العملات المشفرة في العالم العربي... تجارب ورهانات

نظرة على مسارها في أسواق السعودية والامارات ومصر

إيوان وايت
إيوان وايت

العملات المشفرة في العالم العربي... تجارب ورهانات

شهدت العملات المشفرة خلال العقد الماضي توسعا ضخما على مستوى العالم، ولم تكن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا استثناء في هذا الإطار. غير أن ردود فعل الحكومات على طفرة الأصول الرقمية وتطورها تباينت في شكل كبير من بلد إلى آخر، سواء داخل المنطقة أو خارجها، مع تغيّر مواقف بعض السلطات بمرور الوقت.

سعت بعض الدول إلى استثمار ميزة "الدولة السباقة"، مثل سنغافورة، التي قررت هذه السنة فرض تنظيمات أكثر صرامة على سوق العملات المشفرة والتضييق على البورصات المعنية غير المرخص لها. وعلى النقيض، اتجهت الولايات المتحدة، خلال الولاية الثانية للرئيس دونالد ترمب، المعروف بتأييده للعملات المشفرة والذي يدفع بوضوح إلى تعزيز القطاع، نحو تبنٍّ أكبر للثروات الرقمية. في المقابل، بقيت دول أخرى على موقف الرفض، مثل الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، التي فرضت قيودا على تداول العملات المشفرة وعمليات تعدينها.

تنظيم أسواق العملات المشفرة

في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كرست دولة الإمارات العربية المتحدة نفسها كأكبر مركز للعملات المشفرة، تليها المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين. أما جمهورية مصر العربية، صاحبة أكبر تعداد سكاني في المنطقة، فكانت سوقا واعدة قبل تجريم قوانينها الأنشطة المرتبطة بالعملات المشفرة.

 تتجه دول الخليج نحو تجربة "العملات الرقمية" الصادرة عن المصارف المركزية، وهي خطوة قد تكون أساسية في مساعي هذه الدول إلى تنويع اقتصاداتها

اتخذت دول مجلس التعاون الخليجي – ولا سيما الإمارات والسعودية والبحرين – خطوات لتنظيم نشاطات الأصول المشفرة لجذب الأطراف الدولية الفاعلة ومواكبة التطور السريع في هذا القطاع. ووفق تقرير أصدرته "مؤسسة كارنيغي" بعنوان "مستقبل العملات المشفرة في دول مجلس التعاون الخليجي"، فإن "صعود العملات المشفرة والتكنولوجيا المالية (الفنتك) في دول المجلس يعكس إصلاحات اقتصادية ومساعي إلى تحقيق السيادة المالية والمرونة في مواجهة التحولات الجيوسياسية والاعتماد على النفط".

ويضيف التقرير أن "القطاع المدعوم بقوة من الحكومات، والمدفوع بعمليات رقمنة بدأ تطبيقها بعد جائحة 'كوفيد - 19'، شهد تحولات سريعة ممهّدا الطريق باتجاه اعتماد أوسع لتكنولوجيا سلسلة الكتل (بلوك تشين)".

كذلك تتجه دول الخليج نحو تجربة العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية، وهي خطوة قد تكون أساسية في مساعي هذه الدول إلى تنويع اقتصاداتها.

إيوان وايت

ويشير تقرير "مؤسسة كارنيغي" إلى أن هذه الدول "أبدت انفتاحا حذرا تجاه العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية، ولا سيما لما تحمله من إمكانات استراتيجية لتقليل الاعتماد على الدولار الأميركي وتعزيز كفاءة المدفوعات العابرة للحدود". ويضيف التقرير: "إلى جانب الفائدة التقنية لهذه العملات، هي تُعَدّ أصولا استراتيجية في إطار الجهود الأوسع التي تبذلها دول الخليج لإعادة ضبط سيادتها المالية".

