع الاستيطان

في أعقاب عملية راموت في القدس، صعّد قادة اليمين الإسرائيلي من خطابهم، حيث دعا عضو الكنيست تسفي سوكوت من حزب "الصهيونية الدينية" إلى أن "تصبح كل قرية خرج منها منفذو العملية مثل رفح"، فيما صرّح بتسلئيل سموتريتش بأن "السلطة الفلسطينية يجب أن تختفي من الخريطة"، وفي السياق ذاته، أقرّ وزير الدفاع يسرائيل كاتس خطة لتعزيز انتشار الجيش في الضفة الغربية، حيث يتمركز آلاف الجنود، معظمهم من الاحتياط أو من المستوطنين اليمينيين، إضافة إلى من خدموا سابقا في غزة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهو ما يعكس توجها يعتمد على فئات تحمل عداء متجذرا للفلسطينيين، وهي خطوة تهدف وفق وزارة الدفاع إلى مواجهة تزايد الهجمات الفلسطينية ضد أهداف إسرائيلية انطلاقا من الضفة، في ظل مخاوف من انفجار الوضع نتيجة التدهور الاقتصادي وتصاعد اعتداءات المستوطنين، أما أوساط اليمين المتطرف فاعتبرت أن العمليات الأخيرة تبرر تسريع الاستيطان وفرض وقائع أشد قسوة على الفلسطينيين، في حين يرى خبراء أمنيون فلسطينيون أن هذه السياسات العقابية قد تُشعل الشارع أكثر مما تردعه، خصوصا لدى الأجيال الشابة التي باتت ترى في المقاومة الفردية أداة للتعبير عن غضبها ورفضها للواقع القائم.

وفي هذا السياق قال العقيد (احتياط) متقاعد ديفيد خاخام مستشار الشؤون العربية لوزارة الدفاع الإسرائيلية لـ"المجلة" إن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية قلقة جدا من تصاعد العنف في الضفة الغربية بالتوازي مع اتساع العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة. لذلك يجري تعزيز القوات الإسرائيلية العاملة هناك لمواجهة أي تصعيد محتمل.

قلق فلسطيني رسمي

وبينما أدانت الرئاسة الفلسطينية عملية راموت، مؤكدة رفضها استهداف المدنيين ونبذها للعنف والإرهاب أيّا كان مصدره، تواصل السلطة في الوقت ذاته نشر أكثر من 35 ألف عنصر أمن في الضفة الغربية، غير أن هؤلاء يتجنبون الانجرار إلى اشتباكات مسلحة مع الجيش والمستوطنين الذين يواصلون اقتحام المدن الفلسطينية والاعتداء على السكان وممتلكاتهم، خشية أن يتعرضوا لاستهداف مشابه لما وقع خلال عملية "السور الواقي" عام 2002.

أ.ف.ب
رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس

بالتوازي، تنشط الأجهزة الأمنية في ملاحقة أي نشاط عسكري أو تمويل لحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وسط مخاوف داخل السلطة من أن تسعى "حماس"، بعد عامين من حرب غزة، إلى نقل الفوضى الأمنية إلى الضفة، حيث تساءل مسؤول أمني فلسطيني رفيع المستوى في حديثه لـ"المجلة": "لماذا الآن تنفذ هذه العمليات وتقام ورشات تصنيع وتجربة الصواريخ، قبيل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث يُتوقع اعتراف 11 دولة جديدة بدولة فلسطين، فيما حرب غزة مستمرة منذ عامين ولم نشهد مثل هذه العمليات؟"، معتبرا أن كلا من إسرائيل و"حماس" غير معنيتين بقيام دولة فلسطينية، فإسرائيل ترفضها صراحة، بينما تخشى "حماس" من أن تصبح حركة محظورة في حال قيام الدولة.

المصادر الأمنية نفسها تشير إلى محاولات إيرانية لإعادة بناء شبكاتها في الضفة عبر تمويل "حماس" و"الجهاد الإسلامي" ومجموعات أخرى، لافتة إلى أن العشرات من النشطاء المحتجزين في سجن أريحا متهمون بمحاولات لزعزعة الأمن ونشر الفوضى الأمنية في الضفة الغربية.

وكانت الأجهزة الفلسطينية قد أعلنت في 9 سبتمبر ضبط كميات من المتفجرات والأسلحة في البيرة واعتقال ثلاثة أشخاص على صلة بها، فيما تخشى القيادة الفلسطينية أن يؤدي تصاعد الهجمات ضد أهداف إسرائيلية إلى استغلالها من قِبل اليمين الإسرائيلي ذريعة لتسريع مخططات الضم وتوسيع الاستيطان في مناطق "C" التي تمثل 60 في المئة من مساحة الضفة، وترى أن الانشغال الدولي بالحرب على غزة يتيح فرصة لفرض وقائع جديدة على الأرض، وإضعاف السلطة سياسيا وماليا تمهيدا لتقويض شرعيتها ودفعها نحو الانهيار أو التهميش، بما يكرّس ضما غير معلن يفرض السيطرة الإسرائيلية كواقع إداري وأمني واقتصادي شامل على الضفة الغربية.

