سُنة العراق... برامج خدمية وتنموية في انتظار التحولات الإقليمية

قبل أسابيع قليلة من إجراء الانتخابات البرلمانية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
لافتات الحملات الانتخابية لمرشحي الانتخابات البرلمانية، في مدينة السليمانية شمال العراق، في 19 أكتوبر 2024

سُنة العراق... برامج خدمية وتنموية في انتظار التحولات الإقليمية

قبل أسابيع قليلة من إجراء الانتخابات البرلمانية، بدأت القوى السياسية السُنية العراقية حملاتها الانتخابية، بأربعة قوائم رئيسة متنافسة بشدة، وإن كانت كلها ذات هويات وخلفيات مناطقية وعشائرية، وبـ"طغيان" للخطاب الخدمي والوعود التنموية، دون أية مشاريع سياسية ذات رؤية عامة لكل قضايا البلاد، وبغياب ملحوظ للأحزاب الإسلامية والقومية التي كانت فاعلة تقليديا وذات شعبية في أوساط العرب السُنة العراقيين. ما فسره المراقبون كتعبير عن القلق والترقب الذي يسود مزاج هذه الكتل السياسية، في ظل تحولات إقليمية جارفة تحيط بالعراق.

خريطة سياسية

يعرض حزب "تقدم" الذي يتزعمه رئيس البرلمان الأسبق محمد الحلبوسي نفسه كأقوى التيارات السياسية السُنية في هذه الانتخابات، مستندا إلى ما حققه خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة في عام 2021، أو انتخابات مجالس المحافظات عام 2024.

لكن المؤشرات تدل على تراجع نفوذ حزبه لصالح الكتلة السُنية الصاعدة "تحالف عزم" برئاسة النائب مثنى السامرائي. فالأخير تمكن من جذب عدد من الزعامات المحلية في محافظة الأنبار، التي كانت تُصنف كـ"قلعة" لحزب "تقدم" خلال السنوات الماضية، مستفيدا من ردود الفعل على عدد من دعاوى وملفات الفساد التي لاحقت أعضاء فاعلين من حزب "تقدم" في هياكل الحكومة المحلية في المحافظة. وإلى جانبها إقالة الحلبوسي من رئاسة البرلمان، الأمر الذي أفقده موقع "الزعامة السُنية" في العراق. فالدعاية المضادة للحلبوسي في الأوساط السُنية عرضته كفاعل سياسي صِدامي مع مختلف القوى السياسية العراقية، سواء الكردية أو الشيعية، أو حتى السُنية نفسها. معتبرين ذلك بمثابة سبب لعدم القدرة على بلورة مشروع سياسي واضح ومتوافق عليه في الأوساط السُنية. مع الأمرين، فإن نقل الحلبوسي لمركز فعله السياسي إلى العاصمة بغداد، أفقده الكثير من أواصر الصلة مع قواعده الاجتماعية في محافظة الأنبار، ما خلق مساحة لـ"تحالف عزم".

لا يتوقع المراقبون حصول أي من القوائم الأربع على مقاعد برلمانية تتجاوز 25 مقعدا، بسبب تقارب شعبيتها حسب استطلاعات الرأي

"تحالف السيادة" الذي يترأسه خميس الخنجر يُشكل منافسا للحزبين السابقين، وإن كان يُركز في حملته الانتخابية على محافظات نينوى (الموصل) وصلاح الدين وديالى. فالتحالف ذو النزعة المحافظة أكثر وضوحا في طرح ما يعتبره "مظلومية العرب السُنة في العراق"، بالذات في ملف المعتقلين السياسيين والمختفين قسرا. خلال الشهور الماضية تمكن الحزب من تعزيز حضوره في الأوساط الشعبية بسبب الملاحقات القضائية التي رُفعت ضد زعيمه خميس الخنجر، والتي صنفها كتصفية سياسية بسبب مواقفه السياسية المعارضة للنواة الصلبة للسلطة. كذلك تمكن التحالف من بناء علاقات وتحالفات قوية مع زعامات محلية رئيسة في المحافظات التي يعمل بها، مثل آل النُجيفي في الموصل والبرلماني السابق مشعان الجبوري في محافظة صلاح الدين.

إلى جانبهم ثمة "تحالف حسم" برئاسة وزير الدفاع الحالي ثابت العباسي. فهذا الأخير أصبح ذا نفوذ واسع بسبب شغله للمنصب الأول في أكبر وزارات العراق من حيث الموارد والإشغال البشري، بالذات في محافظة نينوى (الموصل) التي ينحدر منها، وتمكن خلال انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة من تحقيق نتائج جيدة فيها.

