صورة قاتمة لاقتصاد الضفة الغربية المحتلة

ارتفاع البطالة الى 29 % والناتج المحلي تراجع 22 %

Al Majalla
Al Majalla

صورة قاتمة لاقتصاد الضفة الغربية المحتلة

لا يحتاج المرء لوقت طويل ضمن جولة في أي من مدن الضفة الغربية أو بلداتها حتى يطلع على حجم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالشارع الفلسطيني وتزداد تفاقما مع استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. بضائع متكدسة في المحال التجارية وتراجع في الإقبال وارتفاع في الأسعار بل تباين في أسعار السلع ذاتها بين المحال المختلفة، وحديث متواصل عما تحمله الأيام المقبلة.

وتظهر ملامح الأزمة الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية بشكل واضح من خلال قضية العمال الفلسطينيين الذين توقف عملهم داخل إسرائيل مع بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وباتوا عاطلين عن العمل بين ليلة وضحاها.

ما من إحصاء دقيق لعدد العمال الذين كانوا يعملون في إسرائيل قبل الحرب وتتفاوت الأرقام المعلنة وفقا لمعايير مختلفة سنفصلها لاحقا، لكن وقف عمل هؤلاء في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول أدى إلى تراجع واضح في معدلات الدخل القومي الفلسطيني وارتفاع نسبة البطالة.

في حديث لـ"المجلة" يروي بدوي أبو جويعد، ابن منطقة دورا في محافظة الخليل والذي اعتاد العمل في مجال البناء في المناطق الجنوبية من إسرائيل، يروي معاناة آلاف العمال الذين توقف مدخولهم اليومي بشكل فوري بعد الحرب.

ويقول: "أنا شخصيا أعتمد حاليا على توفير سابق اضطررت إلى سحبه، وقيمته لا تتجاوز الألفي دولار، ويوميا أساعد نحو عشرة عمال في إجراءات صرف توفيراتهم من العمل، لكن كثيرين من زملائي يعانون ضائقة حقيقية منذ اليوم الأول للحرب، فنحن شريحة العمال نعيش أولا بأول ونحصل على الرواتب من المقاولين بشكل أسبوعي أو شهري، وبالتالي لا يمكن لنا توفير مبالغ كبيرة من المال وما من ضمانات أو حقوق أساسية لنا كتلك التي يتمتع بها المواطن الإسرائيلي، لذا فإننا نواجه مصيرا مجهولا خلال المرحلة المقبلة، وإذا استمرت الحرب سنجد أنفسنا نواجه الفقر وفقدان المدخول خاصة إذا وجد أرباب العمل بدائل لنا لاستكمال أعمالهم. لدي أصدقاء حجزت البنوك على بيوتهم لعدم قدرتهم على تسديد شيكات وقروض، وآخرون لم يتمكنوا من تسديد مستحقات علاج أطفالهم في المشافي. لقد باتت البنوك الفلسطينية تتعامل معنا كالفيروس والوباء بعد أن كنا جزءا أساسيا في رافعة الدخل القومي العام قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي (اندلاع الحرب). وفي هذا الوقت تحديدا نحتاج إلى خطوات من الحكومة الفلسطينية لبناء الثقة مع العامل لكن ما يجري هو العكس تماما".

عمال فلسطين... رافعة اقتصادية معطلة

واللافت في رواية بدوي أنها تحاكي ظروف آلاف العمال الفلسطينيين في إسرائيل، فقد أنهى دراسته الجامعية عام 2005، لكنه لجأ للعمل في إسرائيل بسبب انخفاض أجور العاملين في القطاع العام في السلطة الفلسطينية، وهو السبب ذاته الذي يضيف مزيدا من الصعوبات في الأوضاع الاقتصادية الفلسطينية عموما.

ما من إحصاء دقيق لعدد العمال الذين كانوا يعملون في إسرائيل قبل الحرب، لكن وقف عملهم أدى إلى تراجع واضح في معدلات الدخل القومي الفلسطيني وارتفاع البطالة

تعمل نقابة "معا" العمالية في إسرائيل مع آلاف العمال الفلسطينيين في محاولات لتقديم الدعم القانوني والحقوقي لهم. وفي حديث لـ"المجلة" مع رئيس النقابة أساف أديب قال إن حال العمال الفلسطينيين الممنوعين الآن من دخول إسرائيل في ضوء الحرب كالمسافر الذي ينتظر القطار في المحطة، فهم مستعدون في كل لحظة ويتابعون الأخبار أولا بأول علها تحمل لهم ما يبشر بعودتهم للعمل.