سوق قيمتها أربعة تريليونات دولار

وُلِدت العملات الرقمية عام 2009 مع ابتكار "البيتكوين". وبدأت تحظى بالاهتمام عام 2017 حين قفزت قيمتها بشكل كبير بفعل الطلب العالمي المتزايد، وسجّلت لاحقا ارتفاعات كبيرة منحتها ثقلا ماليا عالميا. وفي يوليو/تموز الماضي، تجاوزت القيمة الإجمالية للأصول الرقمية أربعة تريليونات دولار للمرة الأولى، ما يوازي تقريبا الناتج المحلي الإجمالي الألماني، أكبر اقتصاد أوروبي.

 تُعَد الإمارات من أكثر الأسواق جاذبية في هذا القطاع، إذ سارعت سلطاتها إلى تنظيم التداولات في وقت كانت فيه دول كثيرة تنظر بعين الريبة إلى القطاع

ولا تزال "البيتكوين" تتصدر العملات الرقمية، محطمة أسعارا قياسية تجاوزت 120 ألف دولار للوحدة، بعدما كان سعرها دولارا واحدا عام 2011. وجاءت قفزاتها الأخيرة مع عودة ترمب إلى السلطة، إذ أطلقت إدارته "الاحتياطي الاستراتيجي للبيتكوين" المخصص لإدارة الأصول الرقمية في شكل منظم، في خطوة تمهد لمزيد من النمو.

الإمارات متقدمة في العملات المشفرة

كانت إسرائيل مرشحة لتكون وجهة مفضلة للمستثمرين في العملات المشفرة بوصفها اقتصادا متقدما في المنطقة، لكنها لم تكن يوما مساندة لهذا القطاع، مما فتح المجال أمام الإمارات لتتقدم. واليوم تُعَد الإمارات من أكثر الأسواق جاذبية في هذا القطاع، إذ سارعت سلطاتها إلى تنظيم التداولات في وقت كانت فيه دول كثيرة تنظر بعين الريبة إلى القطاع.

في السنوات الأخيرة، جذبت أبوظبي ودبي أطرافا فاعلة بارزة في القطاع، مثل "بينانس"، كبرى بورصات العملات الرقمية في العالم، التي وسعت أعمالها في الإمارات. ويشير تقرير "مؤسسة كارنيغي" إلى أن صعود دبي كمركز عالمي للتداول "جاء لأسباب منها انتقال شركات روسية من جنيف إلى الإمارات للالتفاف على العقوبات الدولية" بعد غزو أوكرانيا عام 2022.

وفي مارس/آذار المنصرم، عززت أبوظبي موقعها من خلال استحواذ ذراعها الاستثمارية المتخصصة في الذكاء الاصطناعي، "إم. جي. إكس."، على حصة بقيمة ملياري دولار في "بينانس"، مما عزز موقع الإمارات في عالم العملات المشفرة. جاء ذلك بعد صفقات أخرى، منها قيادة "شركة أبوظبي التنموية القابضة"، الصندوق السيادي، استثمارا بقيمة 16 مليون دولار في شركة "دي. إف. إن. إس." الفرنسية لتكنولوجيا المحافظ الرقمية.

لدى السعودية ثاني أكبر سوق للأصول الرقمية وأسرعها نموا في المنطقة، بفضل إقبال شبابها – الذين يشكلون أكثر من 60 في المئة من السكان – على التداول بهذه الأصول

كذلك، اتخذت الإمارات خطوات لإطلاق عملات رقمية مستقرة مرتبطة بالدرهم، إذ أقرّ "مصرف الإمارات المركزي" في ديسمبر/كانون الأول عملة "إيه. إي. كوين"، المدعومة بالدرهم، وأعلن في أبريل/نيسان مع "شركة أبوظبي التنموية القابضة" و"بنك أبوظبي الأول" و"إنترناشونال هولدينغ" خطة لإطلاق عملة رقمية مستقرة أخرى تحت إشرافه الكامل. ويعمل المصرف أيضا لإصدار "الدرهم الرقمي" كبديل للعملات الورقية، يمكن استخدامه في المدفوعات المختلفة – عبر الإنترنت وفي المتاجر ومن ضمن الصفقات التجارية.

