"ضي" كريم الشناوي يروي قصة جديدة عن الأمل

إنتاج مصري سعودي عن مراهق أمهق يحلم بلقاء محمد منير

Red Sea International Film Festiva
Red Sea International Film Festiva
من فيلم "ضي... سيرة أهل الضي"

"ضي" كريم الشناوي يروي قصة جديدة عن الأمل

وسط طريق محفوف بالأخطار، ينطلق فيلم "ضي... سيرة أهل الضي"من سيناريو هيثم دبور، إخراج كريم الشناوي، وإنتاج مصري سعودي مشترك، محاولا أن يجد مكانه الخاص في سياق لحظة مأزومة في تاريخ السينما المصرية.

بعد أن عرض في مهرجانات سينمائية كبرى، كبرلين السينمائي، والبحر الأحمر، بلغ محطته الأهم، في عروضه الجماهيرية، هذا الشهر. البذرة الأساس للفيلم، عن مراهق أمهق (ألبينو) أي يعاني من بياض البشرة المرضي، هو المولود لأسرة نوبية، تعيش جنوب مصر، حيث السمرة هي الهوية.

هذا الفتى، مهووس بالمطرب المصري محمد منير، ويريد أن يخرج من ظلامه ليغني أغانيه، هو الذي يسميه الطب "عدو الشمس"، لكنه مكبل بالقيود، من الداخل والخارج. إنها متلازمة البطة السوداء، أو المختلف إلى الحد الذي يثير التنمر والعزل، ويجلب الرفض واللعنات.

فكرة إنسانية، تصلح مجازا عن الاختلاف سواء في السواد أو البياض، كان يخشى من معالجتها السينمائية، أن تنزلق إلى طريقين أحلاهما مر، لكن كليهما مطروق اليوم وناجح حتى بشدة.

كانت الخشية أن يسقط الفيلم في فخ الابتزاز العاطفي، لو حاول إبكاء المشاهد وإجباره على التعاطف، مع حالة البطل ضي (بدر محمد)، الحالة المستحقة بالطبع للتعاطف من غير معونة أي فيلم، وهو الطريق الذي سلكه فيلم ناجح مثل "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، أو أن يسعى إلى تحويل حالة ضي الذي يعاني التنمر باستمرار، إلى قضية اجتماعية، ويمضى خاطبا في مشاهديه عن آثار التنمر، ووجوب قبول المختلف، وهي الحالة التي انزلق إليها مثلا مسلسل "لام شمسية" للمخرج نفسه كريم الشناوي الذي ضحى بالكثير من الفن، وانحاز لمنطق الخطب والتلقين.

يتأبط الفيلم ذراع ضي وأهله في رحلتهم غير المأمونة من أسوان في الجنوب إلى القاهرة، رابطا المتفرج إليهم برباط أقوى من العطف والشفقة


"ضي" أو "سيرة أهل الضي" كما يقول عنوانه الفرعي، يسير خلف بطله وحلمه بأن يغني للناس، أو على نحو أدق وسطهم. يتأبط ذراع ضي وأهله في رحلتهم غير المأمونة من أسوان في الجنوب إلى القاهرة، رابطا المتفرج إليهم برباط أقوى من العطف والشفقة، إنما أيضا بقبس من الإلهام، والكثير من الترقب، وحتى الضحك في بعض اللحظات.

Red Sea International Film Festiva
من فيلم "ضي... سيرة أهل الضي"

شبح أم ملاك؟

يبدأ الفيلم عند صابرين (أسيل عمران) وهي معلمة الموسيقى التي تؤمن بموهبة ضي في الغناء، وتحاول دعمه في المدرسة حين يتعرض للتنمر من زملائه، مما يضطره إلى التغيب باستمرار وتفويت دروسه. ثم ننتقل إلى بيت ضي، وهناك نرى شقيقته ليلة (حنين سعيد)، وهي تغار من اهتمام الجميع بأخيها، ولو كان اهتماما سلبيا. كما نفهم أن الأم زينب (إسلام مبارك) هي التي تلجأ، في محاولة حماية ابنها، الى عزله وإخفائه عن الجميع. إنها تعيل الأسرة الصغيرة، بعد أن هجرهم الأب لعجزه على ما يبدو  عن قبول اختلاف ابنه. سريعا تنجح صابرين في الوصول إلى فريق برنامج عربي شهير لاكتشاف المواهب، وحين تذهب لتزف الخبر إلى أسرة ضي، تلاقي الزجر والعدائية من الأم. لاحقا في حوار شعري متكلف بعض الشيء، يعبر ضي عن رغبته في اتباع حلمه، بما أن أفقا آخر غير ممكن في مدينته، حيث الناس يرونه كشبح، لا أكثر، وهو يعرف أنه إنسان مثلهم من لحم ودم.

