هل يوحد خطر الانهيار المالي الداهم الفرنسيين؟

الدين العام لفرنسا يرتفع 5 آلاف يورو في الثانية ومعدل الفقر يطال 15 في المئة من السكان

المجلة
المجلة

هل يوحد خطر الانهيار المالي الداهم الفرنسيين؟

تمر فرنسا حاليا بأخطر أزمة سياسية منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، وفقا للمعلق السياسي الفرنسي ألان دوهاميل. فقد شهد عام 2024 وحده، تعاقب أربعة رؤساء وزراء على رئاسة الحكومة، تخلل ذلك حل الجمعية الوطنية، ثم اخيرا، تصويت بحجب الثقة أعقبه تكليف رئيس جديد للوزراء. كل ذلك يحدث في ظل برلمان منقسم بلا غالبية واضحة، وصعود غير مسبوق لليمين المتطرف في الانتخابات التشريعية.

على النقيض، يرى البروفسور جوليان شوفالييه من جامعة باريس الثامنة (Paris VIII) أن جوهر الأزمة في فرنسا مالي واقتصادي في الدرجة الأولى، سببه الإفراط في الإنفاق لا في الاستدانة. ويحمّل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المسؤولية الأساس، إذ ارتفع الدين العام خلال عهده بأكثر من الثلث، بهدف تأمين إعادة انتخابه وامتصاص غضب الشارع. وقد أدى هذا التوسع في الدين إلى تركز الثروة وتفاقم الفوارق الاجتماعية، فيما وُجهت الإيرادات نحو إنفاق غير منتج للثروة. ومع تراجع معدلات النمو بشكل حاد، مقارنة بأسعار الفائدة، برزت الحاجة إلى تحقيق فوائض مالية أولية كبيرة لسد الفجوة بين الإنفاق والإيرادات (باستثناء مدفوعات الفائدة) وتثبيت مسار الدين العام.

من جانبه، يؤكد رئيس الوزراء المستقيل فرنسوا بايرو أن "سبب الأزمة هو الدين العام المرتفع، فهو حاليا العدو الأكبر للبلاد، وعدّاده يرتفع بأكثر من 5 آلاف يورو كل ثانية". ويذكّر بأن نسبته لم تكن تتجاوز 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عهد الرئيس الراحل شارل ديغول، بينما بلغت اليوم 114 في المئة. ومنذ عام 1973، حين توقفت فرنسا عن الاقتراض من مصرفها الوطني بعد تعديل قانونه، أصبح أكثر من نصف دينها في أيدي مستثمرين أجانب. أما الحكومات المتعاقبة، فقد واصلت زيادة الدين بذريعة الحفاظ على دولة الرفاه، معوّلة على مظلة اليورو والمصرف المركزي الأوروبي.

الدين العام الفرنسي 3,35 تريليونات يورو

ويقدَّر الدين العام الفرنسي بنحو 3,35 تريليونات يورو، بحسب المعهد الوطني للإحصاءات والدراسات الاقتصادية (INSEE)، الذي أظهر في بياناته الصادرة أواخر يوليو/تموز الماضي أن الدين ارتفع خلال عام واحد بمقدار 185 مليار يورو، أي بنسبة 6 في المئة. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تصل نسبته إلى 130 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في حلول عام 2030. كذلك يرتقب أن تقفز تكلفة الفوائد السنوية على الدين من نحو 60 مليار يورو حاليا إلى 110 مليارات يورو في نهاية العقد. أما العجز العام، فقد سجّل في عام 2024 نسبة 5,8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي نحو ضعفي الحد الرسمي المسموح به في الاتحاد الأوروبي والمحدد بـ3 في المئة.

