الهجمة الإسرائيلية على الضفة... بداية الضم

علق مستوطنون لافتات تحمل صور الدمار في غزة كتب عليها "هذا المصير الذي ينتظركم"

أ.ف.ب
أ.ف.ب
منازل حديثة البناء في مستوطنة جفعات زئيف الإسرائيلية غرب مدينة رام الله الفلسطينية بالضفة الغربية المحتلة، 3 يونيو

الهجمة الإسرائيلية على الضفة... بداية الضم

رام الله- لم تعد الضفة الغربية مجرد أراضٍ فلسطينية محتلة منذ عام 1967، بل أصبحت مسرحا لعمليات عسكرية إسرائيلية ممنهجة، وتوسع استيطاني شرس، وتهويد صامت، وسط بيئة دولية عاجزة وسلطة فلسطينية ضعيفة وشعب يواجه ما يمكن وصفه بأسوأ نظام فصل عنصري في القرن الحادي والعشرين.

فمنذ وصول الحكومة الإسرائيلية اليمينية الحالية، تشهد الضفة الغربية تحولات ميدانية وسياسية هي الأخطر منذ عقود. حيث تهدد ليس فقط الحياة اليومية لنحو ثلاثة ملايين فلسطيني، بل تضع أيضا مشروع الدولة الفلسطينية برمته أمام مأزق وجودي عبر تسارع خطوات الضم والتهويد الفعلي للضفة الغربية وإعادة تشكيل الجغرافيا حيث تستغل إسرائيل تركيز الأنظار على حرب غزة، وضعف الموقف الدولي تجاه سياساتها، ووجود رئيس أميركي مؤيد لها في البيت الأبيض للمضي قدما بتنفيذ سياستها وأطماعها في الضفة.

ويقول الفلسطينيون إن نقطة التحول حصلت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حيث صعّد الجيش الإسرائيلي والمستوطنون من استهدافهم للضفة الغربية ومواطنيها الذين باتوا يواجهون أسوأ نظام فصل عنصري.

وبينما يجمع الفلسطينيون على الأثر الكبير لوجود حكومة يمينية متطرفة في حكم إسرائيل على تسارع عمليات الاستيطان وضم الضفة الغربية فإن أستاذ العلوم السياسية بجامعة بير زيت الدكتور غسان الخطيب يؤكد لـ"المجلة" أنه حتى لو سقطت وتغيرت الحكومة الحالية في إسرائيل فإن إجراءات التهويد والضم والقضم لأراضي الفلسطينيين لن تتوقف، مشيرا إلى أن التغيرات الديموغرافية في إسرائيل تعزز التغيرات السياسية والأيديولوجية حيث هاجر عدد كبير من العلمانيين منذ اندلاع حرب 7 أكتوبر بسبب التغيرات السياسية والأيديولوجية فيما لم يهاجر أتباع اليمين بمن فيهم المتدينون الذين تزداد أعدادهم.

وقال أمير داود مدير دائرة المعلومات في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية إن حوالي 53000 دونم من أراضي الضفة الغربية قد صودرت منذ 7 أكتوبر 2023 حتى مطلع يونيو/حزيران، ما يدل على ضم حقيقي تمارسه إسرائيل في الضفة الغربية، بالإضافة إلى شرعنة عشرات البؤر الاستيطانية التي أقيمت على أراضي الفلسطينيين وتحويلها إلى مستوطنات دائمة.

عمل الجيش الإسرائيلي على تعقيد حياة الفلسطينيين بالضفة الغربية عبر نشر وإعادة تفعيل مئات الحواجز العسكرية والبوابات الحديدية التي تقطع أوصال مدن وقرى الضفة الغربية جغرافياً

وتعلن إسرائيل صراحة أنها تريد ضم الضفة الغربية (الأرض وليس المواطنين، مما يعني أن المواطنين الفلسطينيين لن يمنحوا الهوية الإسرائيلية أسوة بسكان شرقي القدس أو هضبة الجولان السورية المحتلة) كما تعلن صراحة عبر عدد من مسؤوليها أن هدفها هو قتل إمكانية إقامة دولة فلسطينية على الضفة الغربية.

ويصف داود دور الجيش الإسرائيلي والمستوطنين في استهداف الضفة الغربية بالتبادل الوظيفي، مشيرا إلى أنه عندما عجز الجيش الإسرائيلي عن ترحيل 30 تجمعا بدويا في مناطق شرق الضفة الغربية بعد أن توجه محامو عدد منهم للقضاء الإسرائيلي لوقف قرارات الترحيل، أوكل الجيش الإسرائيلي المهمة للمستوطنين الذين هاجموا التجمعات البدوية بعنف غير مسبوق وأجبروهم على الرحيل من تجمعاتهم.

