ياسمين عز و"ترند" الذكورية

أبعد من جدل إعلامي

ياسمين عز

ياسمين عز و"ترند" الذكورية

بيروت: حدث في بلاد الفينيقيين أن أقدم المدعو علي العاكوم مواليد (1972) على طعن طليقته راجية العاكوم (مواليد 1974) أمام أولادها إثر خلافات نشبت بينهما، وحين لم يتأكد من موتها الفوري عمد إلى دهسها بالسيارة. حدث ذلك في وضح النهار، وقبلها بفترة وجيزة قتلت الشابة زينب زعيتر البالغة من العمر 26 عاما بعشر رصاصات أمام أولادها، كذلك وعلى يد زوجها.

لم نضطر للعودة إلى أرشيف سحيق لاستخراج جرائم قتل النساء. الجريمتان وقعتا هذا العام وهما عينة بسيطة عن العنف المتزايد تجاه النساء في لبنان والمنطقة.

لا نعلم إذا كانت السيدتان المقتولتان من جماهير الإعلامية المصرية ياسمين عز التي تدعو المرأة إلى أن تضع كرامتها في "الدرج"، أي أن تقفل عليها وتمنعها من الظهور، حين تتزوج. ما نعلمه أن المرأة اللبنانية تحمل البيوت على ظهرها طوال عمرها وأن مساحة الأمان الوحيدة الباقية في البلد تصنعها النساء، والأمر نفسه ينطبق على المرأة المصرية.

وكانت عز طالبت المرأة اللبنانية بمناداة زوجها بـ "الفينيقي" وبسحب التاء المربوطة من أواخر أسماء الأكلات اللبنانية المشهورة على غرار المنقوشة والتبولة لتصبح تبول ومنقوش، معتبرة أن الإبقاء على التاء المربوطة في حديث المرأة مع زوجها يخنق العلاقة، وتحذّرها من أنها في حال تزوجت من مصري فإن من واجبها أن تنادي زوجها بالفرعون وأن تعيش عند حماتها. انتقدت كذلك عبارة التحبب اللبنانية الشائعة "تقبر قلبي"، داعية النساء إلى تجنب استعمالها واستبدالها بكلام مفيد أو بأغنية للفنان زياد برجي بعد تغيير كلماتها لتتناسب مع المزاج الفينيقي لتصبح "شو حلو فينيقي شو حلو".

المرأة "الياسمينية" تعمل موظفة بدوام كامل في مؤسسة الزواج والبيت، وليس لديها وقت أو طاقة لممارسة أي عمل آخر، وإلا فستجد نفسها مقصرة في أداء مهمتها الأساسية والرئيسية في الحياة وهي إرضاء الرجل


استهجان وسخرية

قوبلت تصريحات الإعلامية المصرية المثيرة للجدل بالاستهجان والسخرية واستهدفت في صفحات كوميدية وغيرها، كما انفجرت موجة تعليقات غاضبة ركز معظمها على هشاشة المحتوى من دون أن يخلو الأمر من مناصرين ومؤيدين. كل ذلك جعلها في قلب الحدث وسمح لتصريحاتها بتصدّر واجهة الترند من دون الانتباه إلى خطورة ما تدعو إليه، والذي لا يمكن المزاح في شأنه في بلد باتت المساحات الخاصة والعامة فيه غير آمنة بالنسبة إلى النساء.

لا يمكن النظر إلى آخر تقليعات سوى أنها استئناف لمشروع التطبيع مع العنف الذي سبق أن دعت إليه بشكل واضح ومباشر وفي تعليقها المؤيد لحادثة ضرب رجل مصري لزوجته في حفل زفافهما في ما عرف بحادثة "عروس الإسماعيلية".

وكانت المذيعة قد أجبرت تحت وطأة الغضب الكبير الذي طاولها على الاعتذار  العلني عن موقفها  مدّعية انحيازها لمنطق التصالح ورفض العنف ضد المرأة. لكن هذا الاعتذار كان أقبح من الذنب نفسه لأنه لم يجعل العنف العلني والإهانة المباشرة الموجهة للمرأة حدا نهائيا وخطا أحمر لا يمكن تجاوزهما، ولا يخضعان لاعتبارات التسويات والمصالحة، ذلك لأنه في طبيعته حكم إعدام لا يمكن العودة عنه، وحين يعطي الرجل نفسه الحق في ممارسته فذلك يعني أنه أخضع المرأة لحكم قيمة تبخيسي حاسم.

