هناك إبادة على مقربة منا، على بعد ثلاثين عاما فقط من الإبادة في رواندا.
أرى الشاعرات الناجيات الآتيات من رواندا في الأمسيات الشعرية التي تجمع بيننا، وأقرأ شعرهن، كمن يغوص في أعماق المرآة، ليرى نفسه وعينه وقلبه على كل أهل الأرض وعلى غزة. أراهن، وأقدّر التجربة المشتركة التي تقدمها لنا اللحظة.
أحاول أن أعي دروس الظلم، وأن أتمثّل عبورهن إلى الضفة الأخرى، إلى المصالحة. كيف ينجو من ينجو وكيف يستطيع من نجا المصالحة؟ أتفرج كي أصدّق، كي أتأكد.
كلّ لحظة شجاعة، كلّ لحظة تمثل لقيم العدالة والحرية والمساواة والسلام وحقوق الإنسان في تاريخ الإنسانية، هي العبرة. تكتب شاعرات رواندا عن تاريخهن في سياق المصالحة الوطنية الشاملة التي تمت في أعقاب العنف. يكتبن بالأناة والنزاهة التي أردن فيها أن يكتب تاريخ بلادهنّ. يكتبن كمن يثق بالكلمة، كمن يستعيد حقوق ملكية حياته.
استطاعت الطفلة الرواندية "بياتا أوموبايي ميريز" ذات الخمسة عشر ربيعا في 1994 النجاة من المجزرة، مع مئة طفل على متن شاحنة تابعة لمنظمة إنسانية سويسرية. كبرت الطفلة في فرنسا وصارت أما وروائية وشاعرة تحتضن في شعرها تاريخ بلادها والإصرار على إنصاف هذا التاريخ واستعادة الحكاية من فم المستعمر.
لا تلفظ "بياتا" كثيرا كلمة السلام وهذا يقلقني على حكايتي أنا، كأن الحقيقة تتطلب زمنا أكثر لكي تتصالح الكلمات مع الواقع وبعضها مع بعض، لكي تستطيع الكلمات أن تكوّن المعنى العميق للفكرة، كي تستقرّ المصالحة وتثق بالبشر.
تعود الشاعرة في قصائدها إلى إبادة رواندا لتنتشل حكايات الناس من ضجيج الصمت وعنف الأكاذيب وتسحبها إلى منطقة إنسانية حرّة آمنة فيها أكسجين وخيال وصدق وإنصاف، تعيد الاعتبار للحياة التي قضت، كي تتم مراسم الحداد في الذاكرة الفردية والجمعية فتستقر المصالحة.
تتجنب في شعرها سهولة استخدام مصطلح "المأساة" ربما كي لا تدفن قصص الناس قصة قصة في هذا التعريف الشاسع كمقبرة جماعية، ولا تختفي الحقيقة في كليشيه طالما كان الأسهل لطي صفحة العدالة كما يحصل في قضية فلسطين البارحة واليوم.
نتكئ في بناء معرفتنا وفي التأكد من مشروعية أفكارنا على إرث الإنسانية المعرفي والفكري الذي رافق وساند وتماهى مع حركات تحرر الشعوب في نضالها المرير من أجل تحرّرها ومن أجل تقرير مصيرها: فلسطين، جنوب أفريقيا، سوريا، رواندا، وفي كل بقعة من هذا العالم، لكي نتأكد أن السلام لا بدّ آت، وأن كل هذا الألم ليس سدى.
تعود الشاعرة في قصائدها إلى إبادة رواندا لتنتشل حكايات الناس من ضجيج الصمت وعنف الأكاذيب وتسحبها إلى منطقة إنسانية حرّة آمنة
كانت صورة أفريقيا الكاريكاتيرية وليدة التنميط الثقافي الاستعماري الذي طالما سوّق أفريقيا كحقل صراعات بين إثنيات وقبائل محليّة متصارعة. وفيما يخصّ رواندا كانت القراءة العنصرية للصراع وريثة هذا العصر الكولونيالي، إذ كان الاعتراف بالحقيقة نسبيا، نسبية كاريكاتيرية تقابل كاريكاتيرية تلك الصورة النمطية، فموت إنسان واحد هو مأساة، أما موت مليون إنسان فهو رقم إحصائي.
في كتابها "السنون" تقول الروائية الفرنسية آني إرنو الحائزة على نوبل للأدب في 2022 ما يلامس هذه الفكرة: "كان التفكير في أفريقيا مسكونا بالسبات الطويل والإغفال الذي طوقت به، كل ذلك لم يكن يشجع على الخوض في متاهاتها".
وبدورها، في لقاءاتها في الإعلام الفرنسي الذي رحب بها ككاتبة وشاعرة صعدت في ذكرى مرور ثلاثين عاما على مجزرة رواندا، أشارت الشاعرة "بياتا" إلى تلك العدالة التي تحققت عبر موقف دولة جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية إلى جانب قضية فلسطين، وأشارت إلى البعد الأخلاقي التاريخي الرفيع لهذا الموقف لما لجنوب أفريقيا من تاريخ ضليع مع الأبارتايد.
إن صوت شعوب العالم الذي يعلو من أجل فلسطين في الكون يملأ القلب بالأمل في مواجهة استحالة فهم موقف القوى العظمى وتمريرها مرة أخرى وأخرى للمقتلة، إغماض العين عنها، أو النظر إليها وتكذيبها، كمن يعطي انتهاك حقوق الإنسان تأشيرة المرور إلى جغرافيات بديلة أخرى.
لا تستخدم "بياتا" في شعرها المجاز ولا تكثر من الاستعارات، أنها كمن يعيد الاعتبار لتفاصيل الحياة اليومية التي لم تتمكن من الحياة.
ماذا يستطيع الشعر وماذا تستطيع الكلمة؟ الكلمة تنقذ الكلام والحوار ولغة الفلسفة والمعرفة والسلام والمصالحة والجمال والخيال في اللغة. تنقذ أحاديث التسلية والضجر وروح اللحظة. وتلك التعبيرات الهادئة التي تقترب من التنفس المطمئن الذي يدعو إلى ضرورة القراءات المتعددة.
"بين الذين غادروا والذين بقوا
هذه المسافات الهائلة بين الفجر والغياب
كلمات مكتومة وصرخات خائفة واحتضار
على الورق.
الذين على مدى سنين أطعموا وغذوا وعلّموا
لم يتلقوا أي اعتراف، سوى البحث عنهم والتعرف عليهم من أجل قتلهم".
لا يتبنى الشعر الشعارات، ربما هو حقّ التعبير الحر والتفكير الحر ومساحات الخيال المسلوبة في الفضاء العام
تذكر بياتا أن الفعل الإنساني الفردي كان شديد الأثر في حياة الفرد في رواندا وكان يعين على الشجاعة، وأن كل فعل فردي شجاع كان يلتقي مع غيره من الشجاعات الصغيرة وتتكاتف الأيدي وتشكل جسرا يعين الروح على العبور إلى جهة أخرى. شهادات مشبعة بالحب واللطف تعيد الاعتبار إلى اللطف في علاقة الإنسان بالإنسان.
ربما يحرس الشعر الضحية، يحميها من نفسها، ويحرس تاريخها. لا يتبنى الشعر الشعارات، ربما هو حقّ التعبير الحر والتفكير الحر ومساحات الخيال المسلوبة في الفضاء العام، ربما هو طريق السلام، أو ربما هو الشعر. فكما تقول آني إرنو: "إنها مسؤولية كبرى أن نشهد ليس في اللغة فحسب، ولكن أن نشهد بدقة وعدالة تجاه العالم".