السعودية الأسرع نموا في المنطقة

تُعد السعودية ثاني أكبر سوق للأصول الرقمية وأسرعها نموا في المنطقة، بفضل إقبال شبابها – الذين يشكلون أكثر من 60 في المئة من السكان – على التداول بهذه الأصول. اتخذ "البنك المركزي السعودي" خطوات لتنظيم هذا النشاط وجذب مؤسسات مالية مثل "غولدمان ساكس"، لكنها لم تسمح بعد بالمعاملات الفعلية بالعملات المشفرة بسبب قيود، مما حد تبنيها الكامل، وفق تقرير "مؤسسة كارنيغي". وتعمل المملكة مع الإمارات لإطلاق عملة رقمية مشتركة باسم "عابر" لتسوية المدفوعات بين البلدين.

Shutterstock
تنامي أسواق البتكوين في المنطقة العربية

أما البحرين، فكانت سريعة أيضا في التجاوب، إذ منحت أول ترخيص للتداول عام 2019 لمنصة "رين". وعلى الرغم من أن السوق البحرينية ذات الصلة لم تتوسع بالوتيرة نفسها كما في الإمارات، حيث تتمتع أبوظبي ودبي بجاذبية تصعب مضاهاتها، تسعى البحرين إلى جذب الشركات الكبرى، وقد حصلت "بينانس" على ترخيص بحريني كامل في أبريل/نيسان الماضي، وتبع ذلك دخول منصة "كوين دي. سي. إكس." الهندية إلى السوق البحرينية في مايو/أيار.

لسنوات في مصر، لم تكن العملات المشفرة مجرّمة قانونا بشكل كامل ولا مسموحا بها تماما، لكن السلطات اتخذت تدابير للحد من التداول والتعدين عام 2017

كذلك أعلن "مصرف البحرين المركزي" إطارا للترخيص لمصدري العملات الرقمية المستقرة والإشراف عليهم.

تراجع اهتمام مصر بالعملات المشفّرة

كانت مصر، أحد أكبر ثلاثة اقتصادات في أفريقيا، تمتلك إمكانات كبيرة في هذا المجال، لكنها رفضت مبدأ اللامركزية المتصل بالعملات الرقمية خشية استخدامها في تمويل نشاطات غير مشروعة. وعلى الرغم من وجود خطة قديمة لإطلاق عملة رقمية تصدر عن "البنك المركزي المصري"، فإن معالم الخطة لم تتضح بعد.

Shutterstock
عملات معدنية لعملة البتكوين بجانب رمز الدولار

لسنوات في مصر، لم تكن العملات المشفرة مجرّمة قانونا بشكل كامل ولا مسموحا بها تماما، لكن السلطات اتخذت تدابير للحد من التداول والتعدين. عام 2017، فشلت محاولة لإطلاق منصة "بيتكوين مصر" لعدم حصولها على التراخيص الضرورية. ومع تزايد شعبية العملات المشفرة، أقرّ قانون المصارف رقم 194 الصادر عام 2020 حظر إصدار العملات المشفرة أو تداولها أو الترويج لها، ومن يخالف يعاقب بالسجن وغرامة بين مليون و10 ملايين جنيه مصري (الدولار كان يساوي 15.73 جنيها وقتذاك فيما يبلغ اليوم 48.55 جنيها).

إقرأ أيضا: بوتان ومستقبل الكريبتو

وعلى الرغم من الحظر، كشف رجل الأعمال أحمد أبو هشيمة أخيرا عن حماسته للاستثمار في البيتكوين وأنشطة التعدين، من دون إعلان حجم استثماره في القطاع. ووصف العملات الرقمية في مقابلات تلفزيونية بأنها مجال استثماري واعد، في موقف لافت نظرا إلى كون الترويج للعملات المشفرة أو الاستثمار فيها أمرين غير قانونيين في البلاد.

font change

مقالات ذات صلة