الاعتراف بدولة فلسطين مكافأة للسلطة لا لـ"حماس"

الزمن وحده سيكشف ما إذا كانت المغامرة الفرنسية ستؤتي أُكلها

الاعتراف بدولة فلسطين مكافأة للسلطة لا لـ"حماس"

عندما أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اعتراف بلاده بدولة فلسطين، جاءت ردود الفعل سريعة وحادة، فاتّهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فرنسا بأنها "تكافئ حماس"، فيما أبدى منتقدون آخرون شكوكهم حول توقيت الخطوة، في ظل استمرار الحرب في غزة وبعد مرور ما يقارب عامين على هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

لكن خطوة ماكرون لا تمثل تنازلا أمام إرهاب "حماس" بل هي محاولة محسوبة لتعزيز موقع السلطة الفلسطينية، الخصم السياسي لـ"حماس" والشريك الفلسطيني الوحيد المتبقي لإسرائيل في مسار السلام.

وقد كانت باريس واضحة في موقفها: لا بد من نزع سلاح "حماس" ومنعها من تولي أي دور في إدارة غزة.

لفهم دلالة هذا التحول في الموقف الفرنسي من مسألة الدولة الفلسطينية، لا بد من العودة إلى الموقف التقليدي الذي تبنّته باريس لعقود. فعلى مدى ما يزيد على أربعين عاما، تمسّكت فرنسا بأن قيام الدولة الفلسطينية يجب أن يكون ثمرة مفاوضات مباشرة مع إسرائيل. وقد عبّر الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران عن هذا التوجّه في خطابه التاريخي أمام الكنيست عام 1982، مؤكداً أن الاعتراف الفرنسي يجب أن يأتي كنتيجة للسلام لا كمقدمة له. وكان ذلك أول خطاب يلقيه رئيس فرنسي في إسرائيل، وشكّل سابقة سياسية مفادها أن فرنسا لن تعترف بدولة فلسطينية إلا بعد قبول إسرائيل بها.

قرار ماكرون يمثل خروجاً عن هذا التقليد، مبرّرا بتحوّلات دراماتيكية في المشهد السياسي. فمنذ عودة نتنياهو إلى السلطة عام 2022، تقود حكومته– الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل– سياسات ممنهجة تقوّض "حلّ الدولتين".

ورغم أن الأنظار العالمية تتجه نحو غزة، فإن عين وزراء اليمين المتطرف في إسرائيل على الضفة الغربية، إذ يدفعون إلى ضمها وتكريس مشروع "إسرائيل الكبرى"، عبر توسيع المستوطنات، وتشريع البؤر الاستيطانية، وتقويض سلطة السلطة الفلسطينية.

يتماشى القرار الفرنسي مع جهد دبلوماسي أوسع لعزل "حماس"، وإعادة إحياء شرعية السلطة الفلسطينية، ودفع مسار الحل السياسي. وقد شكّل "إعلان نيويورك" الذي رعته السعودية وفرنسا، نقطة تحوّل في هذا السياق. وللمرة الأولى، تطالب أطراف إقليمية، من بينها قطر وتركيا وهما من أبرز الوسطاء مع "حماس" ، بشكل علني بنزع سلاح الحركة واستبعادها من إدارة غزة.

البديل الذي طرحه إعلان نيويورك، والذي وقّعت عليه 142 دولة، هو دعمها لنشر بعثة دولية مؤقتة لتثبيت الاستقرار

وعندما رحّبت "حماس" بالاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية، فقد غضّت الطرف عن هذه الإدانة العلنية، ما يشي بمحاولتها اليائسة تسجيل أي مكسب رمزي.

بطبيعة الحال، السلطة الفلسطينية ليست النموذج المثالي في الوقت الراهن. فالرئيس محمود عباس يواجه سجلّا مثقلا بالوعود غير المنجزة. واعتراف ماكرون لا يُعبّر عن تأييد لقيادته، بل هو رهان على أن السلطة الفلسطينية تظل الخيار الأقل سوءا في ظل الواقع القائم.