ففي عام 2024 أنشئت 51 بؤرة استيطانية، ليصبح العدد الكلي منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى مطلع يونيو 2025 نحو 75 بؤرة، فيما قتل 22 فلسطينيا على يد المستوطنين في عدة حوادث عنف، كما أشعل المستوطنون 400 حريق ضد ممتلكات ومزارع ومركبات الفلسطينيين، فيما بلغ مجموع اعتداءات المستوطنين ضد الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى مطلع يونيو حوالي 6000 اعتداء تركز معظمها في مناطق جنوبي نابلس، وشرقي رام الله، وفي منطقة سلفيت وجنوبي الخليل.

من جانبه عمل الجيش الإسرائيلي على تعقيد حياة الفلسطينيين بالضفة الغربية عبر نشر وإعادة تفعيل مئات الحواجز العسكرية والبوابات الحديدية التي تقطع أوصال مدن وقرى الضفة الغربية جغرافياً وتعيق حرية التنقل، حيث يمضي الفلسطينيون عشرات الساعات في الانتظار للمرور عبر الحواجز للوصول إلى أماكن عملهم وتعليمهم والعودة منها، حيث نشر الجيش الإسرائيلي 170 حاجزا بعد 7 أكتوبر ليصل العدد الكلي للحواجز إلى 898 حاجزا، تعرقل حياة الفلسطينيين، وتفرض عليهم نمطا من العيش أقرب إلى نظام فصل عنصري مؤسسي، فيما هدمت الإدارة المدنية، وهي الذراع المدنية لوزارة الدفاع الإسرائيلية في الضفة الغربية، 3225 منشأة و1225 بيتا منذ 7 أكتوبر 2023 ولغاية مطلع يونيو 2025، بالإضافة إلى إحكام القبضة الأمنية في شمال الضفة تحديدًا وهدم مخيمات طولكرم ونور شمس وجنين وتشريد ما يزيد على 22000 لاجئ فلسطيني.

ويعتقد الفلسطينيون أن الحكومة الإسرائيلية بجيشها ومستوطنيها تسابق الزمن مستغلة حرب غزة وتركيز الأضواء على أهوال تلك الحرب للمضي قدما بتنفيذ مشروعها في ضم وتهويد الضفة الغربية عبر فرض الوقائع على الأرض.

يتوقع الفلسطينيون من السلطة الفلسطينية أن تبذل جهدا دبلوماسيا أكثر فعالية لتركيز اهتمام دولي أكبر تجاه أخطار سياسات إسرائيل ضد الضفة الغربية

وقال مصطفى البرغوثي، أمين عام المبادرة الوطنية، لـ"المجلة"، إن إسرائيل سيطرت على 44 في المئة من مساحة الضفة الغربية، مشيرا إلى أن وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش أعلنا عن نواياهما بفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية مما يعني تدمير أية إمكانية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. ويجمل البرغوثي سياسة إسرائيل بأن الحركة الصهيونية أكدت بعد أحداث 7 أكتوبر أنها غير مستعدة لحل وسط مع الفلسطينيين وتريد الاستيلاء على الضفة الغربية وضمها وتهويدها ومنع إقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل.

ولعل الأخطر أن هذا الواقع الجديد يضعف السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية (35000 عنصر ينتشرون بالضفة الغربية) ويقوض قدرتها على حماية مواطنيها أو حتى الحفاظ على شرعيتها، في ظل تضاؤل الأمل بإقامة دولة فلسطينية، بل وتزايد الحديث في أوساط الفلسطينيين عن الهجرة القسرية وفقدان الثقة بالحل السياسي وسط ضائقة اقتصادية خانقة يعيشها مواطنو الضفة الغربية.

ففي خضم القهر والمعاناة التي يواجهها أكثر من 3 ملايين فلسطيني في الضفة، يتوجه اللوم للسلطة الفلسطينية التي لم تنجح في وقف ما يجري من تهويد وضم لأراضي الفلسطينيين.

رويترز
جندي إسرائيلي يمنع امرأة فلسطينية جاءت لزيارة قبر قريبها، من الوصول إلى المقبرة في مخيم جنين بالضفة الغربية المحتلة، 6 يونيو

ويرى الخطيب أنه يتوجب على السلطة الفلسطينية تبنّي استراتيجية دعم صمود المواطنين الفلسطينيين على أرضهم ومقاومة مشاريع الاستيطان والضم وسرقة أراضيهم.. "هذه المقاومة الشعبية هي التي ستحسم الصراع على الأرض الفلسطينية"، كما يؤكد الخطيب لـ"المجلة".

ويرى كثير من الفلسطينيين أن وجود ترمب في البيت الأبيض فتح شهية إسرائيل لضم الضفة الغربية، حيث منحهم الضوء الأخضر للقيام بذلك وسط ضعف أوروبي وعربي في التصدي للمشاريع الإسرائيلية، حيث تعتبر هذه أكثر فترة منذ الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية عام 1967 حتى اليوم يلاحظ فيها التماهي بين سلوك الجيش الإسرائيلي والمستوطنين وكأنهما يكملان الأدوار بينهما في اضطهاد الفلسطينيين وتنغيص حياتهم اليومية.