يقول أديب إن الضغوط التي تبذلها النقابات العمالية والحقوقية على الحكومة الإسرائيلية لإعادة العمال الفلسطينيين إلى عملهم لا تلقى آذانا صاغية في الأروقة الرسمية حتى مع استمرار التحذيرات التي توجهها الأجهزة الأمنية والعسكرية في إسرائيل من أن مواصلة منع العمال الفلسطينيين من الدخول إلى إسرائيل سيؤدي إلى حالة احتقان في الشارع الفلسطيني تنتهي بتصعيد أمني وتوتر كبير في الضفة الغربية.

عامل بناء فلسطيني في مدرسة قيد الإنشاء في الضفة الغربية المحتلة، ديسمبر 2023

تقدر نقابة "معا" العدد الإجمالي للعمال الفلسطينيين في الضفة الغربية بنحو مئتي ألف عامل تقسمهم على النحو الآتي:

مئة وعشرون ألف عامل يحملون تصاريح عمل رسمية من إسرائيل. نحو أربعين ألف عامل يعملون في مستوطنات الضفة الغربية المحتلة إلى جانب عدد كبير تقدر النقابة أنه يشمل آلاف العمال والعاملات ممن تتجاوز أعمارهم الخمسين عاما (الرجال يتجاوزون 55عاما) ولا يحتاجون الحصول على تصريح.

كما يضاف إليهم من يمنحون تصاريح مؤقتة للبحث عن عمل ويعملون في إسرائيل إلى جانب من يدخلون بشكل غير قانوني عبر الثغرات في الجدار الفاصل أو الأراضي الزراعية الواقعة خلف الجدار.

يقول أديب إن رواتب العمال الفلسطينيين تضخ نحو ثلاثة مليارات ونصف المليار دولار سنويا للسوق الفلسطينية، وتعادل نحو عشرين في المئة من المدخول القومي العام، قبل أن يضاف إليه معدل رواتب الموظفين الفلسطينيين في القطاع العام والتي تقل بمعدل ثلاثة أضعاف عن رواتب العمال في إسرائيل.

للمزيد إقرأ: فلسطين... الخرائط و"أخلاق" بن غفير

وبناء عليه فإن استمرار منعهم من العمل سيفاقم الأزمة الاقتصادية، خصوصا أن الجهود الرسمية التي تبذل أمام مؤسسات صناديق التقاعد لتحويل مخصصات التقاعد للعمال حاليا لا تسجل نجاحات كبيرة، كما أن القانون الإسرائيلي وفق ما يقول أديب مجحف وفيه ثغرات تمكن الجانب الإسرائيلي من التنصل من حقوق العمال الفلسطينيين في حال كانت أسباب التوقف عن العمل مرتبطة بالظروف الأمنية.

رواتب العمال الفلسطينيين تضخ نحو 3,5 مليارات دولار سنويا في السوق الفلسطينية وتعادل نحو 20 في المئة من المدخول القومي العام

تظهر بيانات سلطة النقد الفلسطينية أن قيمة الشيكات المرتجعة لعدم كفاية الرصيد بلغت أربعة في المئة من قيمة الشيكات الإجمالية المتداولة في عام 2023، وقد سجلت ارتفاعا طفيفا خلال الربع الأخير من العام الماضي بسبب التبعات الاقتصادية للحرب على قطاع غزة.

وتوضح بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن للحرب على غزة انعكاسات كبيرة في ارتفاع أسعار السلع خلال الربع الأخير من العام الماضي، من دون الحديث عن استمرار الارتفاع خلال العامين المنصرمين بسبب تداعيات كورونا والحرب الروسية الأوكرانية.

أما الناتج المحلي في الضفة الغربية فقد تراجع وفق معطيات جهاز الإحصاء إلى نسبة 22 في المئة، كما ارتفع معدل البطالة في نهاية العام الماضي إلى 29 في المئة وهو مرشح للزيادة مع استمرار الحرب.

اقتصاد مرتهن لإسرائيل

يعيد الباحث في المركز الفلسطيني للدراسات "مدار" وطالب الدكتوراة في الجامعة العبرية في القدس وليد حباس، الأزمة الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية بعد اندلاع الحرب إلى عوامل عدة من بين أسسها قضية العمال وعائدات الضرائب التي تجبيها إسرائيل للسلطة الفلسطينية (المعروفة بالمقاصة) وتحسم منها مبالغ كبيرة، لكن في الوقت ذاته يقول إن بنية المنظومة الاقتصادية الفلسطينية وارتباطها المباشر بإسرائيل ساهم على مدار سنوات طويلة في تراجعها كما لا يقلل من دور سوء إدارة الحكومات الفلسطينية وفسادها في حالات كثيرة في التأثير السلبي على الأوضاع الاقتصادية.