إذا لم نتخذ خيارات خفض الدين، فسيكون دائنونا أو صندوق النقد الدولي هم من سيفرضونها علينا

وزيرةَ الحسابات العامة الفرنسية أميلي دو مونتشالين

من المعروف أن فرنسا تُعد الدولة الوحيدة في منطقة اليورو التي تراكم أربعة أنواع من العجوزات في آن واحد: عجز الموازنة، عجز الميزان التجاري، العجز الأولي للموازنة، وعجز ميزان المدفوعات. كما تُصنَّف ضمن الدول المتقدمة ذات الأعباء الضريبية الأعلى، إذ تتجاوز نسبة الضرائب فيها 45 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

دفعت هذه الأرقام والتوقعات التي تكشف حرج وضع المالية العامة وزيرةَ الحسابات العامة أميلي دو مونتشالين إلى إطلاق تحذير صريح عبر صحيفة "لو جورنال دو ديمانش" في 7 يونيو/حزيران، قالت فيه: "إذا لم نتخذ خيارات خفض الدين، فسيكون دائنونا أو صندوق النقد الدولي هم من سيفرضونها علينا".

أ.ف.ب.
رئيس الوزراء الفرنسي المعين حديثا سيباستيان لوكورنو يصافح سلفه فرنسوا بايرو، في مقر الجمعية الوطنية الفرنسية، 10 سبتمبر 2025

وقد أيد زميلها وزير الاقتصاد والمالية والصناعة إريك لومبارد تلك المخاوف، لكنه سعى في الوقت نفسه إلى طمأنة الأسواق، مؤكدا أن "الدين مستدام، وإعادة التمويل تسير على ما يرام، وأن الاقتصاد الفرنسي السابع بكبره في العالم يتمتع بصحة جيدة". وأشار إلى تسجيل نمو بنسبة 0,3 في المئة في الربع الثاني من العام.

الفرنسيون يتحوطون للأسوأ

زاد من حالة عدم اليقين وقلق الأسواق فشل حكومة بايرو في تصويت الثقة في الجمعية الوطنية، بالإضافة إلى خفض وكالة التصنيف الائتماني "فيتش" لتصنيف فرنسا من AA- إلى A+، مما سيزيد عبء الدين العام نتيجة مطالبة الدائنين بأسعار فائدة أعلى على السندات لأجل عشر سنوات. وقد تتحول الديون إلى كرة ثلج إذا تجاوزت معدلات الفائدة معدلات النمو، مما يجعل تكلفة الدين على الفرنسيين أكبر بكثير من تكلفة خطة بايرو.

وعقب إعلان حجب الثقة، شهدت أسهم المصارف التي تمتلك حصصا كبيرة من الديون الفرنسية انخفاضا حادا في بورصة باريس. كما لوحظ ارتفاع مستوى الادخار لدى الفرنسيين إلى نحو 19 في المئة، وهو المستوى نفسه الذي سُجل في الثمانينات، كوسيلة للتحوط ضد مستقبل اقتصادي غامض. بالإضافة إلى ذلك، ارتفع الإقبال على أصول الملاذ الآمن، لا سيما الذهب.

ستنعكس الهشاشة في الوضع الفرنسي، باعتباره ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، سلبا على كامل المنطقة. وستتجلى آثارها على المصارف الأوروبية المعرضة للديون الفرنسية، وعلى سعر صرف اليورو، وعلى مستويات النمو الأوروبي

ستنعكس الهشاشة في الوضع الفرنسي، باعتباره ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، سلبا على كامل المنطقة. وستتجلى آثارها على المصارف الأوروبية المعرضة للديون الفرنسية، وعلى سعر صرف اليورو، وعلى مستويات النمو الأوروبي، فضلا عن ثقة الأسواق العالمية بالمنطقة واستقرار مؤسساتها المالية.

وفي حال تفاقم الأزمة، لن يكون في إمكان المصرف المركزي الأوروبي إقراض فرنسا إلا ضمن خطة إصلاح هيكلية متفق عليها مع آلية الاستقرار الأوروبي. ويستلزم ذلك موافقة المفوضية الأوروبية وحكومات دول منطقة اليورو الأخرى، مما يعني تخلي فرنسا مؤقتا عن جزء من سيطرتها على اقتصادها لصالح شركائها الأوروبيين، كما حصل مع اليونان سابقا.