السؤال الذي لا شك في عدم توافر أية أجابة عنه عند عز، يتعلق بكيفية ممارسة المرأة لدور الإغراء الدائم الذي تحضها عليه، إذا ما كان القبول بنظرة الاحتقار وانتفاء الكرامة، كما تنظّر، مدخلا للعلاقة السليمة والصحية؟

ياسمين عز

امرأة ياسمين عز

نموذج المرأة الذي تسوّق له عز يرسم ملامح امرأة مهمومة بإرضاء الرجل. تقدّم نفسها على أنها المعلمة والمرشدة في هذا المجال وما على المرأة سوى المتابعة الدائمة لتحديثات معجم المخاطبة الذي تجدّده كل فترة وتضيف إلى منطقه الواحد ألعابا جديدة، وكذلك الاجتهاد في ممارسة أشكال التصرفات والسلوكيات الانسحاقية التي تدعمها. المرأة "الياسمينية" تعمل موظفة بدوام كامل في مؤسسة الزواج والبيت، وليس لديها وقت أو طاقة لممارسة أي عمل آخر، وإلا فستجد نفسها مقصرة في أداء مهمتها الأساسية والرئيسية في الحياة وهي إرضاء الرجل.

يضع هذا المنطق كل ما تفعله المرأة خارج تلك المؤسسة في موقع الإدانة، عملها وطموحها وخروجها إلى الشأن العام ليست أدوارا يجدر بها الاهتمام بها بل تخضع لآلية استقطاب خبيثة، إذ إن الخطاب الذي تنشره عز لا ينادي بذلك مباشرة ولكنه يوظف مقولات شائعة حول الأصالة والزمن الجميل وما إلى ذلك، حيث نجد كتلة صلبة من مؤيدي ذلك الخطاب يعتبرونه دفعا في اتجاه إعادة تكريس القيم التي تربوا عليها.

 وكان الفنان علاء مرسي سبق له أن صرح بأنه يحب الإعلامية ياسمين عز، لأنها تتحدث عن قيمة الرجل، وعن ضرورة أن تكون العلاقة بين الرجل والمرأة مماثلة لماضي الآباء والأجداد، وتتكلم مثل أمه وجدته.

في الماضي الذي يتحدث عنه مرسي كانت المرأة غير مرئية وتختفي في عتمات البيوت حتى تموت، وكان خروجها إلى الشأن العام يتطلب اجتياز حقول ألغام كثيرة، ولكن من فعلن ذلك أسسن تاريخ الفن والثقافة والعلوم في البلاد.

ولطالما ارتبط تغييب المرأة عن المجال العام وقصر وظيفتها على الاهتمام بزوجها بتخلف المجتمعات في كل الميادين، وقد راجت تلك الموجة مع انتشار موجات التطرف التي كانت الخمينية الإيرانية مرجعيتها الأساسية، ففي ثمانينات القرن الماضي شهدت بيروت المدينة الكوزموبوليتية موجة الشادور الأسود الذي لم يكن رمزا دينيا وتنويعا على الحجاب التقليدي وحضا على الحشمة، ولكنه كان عنوانا عريضا لإيديولوجيا إخراج المرأة من المجال العام، تمهيدا لبسط سلطات العسكرة والفظاظة وجعل كل شيء في البلاد انعكاسا لها.

 وجب أن تكون المرأة بلا ملامح تمهيدا لإقصائها عن لعب أي دور فاعل وشرعنة هذا التوجه من داخل الخطاب العقائدي وفرضه بقوة تشويه الوجوه بالأسيد الذي وسم ممارسة الحزب اللبناني، ورسم أفظع صور سيطرته على الحياة العامة في لبنان منذ تلك الفترة.

الخطاب المشرعن للعنف ضد المرأة هو خطاب الحرب الدائمة واعتقال النساء في غياهب منازل تحولت إلى سجون، هو تحريض على استمرار الجريمة المتمادية ضد المرأة

التماهي مع التطرف

  ليس من قبيل الصدفة تطابق خطاب الإعلامية المصرية مع خطاب لنائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم حول عدم أهلية المرأة المطلقة  للعمل في الوظائف التربوية وخصوصا التعليم حيث يعتبر قاسم أنه في حال "كانت المرأة تعمل في مجال التدريس ولديها أفكار خاصة في كيفية إدارة الحياة، فلنتصور أنها تريد أن تنظّر عن كيفية العيش، وإذا كانت معلمة ومطلقة وتقضي حياتها في المشاكل ومن الخراب الذي وقعت فيه تريد أن تعطي نصائح للبنات كي لا يقعن في ما وقعت فيه، ماذا ستكون نصيحة شخص واقع في مشكلة". 

ذلك التبخيس العنيف  للمرأة المطلقة يتهمها بالفشل في إدارة حياتها لمجرد خروجها من مؤسسة الزواج، ويسقط عنها الأهلية لممارسة أية أدوار تربوية ويعتبرها كائنا مأزوما لا يصلح لإسداء النصح وذلك بغض النظر عن أي صفات وقدرات. المرأة في نظر قاسم تصبح بطلاقها خارج المجتمع، وهو يكاد يرسم تصورا لها يجعلها أقرب إلى المجرمين والمرضى النفسيين الخطيرين محاولا تركيب الحجج لشرعنة إقصائها عن صناعة التأثير.