وقد عبّرت فرنسا عن ذلك بوضوح من خلال مطالبتها بإصلاحات داخل السلطة، وهي مطالب أشار إليها عباس نفسه في رسالة وجّهها إلى القيادتين السعودية والفرنسية في يونيو/حزيران الماضي، ممهّدا بذلك لقرار الاعتراف.

ومن بين الإصلاحات المطلوبة، تم تنفيذ نظام جديد لتوزيع المساعدات الاجتماعية على أساس الحاجة الاقتصادية حصرا.

وطبيعي أن الاعتراف وحده لا يكفي لحلّ النزاع، وسيظل قيام دولة فلسطينية حقيقية رهنا بموافقة إسرائيل في نهاية المطاف. وفي المقابل، فإن استمرار السياسات الميدانية التي تعرقل الحل سيقضي عليه نهائيا.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يشارك في مؤتمر عبر الفيديو مع عدد من الشركاء الأوروبيين والعرب بشأن الوضع في الشرق الأوسط، في قصر الإليزيه الرئاسي في باريس، في 15 سبتمبر 2025

من هذا المنظور، لا تبدو خطوة فرنسا تنازلا، بل محاولة برغماتية لإنقاذ "حلّ الدولتين" قبل فوات الأوان. صحيح أن غياب خطوات ملموسة قد يحوّل الاعتراف إلى مجرد إشارة رمزية، لكن الرمزية لها وزنها.
فعبر اعترافها بدولة فلسطين، ترسل فرنسا، ومعها الدول التي لحقت بها، بما فيها المملكة المتحدة، رسالة لا لبس فيها: المجتمع الدولي يرفض ادّعاء "حماس" تمثيل الفلسطينيين، ويرفض في الوقت ذاته مساعي اليمين الإسرائيلي لإنكار واقع الهوية الوطنية الفلسطينية وإعادة احتلال غزة.

البديل الذي طرحه إعلان نيويورك، والذي وقّعت عليه 142 دولة، هو دعمها لنشر بعثة دولية مؤقتة لتثبيت الاستقرار. ولا شك أن هذا المقترح سيحمل وزنا أكبر لو أعلنت الدول الإقليمية المستعدة لاتخاذ خطوات عملية بهذا الشأن التزامها علانية. ومع ذلك، فمن دون دعم الولايات المتحدة، يصعب تخيّل إمكانية تنفيذ مثل هذا الخيار. ولكن الأخيرة منعت وفد عباس من حضور مراسم الأمم المتحدة للاعتراف بدولة فلسطين، فقوّضت الجهود التي تقودها فرنسا والسعودية.

إذا أخفقت السلطة الفلسطينية في اغتنام هذه اللحظة، وإذا تمسّك الرئيس عباس بالسلطة دون تنفيذ إصلاحات حقيقية، فسيجعل قرار ماكرون يبدو حركة ساذجة

وعندما يهدّد بنيامين نتنياهو وشركاؤه في الائتلاف الحاكم بضمّ أجزاء من الضفة الغربية رسميا، فإنهم بذلك يؤكدون مخاوف فرنسا من أن نافذة حلّ الدولتين توشك أن تغلق، وتغلق معها فرصة بناء شرق أوسط مستقرّ يمكن لإسرائيل أن تندمج فيه وتحقق أمنها على المدى الطويل.

الزمن وحده سيكشف ما إذا كانت المغامرة الفرنسية ستؤتي أُكلها. فإذا أخفقت السلطة الفلسطينية في اغتنام هذه اللحظة، وإذا تمسّك الرئيس عباس بالسلطة دون تنفيذ إصلاحات حقيقية، فسيجعل قرار ماكرون يبدو حركة ساذجة. ولكن إذا نجحت الخطوة في تحفيز الدبلوماسية، وتعزيز موقع السلطة، وعزل "حماس"، فقد تكون نقطة تحوّل في زمن يخيّم عليه اليأس.

ويبقى أن ما هو واضح حتى الآن هو أن اعتراف فرنسا ليس مكافأة للإرهاب، بل محاولة جادّة لإبقاء أفق السلام المستدام مفتوحا.

* الآراء الواردة هنا تعبّر عن وجهة نظر الكاتبة الشخصية حصرا

font change