خفض الانفاق الاجتماعي ضرورة

وكانت فرنسا قد التزمت عند انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي معايير وقواعد محددة في شأن العجز والدين العامين. وبموجب هذه الالتزامات، اقترحت حكومة بايرو خفضا في الإنفاق الاجتماعي السنوي بمقدار 44 مليار يورو، بهدف خفض العجز العام من 5,8 في المئة إلى 4,8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في حلول عام 2026، من دون أي زيادة في الضرائب. ويعادل هذا الخفض نحو 1,3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي أكثر من المطلوب عادةً من قبل المفوضية الأوروبية، الذي يقدّر بـ0,7 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي.

أ.ف.ب.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يقف في شرفة كاتدرائية نوتردام بعد انتهاء أعمال الترميم، باريس، 19 سبتمبر 2025

معلوم أن هناك رافعتين أساسيتين لخفض العجز: زيادة الإيرادات و/أو خفض الإنفاق العام. وحساب أثر الرافعة الأولى بسيط نسبيا مقارنة بالأخرى. فإعلان توفير 44 مليار يورو كما جاء في خطة بايرو، لا يعني بالضرورة أن الإنفاق العام سينخفض بالقيمة المطلقة نفسها، بل يكمن التحدي في جعل الإنفاق، الذي تُظهر بيانات صندوق النقد الدولي أنه الأعلى نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي، ينمو بوتيرة أبطأ من نمو الناتج المحلي المحتمل.

لكن هناك أخطار اجتماعية جمة، إذ قد يؤدي خفض الإنفاق إلى تفاقم أوضاع الطبقات الضعيفة، خصوصا أن بيانات المعهد الوطني للإحصاءات والدراسات الاقتصادية (INSEE) تشير إلى وصول معدل الفقر إلى 15 في المئة من السكان. كما سجلت هيئات العمال ارتفاعا في عدد الدعاوى الجماعية مطلع عام 2025 إلى أعلى مستوياته منذ خمسة عشر عاما، بينما تشير تقارير هيئات الأعمال إلى دخول 17,897 شركة في الربع الأول من 2025 في إجراءات قانونية وقائية أو حراسة قضائية أو تصفية.

يرى أوليفييه بلانشار، كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، أن سيناريو تعثر فرنسا عن سداد ديونها ليس مستحيلا

من جهة أخرى، تشير نشرات معهد مونتين، وهو مركز أبحاث ليبيرالي، إلى وضع مقلق للسكن في فرنسا يعيق حصول الطبقات الوسطى على المنازل، إذ يمتلك 24 في المئة من الأسر نحو 68 في المئة من المنازل المملوكة للقطاع الخاص، مما يجعل السكن "نفقة للبعض ودخلا للآخرين"، مع خطر انتقال عدم المساواة عبر الأجيال. كما تظهر إحصاءات الروابط الطالبية صعوبات مادية تحول دون التحاق نحو 60 ألف تلميذ بمدارسهم، بينما تحذر إحصاءات روابط المتقاعدين من عدم قدرة خمسة ملايين متقاعد على الحصول على الغذاء الكافي.

.أ.ف.ب
مقر الجمعية الوطنية الفرنسية في العاصمة باريس، 11 أغسطس 2025

في المقابل، يشير تقرير ديوان المحاسبة الصادر في يونيو/حزيران 2025 إلى وجود هدر وتبديد بنحو ثلاثة مليارات يورو، مما يعكس إمكانات لتحسين الكفاءة المالية ضمن الإنفاق العام.

صندوق النقد: هناك هامش للمناورة

تشير بعثة صندوق النقد الدولي في تقريرها بمقتضى مشاورات المادة الرابعة لعام 2025 إلى أنه نظرا لارتفاع مستوى الدين العام واستمراره في التزايد، أصبح من الضروري استعادة عافية المالية العامة، مع تنفيذ إصلاحات هيكلية تحفز النمو المستدام. ورحبت البعثة بخطة الحكومة لخفض العجز إلى أقل من 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في حلول عام 2029، مشيرة إلى أن زيادة قدرها 0,3 في المئة في نمو الناتج المحلي المحتمل، يمكن أن تساهم على المدى الطويل في خفض الدين العام بنحو 10 في المئة من الناتج.