يُصوّر دور الزوجة بوصفه حياة المرأة وكيانها وهويتها، وصانع قيمتها ومانح المعنى لوجودها، ومهمة سامية يخرجها الفشل في المحافظة على متطلباتها التي تشترط الطاعة وتذويب الطموح والكرامة والشخصية، من دائرة الحق في امتلاك صفات وكيان.

التوافق في وجهات النظر بين ممثل تيار متطرف وبين إعلامية تقدّم نفسها بوصفها منتمية الى عالم التحديث والانفتاح خطير، إذ إن الخطاب، الذي قد يسهل رفضه ورده إلى مرجعية سلبية في حال قاسم، يصبح متماسكا وأكثر صلابة حين نطالعه عبر وسيط وجه ياسمين عز الجميل.

الأمر نفسه يتكرر لناحية الإحالة الى المصادر ومحاولة تفكيك أصل الخطاب وفصله.مرجعيات الخطاب  المتطرف ومشاريعه واضحة المعالم، وللمرأة فيها وظيفة تقوم على إنتاج المقاتلين وتنشئتهم ليكونوا صناع موت. ذلك المسار  يفترض تحويل البيوت إلى ميادين تدريب على تذويب الذات لصالح الزوج الذي يمثل الانعكاس المطلق للسلطات، لكن السؤال يكمن في البحث عن مصادر ياسمين عز ومرجعيات خطابها التي تسمح لها بالتطابق مع مشروع متطرف.

ليست تلك المرجعيات سوى تنويعات على الأفكار الثابتة السائدة حول الإعلاء من قيمة الصبر والتضحية وربطها بأدوار الأم والزوجة، وتبرير ظلم المرأة واضطهادها وعملها من دون أجر أو بأجور زهيدة للغاية الذي كان سائدا في مراحل مظلمة من تاريخ العالم والمنطقة. كل ذلك يعاد إنتاجه وتقديمه الآن بتنويع إعلامي يتمثل في دعوة مقدمة برنامج "كلام الناس" لممارسة الشكل نفسه من العمل وبالشروط نفسها من داخل المؤسسة الزوجية.

نشاط المرأة داخل تلك المؤسسة منفصل عن ذاتها فهي لا تخاطب الرجل بصوتها الرقيق الذابل أو تسعى للظهور في هيئة مغرية وجميلة، كما تطالبها عز، لأنها تمتلك تلك الصفات وتوجّه لمنحها للرجل او التعامل معه انطلاقا منها، بل لأن ذلك كله يشكل  جزءا من عدة الشغل ومتطلبات مهنة الزوجة. المرأة ليست رقيقة وجميلة ومغرية في أصل تكوينها، لكن تلك هي شروط عملها وليست صفاتها.

بلا صفات

المرأة كما ينظر إليها كل من قاسم وعز لا تملك صفات أصلية، بل لديها وظيفة يتجلى معناها في تأبيد السلطات الذكورية القائمة، ونفي الفكر الأنثوي الذي يدعم منطق التوازن والتسويات والتفاهم ويمثل العقلنة خلافا للمنطق السائد الذي يربط بينها وبين الذكورية في حين ينسب للأنثوية الانفعال.

تكفي نظرة واحدة إلى اضطراب أحوال العالم المسيطر عليه ذكوريا لنكتشف أنه عالم يعادي العقلنة وأن الركون إلى الخطاب الأنثوي ضرورة اجتماعية وسياسية واقتصادية.

الخطاب المشرعن للعنف ضد المرأة هو خطاب الحرب الدائمة واعتقال النساء في غياهب منازل تحولت إلى سجون، هو تحريض على استمرار الجريمة المتمادية ضد المرأة من ناحية، واعتداء على زمان العالم ولحظته التي تبلور نزوعا نحو التسويات وتعزيز الحضور الأنثوي في المجالات كافة، من جهة أخرى.

إلقاء نظرة سريعة الى الكيفية التي يفكر فيها عالم اليوم ستجعلنا نعرف أن منطق ياسمين عز القائم على دفع المرأة إلى إقامة جبرية في دور زوجة بمواصفات أشبه بالدمى الآلية المبرمجة على الطاعة الكاملة كما صورها  فيلم "زوجات ستيبفورد" من إخراج فرانك أوز وبطولة نيكول كيدمان وماثيو برودريك،  ليس سوى منطق معاد للمصلحة العامة لأي مجتمع يسعى إلى أن يكون في قلب العالم ومساهما في إنتاجه.

font change

مقالات ذات صلة