مع حلم ضي بالسفر صحبة معلمته إلى القاهرة، تخطر في بال المتفرج خريطة ذهنية متوقعة، شاهدناها بطريقة أو بأخرى في أفلام من قبل. أن يذهب ضي إلى القاهرة، يغني أمام أعضاء لجنة تحكيم برنامج المواهب، لينجح ويشتهر ويحقق حلمه. هذا هو الطريق الأسهل، لكن ضي لحسن الحظ، لم يمض إليه. ومن هذه اللحظة تقريبا، لحظة مخالفة التوقعات، يبدأ الفيلم الحقيقي. يخوض أهل ضي رحلة مختلفة، حين يضيع منهم متاعهم وتسرق أموالهم في طريقهم إلى مصر (القاهرة). يتوه ضي، لكنه لا يفقد الأمل. الأمل في ماذا؟ في العالم ربما، في محض وجوده.

Red Sea International Film Festiva
من فيلم "ضي... سيرة أهل الضي"

في مشهد جميل بصريا، تظهر من اللامكان مناطيد ملونة، تحيط به هو وأهله التائهين. يرافقه القمر، أينما ولى، بما هو من علامة بصرية، يحسن المخرج كريم الشناوي ربطها بضي الفتى الجميل بحركة عينيه القلقة. كلمة السر هنا هي روح ضي، الرهيفة والمحلقة، والفيلم يستعير منها نفسه الصوفي، متجنبا في غالب الأحيان الوقوع في غرام "الدروشة" وهي التوكل، مضافة إليه حماقة التفكير السحري. في أحيان قليلة، يتدروش السيناريو، لا سيما في ربعه الأخير. لكن عناصر أخرى كالصورة الجميلة لمدير التصوير عبد السلام موسى، والتمثيل من فريق الممثلين الأساسيين ومعهم ضيوف الشرف، إضافة إلى الحالة الشعورية المنسوجة برقة هنا، تجعل الفيلم مقبولا في مجمله. 

كلمة السر هنا هي روح ضي، الرهيفة والمحلقة، والفيلم يستعير منها نفسه الصوفي، متجنبا في غالب الأحيان الوقوع في غرام "الدروشة"

عنصر آخر يغذي رحلة ضي وأهله سينمائيا، هو حضور الناس في الصورة. لا يعزل الفيلم أبطاله عن الناس، ولا أزماتهم، على خصوصيتها، عن همومهم. نظرات الناس وأرواحهم وحتى تقلبات نفوسهم حاضرة بقوة في الصورة، وحين يقرر ضي الغناء. في ظهور عابر وجميل لعزيزة (عارفة عبد الرسول)، تعجب هذه بجمال الفتى الأمهق، وتنعته بالملاك. هذه المرة الأولى التي يخرج فيها ضي من بيته إلى العالم، وهي المرة الأولى أيضا التي يسمع فيها غزلا ببشرته المنيرة في الليل، انتصارا لمبدأ "الجمال في عين الرائي".

Red Sea International Film Festiva
من فيلم "ضي... سيرة أهل الضي"

الحلم بالغد الممكن

يعزز حضور الناس وأعينهم في لقطات تحاكي التسجيلي، تفاعل المشاهدين. ويضيف ضيوف الشرف هنا، وعددهم أكبر ربما من أبطال الفيلم الأربعة الأساسيين، زخما في رحلة ضي، من ظلامه الخاص إلى شمس العالم. صبري فواز، عارفة عبد الرسول، محمد ممدوح، والأخير بالذات يلعب دورا محوريا. إلى جانب أحمد حلمي، الذي يقدم دور عامل الإطفاء الطيب المشوه الوجه، وصولا إلى محمد منير، الذي يظهر في مصادفة درامية تؤخذ على السيناريو. جميعهم يمدون عونا لازما إلى ضي وأهله.