رويترز
مبنى البرلمان العراقي في بغداد، العراق، 9 يناير 2022

لا يتوقع المراقبون حصول أي من القوائم الأربع على مقاعد برلمانية تتجاوز 25 مقعدا، بسبب تقارب شعبيتها حسب استطلاعات الرأي، ولأن أيا منها لا يحمل مشروعا وخطابا سياسيا واضحا متمايزا عن البقية، فكلها تقريبا تُركز على الوعود التنموية والبرامج الاقتصادية، معتمدة على شكل من الشراكة مع الزعماء المحليين، بالذات شيوخ الدين ورؤساء العشائر.

حسب ذلك، سيتوزع مجموع ما يحصل عليه العرب السُنة من مقاعد انتخابية- تبلغ 70 مقعدا بالعادة- على هذه القوائم بشكل شبه متساوٍ، بفارق لا يزيد على خمسة مقاعد بين كتلة فائزة وأخرى. فيما لن يحصل "الحزب الإسلامي العراقي"، والذي كان التنظيم السياسي الأول بين العرب السُنة العراقيين حتى قبل سنوات قليلة، إلا على مقاعد قليلة للغاية، ربما بنسبة مقعد واحد في كل من محافظات بابل وديالى والموصل. ومثله أيضا اضمحلت تنظيمات مثل "جبهة الحوار العراقية" و"المشروع العربي في العراق" و"جبهة التوافق العراقية" و"ائتلاف متحدون للإصلاح".

دفع الاستقطاب السياسي العراقي على أساس طائفي نحو اجتياح تنظيم (داعش) الإرهابي لمختلف المناطق السُنية

قلق وترقب

يُفسر الباحث والمستشار الأسبق لرئيس البرلمان العراقي جبار المشهداني هذا الانزياح في نوعية القوائم الانتخابية الخاصة بالعرب السُنة العراقيين بمزيج الذاكرة المريرة والترقب الحذر لما يحدث في المنطقة، ويتابع في حديث مع "المجلة" قائلا: "الفضاء السياسي الراهن بالنسبة للعرب السُنة متأت مما حدث طوال العقد الماضي. إذ دفع الاستقطاب السياسي العراقي على أساس طائفي نحو اجتياح تنظيم (داعش) الإرهابي لمختلف المناطق السُنية، وتاليا تعرضوا لأكبر عملية تحطيم سياسي وحياتي، فقدوا خلالها العشرات من مُدنهم وحواضرهم التاريخية، وتحول الملايين منهم إلى لاجئين ونازحين، فيما أدى ذلك المسار إلى سيطرة وهيمنة الفصائل ذات الهوى الطائفي على مناطقهم تماما. هذا المسار أنتج هذه النوعية من اللوائح الانتخابية في مناطقهم، المتأتية والمنبعثة من تنظيمات سياسية لا يُمكن تصنيفها كـ(أحزاب سياسية) إلا بشكل افتراضي. فهي لا تملك خطابات وبرامج سياسية واضحة وذات نزعات أيديولوجية، بل إنها مجرد كتل ملتفة حول زعامة سياسية أو أخرى، وتنظيماتها المحلية تنشط كجهات إدارية فحسب أثناء الحملات الانتخابية، في القطاع الاقتصادي/الزبائني فحسب، ثم تخمد بعد انتهاء الحملات الانتخابية. ونوعية روابطها مع الزعامات العشائرية والدينية أقوى وأكثر إنتاجية من قدرتها على جذب القواعد الاجتماعية حسب قضايا وطنية أو حتى محلية عامة".

أ.ف.ب
مواطن عراقي يبصم على ورقة الاقتراع خلال مشاركته في الانتخابات الأولى لمجلس المحافظة منذ عشر سنوات، في أحد مراكز الاقتراع بمدينة النجف في 18 ديسمبر 2023

يضيف المستشار السابق شارحا الفضاء السياسي ضمن الأوساط السُنية العراقية راهنا بعد التحولات الإقليمية، ومحللا إمكانية عقد هذه الكتل لأية تحالفات عابرة للطوائف في التشكيلة البرلمانية القادمة: "ثلاثة أحداث سياسية رئيسة حدثت خلال الشهور الماضية خلقت نوعا من الثقة والغبطة الداخلية في الأوساط السُنية العراقية، لكنها بقيت مكبوتة في استثمارها أو حتى التعبير عنها، ولم تحولها حتى الآن إلى ديناميكيات سياسية فاعلة. فسقوط النظام السوري السابق خلق جوا من الراحة بالنسبة لها، لوصول حكام لا يُخفون هويتهم السياسية الدينية/الطائفية، القريبة منها.