ويرى أوليفييه بلانشار، كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، أن سيناريو تعثر فرنسا عن سداد ديونها ليس مستحيلا، مع الإشارة إلى وجود مساحة للمناورة. وفي المقابل، يؤكد العديد من المسؤولين الفرنسيين أنه على الرغم من المعوقات القائمة، من شبه المؤكد أن فرنسا لن تضطر إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي في مقابل برنامج تقشف صارم. فهي لا تزال قادرة على التمويل عبر الأسواق المالية، على الرغم من استمرار الجمعية الوطنية في معارضة إصلاحات الموازنة وخفض الديون.

تمتلك فرنسا مقومات تمنعها من الانهيار، من بينها رابع أكبر مخزون ذهبي في العالم يقدّر بـ2,437 طن، ومدخرات خاصة ضخمة، واقتصاد متنوع، ومكانة كقوة أوروبية

وتتعامل فرنسا حاليا بأسعار فائدة على السندات الحكومية لمدة 10 سنوات بلغت 3,50 في المئة بعد خسارة بايرو في تصويت الثقة، وهي نسبة أعلى من معدلات ألمانيا وإسبانيا واليونان، لكنها أقل بقليل من سعر الفائدة الذي تدفعه إيطاليا البالغ 3,592 في المئة، على الرغم من أن الأخيرة لا تواجه خطرا ماليا مباشرا.

أ.ف.ب.
تراجع مستوى التصنيف الإنمائي الفرنسي بسبب عدم الاستقرار السياسي، 12 سبتمبر 2025

كما تمتلك فرنسا مقومات تمنعها من الانهيار، من بينها رابع أكبر مخزون ذهبي في العالم يقدّر بـ2,437 طن، ومدخرات خاصة ضخمة، واقتصاد متنوع، ومكانة كقوة أوروبية، مما يشجع المصرف المركزي الأوروبي على شراء كميات كبيرة من السندات الفرنسية لتهدئة الأسواق عند الضرورة.

هل يوحد خطر الانهيار المالي الداهم الفرنسيين؟

جدير بالذكر أن صندوق النقد الدولي لا يتدخل لمعالجة الدين العام فقط، بل أيضا لمعالجة مشاكل ميزان المدفوعات، أي عندما تعجز دولة عن سداد ديونها لدائنيها الخارجيين، وهو أمر لا ينطبق على فرنسا حاليا. وتجدر الإشارة إلى أن صندوق النقد الدولي ليس خط الدفاع الأول، بل تأتي آلية الاستقرار الأوروبية (ESM) في المقام الأول، إذ أُنشئت خلال أزمة الديون السيادية للإشراف على أي عمليات إنقاذ ضرورية في أوروبا، خصوصا أن فرنسا تعتمد بشكل رئيس على اليورو وليس الدولار.

تنقسم الجمعية الوطنية حاليا ثلاث كتل على تباعد عميق: اليسار والوسط واليمين المتطرف. وتشير استطلاعات الرأي إلى صعوبة ظهور غالبية برلمانية مع تعيين ماكرون رئيس وزرائه الخامس، "ففرنسا باتت عصية على الحكم، والهاوية أمامها"، بحسب تقييم الأمور من قبل أستاذ الاقتصاد البروفسور فيليب ديسيرتين من جامعة باريس-1، الذي يتوقع أن يستمر التأزم السياسي والمالي للمرحلة المقبلة. وبصيص الأمل المتبقي هو أن المستويات المرتفعة للدين العام والعجز أصبحت موضع نقاش سياسي جاد بعد أكثر من 20 عاما من التراخي المالي، وهذا أمر يمكن التأسيس عليه. فكما وحدت مقاومة موازنة التقشف لعام 2026 المعارضة اليسارية واليمينية المتطرفة، لا شيء يمنع من التوافق ايضا لمناقشة كيفية تجاوز الخطر الداهم الذي يهدد الجميع والمتمثل بعدم قابلية الاستمرار بالعجز العام وتفلت روابط استمرارية الدين العام.

font change

مقالات ذات صلة