ويتوقع الفلسطينيون من السلطة الفلسطينية أن تبذل جهدا دبلوماسيا أكثر فعالية لتركيز اهتمام دولي أكبر تجاه أخطار سياسات إسرائيل ضد الضفة الغربية ومحاولاتها حسم الصراع في الضفة الغربية لصالح إسرائيل.

ويشاهد الفلسطينيون خلال تنقلهم عبر شوارع الضفة الغربية المشتركة والتي يسلكها المستوطنون والجيش الإسرائيلي يافطات علقها المستوطنون تحمل صور الدمار في قطاع غزة وقد كتب عليها "هذا المصير الذي ينتظركم، لا مستقبل لكم هنا، هاجروا إلى الأردن".

الضفة الغربية تقف اليوم على مفترق طرق خطير، حيث يعني استمرار الوضع الراهن تكريس واقع الدولة الواحدة بنظام فصل عنصري، وإنهاء حل الدولتين نهائيًا وإلى الأبد

وتبدو سياسة الحكومة اليمينية الإسرائيلية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي والمستوطنون وإدارتها المدنية على الأرض أنها تقوم على حصر أكبر عدد من الفلسطينيين في أقل مساحة من الأرض من أجل استخدام أكبر مساحة من أراضي الضفة الغربية لمشاريع التوسع الاستيطاني.

وقال اللواء (متقاعد) عدنان الضميري وهو من سكان مخيم طولكرم منذ عام 1954 لـ"المجلة"، إن قيام الجيش الإسرائيلي بطرد سكان مخيمات طولكرم ونور شمس وجنين مؤخرا يهدف إلى إنهاء قضية اللاجئين الفلسطينيين عبر إنهاء رموز تلك القضية المتمثلة في وكالة "غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (الأونروا) ومخيمات اللاجئين، متوقعا أن تمتد عمليات الاستهداف لاحقا لتطال المزيد من مخيمات الضفة الغربية.

وأجبر خليل مليحات- وهو بدوي من مضارب مغاير دير دبوان شرقي رام الله هو وعدد من العائلات أصحاب المواشي البالغ تعدادهم 200 شخص- على مغادرة المنطقة في 23 مايو/أيار الماضي بعد تكرار اعتداءات المستوطنين عليهم بحماية من الجيش الإسرائيلي وسرقة أغنامهم، إذ قال لـ"المجلة": "تعرضنا لمضايقات واعتداءات من المستوطنين على مدار الساعة وآخرها كان إنشاء المستوطنين بؤرة استيطانية داخل تجمع عائلاتنا، حيث تقدمنا بشكوى للشرطة الإسرائيلية والإدارة المدنية الإسرائيلية لكنهما لم يفعلا شيئا لكبح جماح اعتداءات المستوطنين ضدنا شخصيا وضد مواشينا، فاضطررنا للرحيل"، مشيرا إلى أن المستوطنين اعتدوا عليهم جسديا حيث أصيب ستة رجال منهم بجراح نقلوا على أثرها لتلقي العلاج بالمستشفى.

وأكد مليحات أن أعداد الماشية لديهم انخفض من 4000 رأس غنم إلى 100 رأس لكل منهم بسبب منعهم من الرعي في الأراضي المجاورة من قبل المستوطنين المعروفين بجماعة "الاستيطان الرعوي".

أ.ف.ب
سيارة متفحمة، بعد يوم من هجوم شنّه مستوطنون إسرائيليون على دير دبوان في الضفة الغربية المحتلة، في 5 يونيو

الهجمة الإسرائيلية والاستهداف الشرس للضفة الغربية تجعل حل الدولتين مستحيلا من جهة وتدفع ثلاثة ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية إلى فقدان الأمل نهائيا في إمكانية تجسيد هكذا حل وسط الاستهداف بالتهويد ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات والقتل والاعتقالات والحواجز العسكرية والحرب الاقتصادية التي تشنها إسرائيل عليهم كما لم يحدث من قبل، بحيث باتت السياسات الإسرائيلية تشكل خطرا وتهديدا وجوديا للفلسطينيين بالضفة الغربية، الذين لا يرون إمكانية لوقفها إلا بموقف دولي حاسم ضد إسرائيل يجبرها على التراجع عن تلك السياسات، كما تدفع كثيرا منهم إلى التطرف في مواقفهم وقناعتهم تجاه إسرائيل، وربما التفكير بتأييد والقيام بأعمال عسكرية مسلحة عنيفة كرد على عنف المستوطنين وقمع الجيش لهم وحرمانهم أرضهم وقتل حلمهم.

الضفة الغربية تقف اليوم على مفترق طرق خطير، حيث يعني استمرار الوضع الراهن تكريس واقع الدولة الواحدة بنظام فصل عنصري، وإنهاء حل الدولتين نهائيًا وإلى الأبد. وهذا الواقع ليس فقط كارثيًا على الفلسطينيين، بل ينذر بانفجار قادم قد يأخذ أشكالا غير متوقعة، من انتفاضة شاملة، إلى انهيار أمني، أو حتى انفجار اجتماعي داخل المدن الفلسطينية، يهدد الاستقرار الإقليمي.

font change