ويرى البرغوثي أن إسرائيل تستهدف السلطة لتحويلها إلى "جهاز خدمات مدنية محدود الصلاحيات"، بعد أن أنهكتها العقوبات المالية وجعلتها عاجزة عن القيام بواجباتها تجاه المواطنين، ويضيف: "سياسات حكومة إسرائيل اليمينية تشكل خطرا وجوديا على الشعب الفلسطيني، الذي يعيش أقسى مراحل نضاله منذ أكثر من خمسة عقود".

أما المحلل السياسي غسان الخطيب، فيرى أن "إسرائيل تتعامل مع بقاء السلطة كعائق أمام مشروعها الاستراتيجي، وانهيارها سيخلق فوضى تمنح الجيش الإسرائيلي الذريعة لفرض سيطرته الكاملة على الضفة، مع ترك صلاحيات بلدية محدودة للفلسطينيين".

لم تفلح محاولات الحكومة الفلسطينية لتجاوز أزمتها المالية عبر الاقتراض من محطات الوقود أو البنوك بضمانات أوروبية سوى في تغطية جزء من الرواتب

ويخلص الخطيب إلى أن المعركة الحقيقية لإسرائيل تتركز على الضفة الغربية، حيث تعمل الحكومة الحالية على حسم الصراع على الأرض والبحث عن ذرائع إضافية لفرض سيطرتها الكاملة، الأمر الذي ينذر بمزيد من التصعيد وبتزايد وتيرة العمليات الفردية في مختلف مناطق الضفة.

المشهد في الضفة الغربية لا ينفصل عن المخاوف الإقليمية، إذ حذر مسؤول أمني أردني رفيع المستوى في حديث لـ"المجلة" أن عمّان تخشى من أن تستغل إسرائيل انتهاء حرب غزة للانقضاض على الضفة وتهجير آلاف الفلسطينيين إلى الأردن، مشيرا إلى تصريحات سابقة لسموتريتش تحدث فيها عن "ضرورة ترحيل 700 ألف فلسطيني في الضفة الغربية يحملون الجنسية الأردنية".

أزمة اقتصادية خانقة

تشهد الضفة الغربية منذ أكتوبر 2023 أسوأ أزماتها الاقتصادية منذ تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، إذ قدّرت منظمة العمل الدولية نسبة البطالة بنحو 32 في المئة. ويؤكد الخبير الاقتصادي نصر عبد الكريم أن الاقتصاد الفلسطيني يمر بـ"أخطر مراحله"، بفعل القيود الإسرائيلية على الحركة والتجارة ووقف تحويل أموال الضرائب الفلسطينية التي تجبيها إسرائيل نيابة عن السلطة لكنها قررت الاحتفاظ بها منذ أشهر، والتي تجاوزت 3.5 مليار دولار. وقد انعكس ذلك على قدرة السلطة في دفع رواتب نحو 170 ألف موظف عمومي، إذ لم تُسدَّد سوى 60 في المئة منها في أفضل الأحوال.

أ.ف.ب
مركبة مدرعة تابعة للجيش الإسرائيلي تتمركز عند مدخل مخيم العمارة للاجئين في مدينة رام الله بالضفة الغربية المحتلة، خلال عملية عسكرية في 14 سبتمبر 2025

الأزمة تفاقمت أيضا مع توقف نحو 150 ألف عامل فلسطيني عن العمل داخل إسرائيل، كانوا يرفدون الاقتصاد المحلي بحوالي مليوني دولار يوميا، إضافة إلى عزوف الفلسطينيين في الداخل عن التسوق في أسواق الضفة، ما ضاعف من الركود، وإلى جانب ذلك، شكّل تصاعد اعتداءات الجيش والمستوطنين على المزارعين وتقييد حركتهم عائقا أمام وصولهم إلى كروم الزيتون في موسم القطاف، وهو مصدر رزق رئيس لآلاف العائلات التي فقدت مداخيلها الأخرى، الأمر الذي فاقم تداعيات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية على نحو غير مسبوق.

ولم تفلح محاولات الحكومة الفلسطينية لتجاوز أزمتها المالية عبر الاقتراض من محطات الوقود أو البنوك بضمانات أوروبية سوى في تغطية جزء من الرواتب، فيما تتفاقم معاناة عشرات آلاف الأسر، ويضيف عبد الكريم أن "الإجراءات الإسرائيلية تهدف بوضوح إلى إدخال الإحباط في نفوس الفلسطينيين، ودفعهم إما للهجرة وإما للقبول بحلول سياسية أدنى من سقف تطلعاتهم. فمع ضعف المناعة الاقتصادية وعجز السلطة عن تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، تصبح أكثر هشاشة وأقل قدرة على توليد زخم سياسي يمكّنها من فرض خيار الدولة المستقلة، ويضيف: "إسرائيل تريد إضعاف السلطة إلى حد العجز، بحيث لا يتجاوز دورها إدارة الشؤون المدنية للسكان الفلسطينيين دون أن تتطور إلى كيان دولة". 