وفي حديث لـ"المجلة" يقول حباس: "منذ احتلال الضفة الغربية وغزة عام 1967 سعت إسرائيل إلى الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية والاستيطان فيها وتقسيمها إلى تجمعات متفرقة يسهل السيطرة عليها وفرضت نظاما يضمن لها التحكم بالفلسطينيين من خلال أدوات مختلفة، كما أتبعت الاقتصاد الفلسطيني بالإسرائيلي، ولم يتغير الحال بعد اتفاق أوسلو فالتجمعات الفلسطينية تحولت إلى مناطق (أ) و(ب) التي تسيطر عليها السلطة، فيما (ج) الأوسع تسيطر عليه إسرائيل بوجود المستوطنين وما يجري على الأرض هو استمرار حاجة الفلسطينيين للعمل في إسرائيل لأن الاتفاقات الموقعة بما فيها معاهدة باريس لم تضمن استقلالية اقتصادية فلسطينية وبناء مواقع عمل بديلة في الأراضي الفلسطينية، إلى جانب أن قطاع التجارة بقي معلقا بيد إسرائيل التي تعد الشريك التجاري الأساسي للسلطة الفلسطينية بلا منازع وتتحكم في نوعية البضائع المتاح وصولها للضفة أحيانا وفق معايير أمنية، كما أن موازنة السلطة الفلسطينية التي تستخدم لصرف رواتب موظفي القطاع العام وموازنات الوزارات والمؤسسات الحكومية تعتمد (60 في المئة) على أموال المقاصة والعائدات الضريبية التي تجبيها إسرائيل للسلطة من التجار الفلسطينيين الذين يشترون أو يستوردون بضائعهم من إسرائيل ويدفعون المستحقات الضريبية لها.

تعتمد موازنة السلطة الفلسطينية التي تستخدم لصرف رواتب موظفي القطاع العام وموازنات الوزارات والمؤسسات الحكومية بنسبة 60% على أموال المقاصة والعائدات الضريبية التي تجبيها إسرائيل للسلطة من التجار الفلسطينيين

ويواصل حباس القول إن معظم ركائز الاقتصاد الفلسطيني تضررت بعد الحرب على غزة وأدت إلى تدهور كبير في الأوضاع الاقتصادية، فمع منع العمال الفلسطينيين من مواصلة العمل في إسرائيل ارتفعت البطالة وقل تداول العملات كما ارتفعت الأسعار التي لا توفر الحكومة أدوات مهنية سليمة لمراقبتها.

للمزيد إقرأ: "حل الدولتين"...الذي دفنه نتنياهو في سبيل إعادة الانتخاب

ومن جانب آخر، أدت الشروط التي راكمتها إسرائيل لتحويل أموال المقاصة للسلطة الفلسطينية والاجتزاء منها إلى استمرار حسم نسب محددة من رواتب موظفي القطاع العام والعاملين فيه. وينهي حباس حديثة بالإشارة إلى أن العام الحالي قد يشهد مزيدا من التدهور الاقتصادي والأوضاع الصعبة في الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية والتي ستظهر بشكل واضح خلال الصيف المقبل، لكن إسرائيل التي تدرك جيدا أن السلام الاقتصادي مهم جدا قد لا تذهب في اتجاه قبول تراجع حاد من شأنه أن يؤدي لحالة غليان في الشارع.

يقول الصحافي الإسرائيلي داني زاكين في حديث لـ"المجلة" إن جزءا أساسيا من تدهور الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية مرتبط بقرارات سياسية محضة لا تخص الوضع الأمني، فمسألة منع العمال الفلسطينيين من العمل في إسرائيل هي عقاب غير منطقي، خصوصا أن الأجهزة الأمنية لا تعارض ذلك ولم يثبت ضلوع عمال يحملون تصاريح عمل في عمليات تستهدف إسرائيل، وفي السياق السياسي نفسه يضع زاكين اقتطاع إسرائيل الجزء المخصص لغزة من أموال المقاصة، خاصة أن الادعاء بأنها قد تحول لـ"حماس" غير صحيح، بما أنها تخص الموظفين والخدمات التابعة للسلطة الفلسطينية في قطاع غزة على حد تعبيره.

للمزيد إقرأ: عدالة مؤجلة في غزة

مع نهاية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ستتضح بصورة كبيرة الآثار الوخيمة على اقتصاد الضفة، إذ يقاس حجم الأضرار الكبيرة والدمار الذي تعرضت له، ولا سيما أن الأوضاع في القطاع ازدادت تدهورا ودمارا مع استهداف نسبة كبيرة جدا من المنشآت والبنى الأساسية وغيبت آفاق حلحلة في أزمة البطالة المرتفعة أصلا والحصار المتواصل.

font change

مقالات ذات صلة