كذلك كان الأمر بالنسبة للحرب الإسرائيلية-الإيرانية، التي أوحت بإمكانية تقليم نفوذ إيران الإقليمي، وهو ما قد يكون لصالحها مستقبلا. مع الأمرين، فإن الشعبية التي يحققها رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، وتراجع نفوذ وقدرة فصائل "الحشد الشعبي" العراقي، يخلق مناخا يُشعر العراقيين السنة بإمكانية إحداث تغيير سياسي نوعي بُعيد الانتخابات القادمة. رغم كل ذلك، يبقى الترقب سيد موقفهم السياسي. فالموقف الحازم من قِبل النواة الصلبة للسلطة في العراق مما جرى في سوريا، منعهم من استثمار الأمر داخليا. كذلك لم تُحسم بعد المواجهة بين إسرائيل وإيران، وهذه الأخيرة حافظت على جزء من نفوذها الإقليمي، لذا تنتظر القوى السُنية مستقبل تلك المواجهة، الذي لا تعتبره بعيدا. كذلك لا تعرف إن كان رئيس الوزراء الحالي سيكرر تجربة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، الذي وإن حقق نتائج برلمانية بارزة في عام 2018، إلا أنه لم يستطع العودة إلى السُلطة، بل هُمش تماما. كل ذلك يدفع هذه القوائم والقوى السياسية السُنية إلى الإحجام عن التعبير الواضح عن تطلعاتها السياسية الكبرى والواضحة، انتظارا لما قد يحدث في المستقبل القريب. هذه التحولات الإقليمية والداخلية التي قد تفرز نُخبا وساسة جددا، غير الحاليين الغارقين في صراعات بينية لا فروق أو قيمة مضافة في حوزة أي منهم".

جميع القوى السُنية العراقية تشعر بوحدة حال مع نظيراتها الكردية، بسبب تباين ومناهضة الطرفين للنواة السياسية والأمنية الصلبة المتحكمة بالبلاد

تحالفات متوقعة

لا يُمكن للمراقب أن يتنبأ بشكل التحالفات الانتخابية القادمة للقوائم السُنية العراقية، لكن بعض المقدمات الأولية تُشير إلى بعض ملامحها، حسبما تقاطعت آراء الخبراء الذين اتصلت "المجلة" بهم.

فجميع القوى السُنية العراقية تشعر بوحدة حال مع نظيراتها الكردية، بسبب تباين ومناهضة الطرفين للنواة السياسية والأمنية الصلبة المتحكمة بالبلاد، شيء يشبه التحالف "الشيعي/الكردي" بعد عام 2003. لكن القوى السُنية تتمايز في علاقتها مع نظيرتها الكردية. فحسب التوافق الاستثنائي الذي حدث بين حزب "تقدم" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" في مجلس محافظة كركوك أواسط العام الماضي، وتم انتخاب محافظ جديد لها، ووزعت حسبه كافة مناصب وإدارات المحافظة، فإن الطرفين سيكونان حليفين مرتقبين في التشكيلة البرلمانية الجديدة، خصوصا وأن أكثر من مواجهة سياسية قد حدثت بين "تقدم" و"الحزب الديمقراطي الكردستاني". زعيم تحالف السيادة خميس الخنجر أبدى خلال الأسابيع الماضية تقاربا مع "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، وهو ما حدد مسبقا خريطة التحالفات الكردية/السُنية.

أ.ف.ب
أنصار المرجع الشيعي العراقي مقتدى الصدر خلال احتجاجهم على ترشيح أحد فصائل المعارضة الشيعية لمنصب رئيس الوزراء، أمام مبنى البرلمان العراقي في المنطقة الخضراء في العاصمة بغداد، في 25 أغسطس 2022

لكن الكتل السياسية السُنية لا تُبدي راهنا رغبتها في عقد أية تحالفات مسبقة مع نظيرتها الشيعية في المركز. وإن كان حزب "تقدم" قريبا للغاية من "كتلة دولة القانون" ورئيسها نوري المالكي، اللذين تمكنا بفضل تحالفهما من انتخاب رئيس البرلمان الحالي محمود المشهداني. بدوره يبدو زعيم "تحالف السيادة" خميس الخنجر ذا علاقة جيدة مع قيس الخزعلي، الأمين العام لـ"عصائب أهل الحق"، أقوى فصائل "الحشد الشعبي". لكن عقد التحالفات الوطنية يحتاج لعاملين رئيسين لم يظهرا في الأفق بوضوح حتى الآن. فهل سيشارك "التيار الصدري" في الانتخابات القادمة أم لا؟! وهل سيتمكن السوداني من تشكيل الحكومة والسلطة فيما لو فاز بالمركز الأول في الانتخابات القادمة؟ هذان العاملان حاسمان لتحديد شكل التحالفات الوطنية الأوسع، خصوصا بالنسبة للكُتل العربية السُنية.

font change