وفيما لا تقتصر الأزمة الراهنة على توقف التجارة الداخلية والخارجية، بل تشمل تهديدات بتعطيل عمل القطاع المصرفي الفلسطيني، وتراجع المساعدات الدولية، ما جعل البيئة الاستثمارية في الضفة الغربية طاردة على نحو غير مسبوق، ومع ذلك، يلفت عبد الكريم إلى أنّ الفلسطينيين يدركون أن إسرائيل هي السبب المباشر للأزمة، ولذلك يتعاملون معها بمسؤولية عالية دون الانفلات ضد السلطة.

الثلاث هجمات الفردية المتتالية في راموت وتسوفا وطولكرم، أعادت تسليط الضوء على قدرة الفلسطينيين على إرباك المنظومة الأمنية الإسرائيلية، رغم ما تدعيه من تفوق ميداني

ويضيف الخبير الاقتصادي أن الفلسطينيين "يدفعون ثمن طموحهم السياسي في الضفة الغربية بالأزمات الاقتصادية، بينما يدفع أهل غزة ثمنا غير محدود بالصراع الدموي". أما المجتمع الدولي، فيكتفي- على حد تعبيره- بالتصريحات والبيانات الداعمة للسلطة الفلسطينية، من دون ترجمتها إلى دعم مالي ملموس، ويتساءل: "لماذا لا تضغط الدول الأوروبية والعربية على إسرائيل للإفراج عن أموال السلطة، أو على الأقل تعويضها بدعم مالي مباشر؟ فالشعارات وحدها لا تُمكّن السلطة من البقاء".

ومع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في هذه الآونة، حيث تعترف دول جديدة بفلسطين، تزداد المخاوف من أن تلجأ إسرائيل لردود عقابية تصل حد ضم أجزاء من الضفة وإجراءات اقتصادية ضد الفلسطينيين، وبالتزامن مع الأعياد اليهودية التي تمتد شهرا ابتداء من 22 سبتمبر يدخل المشهد الفلسطيني-الإسرائيلي مرحلة أكثر توترا، حيث يقدّر خبراء الأمن أن الضفة الغربية مرشحة لموجة تصعيد ميداني، في الوقت الذي ترفع فيه إسرائيل حالة الاستنفار القصوى لمواجهة أي هجمات محتملة خلال تلك الفترة الحساسة، حيث أجرى الجيش الإسرائيلي مناورة عسكرية واسعة في أنحاء الضفة الغربية يوم 15 سبتمبر الجاري شملت مشاركة عربات عسكرية مجنزرة في مشهد يعيد إلى الأذهان عملية "السور الواقي" عام 2002.

أ.ف.ب
طوق أمني اسرائيلي عند محطة للحافلات بعدما أطلق مسلحان فلسطينيان النار عند محطة للحافلات على مشارف القدس، في 8 سبتمبر 2025

الثلاث هجمات الفردية المتتالية في راموت وتسوفا وطولكرم، أعادت تسليط الضوء على قدرة الفلسطينيين على إرباك المنظومة الأمنية الإسرائيلية، رغم ما تدعيه من تفوق ميداني، فهذه العمليات، بطابعها الفردي والمرتجل، وصعوبة التنبؤ بمنفذيها الذين يطلق عليهم تسمية "الذئاب المنفردة" تشكل تحديا كبيرا للأجهزة الأمنية الإسرائيلية ومنظومة ردعها، وتعكس انتقال الغضب الشعبي إلى فعل مباشر يصعب التنبؤ به أو إحباطه، الأمر الذي يضاعف قلق الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من تحوّل الضفة إلى ساحة مواجهة مفتوحة، حيث تتضافر عوامل لم تجتمع بهذه الحدة من قبل، فمع انسداد الأفق السياسي وتفاقم الأوضاع الاقتصادية وتصاعد تغوّل اليمين الإسرائيلي، والعنف الاستيطاني غير المسبوق الذي تحميه تشريعات حكومية، وإطلاق يد المستوطنين لترهيب الفلسطينيين وحرق وتدمير ممتلكاتهم والاستيلاء على أراضيهم بقوة السلاح وتدمير مصادر المياه، والاعتقالات اليومية التي بلغت 11 ألف معتقل- وهو رقم غير مسبوق منذ احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية عام 1967- والإعدامات الميدانية، وهدم المنازل تدخل الضفة الغربية مرحلة أمنية أكثر خطورة لتصبح بيئة قابلة للاشتعال في أي لحظة، وبينما تسعى إسرائيل إلى استثمار الفوضى لفرض واقع استيطاني وأمني جديد، يجد الفلسطينيون أنفسهم بين "مقاومة" متصاعدة وسلطة منهكة ماليا ومجتمع دولي يكتفي بالبيانات.

font change