لا يفتقر الفيلم إلى الكوميديا والمواقف الخفيفة الظل، يفجرها شعور الغيرة. مثلا غيرة ليلى شقيقة ضي منه، التي يحسن الفيلم تطويرها إلى شعور آخر، مفيد أكثر دراميا. ثم، وهذا هو الأهم، على مستوى الإضحاك، غيرة أم ضي، زينب، من حب ابنها لمعلمته صابرين. في نوبات غيرتها تستهدف زينب صابرين بكل ما أوتيت من قوة. مع أنها في لحظات أخرى، تمد لها يدا من امتنان. على أي حال، نجحت إسلام مبارك في تقديم هذا التعدد في أبعاد شخصية زينب الشرسة لكن أيضا المحبة والحامية لابنها. كانت لإسلام من قبل مشاركة جميلة في الفيلم السوداني، "ستموت في العشرين".

في المقابل لا تتمتع شخصية صابرين بتعدد مماثل في الأبعاد الدرامية، فهي الطيبة بلا شروط، التي تحتمل عنف أمها النفسي، وعنف أم ضي الجسدي بصبر، لإيمانها بضي من جانب، ورغبتها في رؤية حبيبها يؤانس (محمد ممدوح) من جانب آخر. بالطبع يتضمن قرارها مرافقة ضي في رحلته، نوعا من التمرد على القيود المفروضة عليها من والدتها، لكن شيئا في حوارها ربما يبقى ساكتا على ما هو أبلغ حول شخصها. على العموم، تذكرنا صابرين بشخصية المعلمة الباهرة الحضور في فيلم "في شقة مصر الجديدة" لمحمد خان. ربما هنا في شخصية صابرين بعض الإلهام من شخصية معلمة الموسيقى أبلة تهاني عند خان، التي دفعت بطلته في رحلة نفسية وسينمائية لا تنسى، مع أنها لم تحضر بجسدها، ولم تشخصها ممثلة.

REUTERS/Tarek Mostafa
محمد منير في حفل بدار الأوبرا المصرية، القاهرة 2009.

ظهور محمد منير

ثم يظهر المطرب محمد منير، المهووس به ضي، قبل رحلته وخلالها، ويراه ربما كأب روحي حاضر في وجدانه بالصوت مقابل غياب أبيه الحقيقي والحي. يشكل ظهوره نقطة فارقة في الفيلم، أولا من ناحية أنها اللحظة التي كنا ننتظرها كمتفرجين، حين ذهبنا للفرجة على فيلم تنهض دعايته على حضور منير، الضنين بحضوره فنيا وإعلاميا خلال السنوات الأخيرة. وثانيا هو نقطة فارقة في مستوى الفيلم، الذي يستسلم بدءا من هذه اللحظة لعدوى الأفلام الزميلة من اللجوء إلى المصادفات كحلول درامية أخيرة. صحيح أنه يصعب تصور طريقة أخرى يظهر بها النجم الكبير في الفيلم، إلا أن "سيرة أهل الضي" يسمح لنفسه من بعد هذه المصادفة، باللجوء إلى مصادفات أخرى، لتحل له مشكلات درامية عويصة لم يجد لها حلا.

عمل دافئ متخفف من الكثير من مشكلات السينما المصرية حاليا، وإن كان لا يعدم بعضها


من حسن الحظ أن هذا المأزق الدرامي يحدث في الفصل الأخير من الفيلم، بعد أن خضنا مع ضي وأهله رحلتهم القريبة، وتشبعنا بالحالة السينمائية، التي شاركت في تأسيسها الموسيقى المصاحبة للفيلم من تأليف مينا سامي، باعتمادها على الناي الشجي الذي يوقظ الروح. في النهاية، يشفع للفيلم أنه لم يقدم حلولا سحرية أكثر من ذلك لضي، ولم تتحول حياته رأسا على عقب بعد أن ظهر في مقطع فيديو "ترند" يغني مع محمد منير.

Red Sea International Film Festiva
من فيلم "ضي... سيرة أهل الضي"

"سيرة أهل الضي" عمل دافئ متخفف من الكثير من مشكلات السينما المصرية حاليا، وإن كان لا يعدم بعضها. فيلم عن الأمل في النجاة، وفي الحلم بغد أجمل وممكن للمختلف، وللناس أجمعين.

 

 

    

font change