يشهد الحلم القديم بقيام دولة فلسطينية ذات سيادة اليوم تحوّلا جيوسياسيا يعدّ الأبرز منذ عقود. فالمؤتمر الدولي لتنفيذ حل الدولتين، الذي استضافته نيويورك في 22 سبتمبر/أيلول، لم يكن مجرد مناسبة دبلوماسية لتكرار المواقف المعهودة، بل محطة مفصلية تُسرّع من وتيرة الاعتراف الدولي، وتُعيد رسم ملامح الصراع على نحو غير مسبوق.
ومع كل اعتراف جديد بفلسطين، تزداد هشاشة الأسس التي يقوم عليها الوضع الراهن. وقد بلغ عدد الدول التي تعترف بالدولة الفلسطينية اليوم 156 دولة، وهو رقم يحمل دلالات رمزية واستراتيجية بالغة الأهمية. ومن المرجح أن يتجاوز هذا العدد قريبا عدد الدول التي تعترف بإسرائيل، والبالغ 164 دولة، ما يضع الدول المترددة في الاعتراف بعزلة متنامية، ليس باعتبارها دولا تسعى إلى الحياد، بل كجهات ترفض الانضمام إلى إجماع دولي آخذ في الاتساع.
هذه الديناميكية لا تقودها أطراف هامشية، بل قوى محورية ذات تأثير تاريخي بالغ. ويبرز في هذا السياق اعتراف كل من فرنسا والمملكة المتحدة، في خطوة لا يمكن التقليل من دلالاتها، فهذان البلدان لا يُمثلان مجرد علمين يُضافان إلى قائمة الاعتراف، بل هما من ساهما في رسم ملامح الشرق الأوسط الحديث من خلال اتفاقية "سايكس-بيكو"، وهما أيضا وراء إعلان بلفور الذي مهّد لقيام دولة إسرائيل. ومن ثم، فإن اعترافهما اليوم بدولة فلسطين يُعدّ تصحيحا تاريخيا عميقا.
ويُشكل هذا التطور الخطوة العملية الأولى نحو تحقيق الهدف الأصلي لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181، الصادر عام 1947، والذي دعا إلى تقسيم فلسطين إلى دولتين، يهودية وعربية.
وبشكل أوضح، فإن ذلك يعني أن أربعا من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وهي الصين وروسيا وفرنسا والمملكة المتحدة، باتت تعترف بفلسطين، فيما تبقى الولايات المتحدة الدولة الوحيدة من بين الأعضاء الدائمين التي لم تتخذ هذه الخطوة بعد. لم يعد السؤال المطروح هو "هل" سيحدث الاعتراف العالمي بدولة فلسطين، بل "إلى متى" ستواصل واشنطن مقاومة هذا الزخم الدولي المتصاعد؟
التصدعات: تحولات في المشهد السياسي الأميركي
يتزامن هذا الضغط الدولي مع تحوّل لافت كان يُعدّ حتى وقت قريب غير وارد داخل الولايات المتحدة نفسها. فالرأي العام الأميركي، الذي ظل لفترة طويلة أسيرا لسردية مؤيدة لإسرائيل بشكل كبير، يشهد اليوم تغيرا ملموسا. إذ تشير غالبية استطلاعات الرأي الأخيرة، لا سيما بين الأجيال الشابة، إلى تراجع في دعم السياسات الإسرائيلية، مقابل تنامٍ ملحوظ في التعاطف مع السعي الفلسطيني نحو العدالة وحق تقرير المصير. وقد شكّل الثمن الإنساني الباهظ للحرب في غزة عاملا محفزا لهذا التحوّل، دافعا بالقضية الفلسطينية من هامش السياسة الخارجية إلى قلب النقاش العام.