وضاح شرارة يناقش كيف صدرت إيران أزماتها الداخلية إلى المنطقة

في كتابه الجديد "الحروب الأهلية المعاصرة – نظاما سياسيا"

غلاف كتاب "الحروب الأهلية المعاصرة – نظاما سياسيا"

وضاح شرارة يناقش كيف صدرت إيران أزماتها الداخلية إلى المنطقة

لا يحاول كتاب "الحروب الأهلية المعاصرة – نظاما سياسيا" للكاتب اللبناني وضاح شرارة (رياض الريس للكتب والنشر) جرد الحروب الأهلية العربية، بقدر ما يسعى إلى إعادة تركيب المشهد من الداخل: كيف تتداعى الدولة حين تتحول إلى جهاز سلطوي منفصل عن المجتمع، وكيف تستيقظ العصبيات الطائفية والقبلية لتملأ الفراغ. الفصول هنا هي مرايا مختلفة لصورة واحدة، صورة الانهيار حين يفقد الناس ثقتهم في العقد السياسي الذي يربطهم بالدولة.

يبدأ الكتاب من سوريا، حيث تتفتت صورة "الدولة–الأمة" وتتحول إلى ولايات متنازعة، تصنعها أجهزة الأمن كما تصنعها الطوائف والانتفاضات. ومن هناك ننتقل إلى فلسطين حيث يختلط الصراع مع الاحتلال بنزاع داخلي لا يقل ضراوة، فتغدو غزة مختبرا لمعادلة السياسة والحرب معا.

يقف الفصل الثالث عند لبنان، حيث لا حرب تنتهي حقا: الرئاسات معلقة، والمجتمع أسير نظام طائفي يلتهم نفسه، بينما يقف "حزب الله" نموذجا لجهاز عسكري–اجتماعي يختزل الدولة في ذاته. أما الفصل الرابع فهو من حصة إيران، فهي الحاضر الثقيل في كل فصل تقريبا، لكن لها فصلها الخاص: بلد يختزن تناقضات الثورة والدين والدولة، من "سنة الدم" إلى احتجاجات الحجاب، ومن ظل الحرس الثوري إلى المجتمع الذي يرفض أن يختصر في سلطة واحدة.

بعد ذلك يتوقف شرارة عند العراق، بلد الازدواجيات: دولة تتفتت إلى دويلات وولايات، تغتالها القوى الصغيرة كما الكبيرة، حيث يتكرر مشهد "الكوميديا السوداء" للسيادة المستباحة. وينال السودان حصته من القراءة في الفصل السادس، إذ يدخل النص في تفاصيل جهازين توأمين يهيمنان على المجتمع، ليفضح كيف تتحول العاصمة إلى مسرح حروب دائمة، وكيف تنعكس أزمة الهوية على الخرطوم نفسها.

الفصل السابع يقف عند اليمن، مثال الحرب التي لم تعد تختزل في حدودها، بل انفتحت على البحر الأحمر وصارت جزءا من خريطة إقليمية أكبر. وأخيرا، يتناول الفصل الثامن المشرق ككل، فيقدم خلاصة شاملة: الحروب العربية جميعها ملبننة، أي أنها تكرر النموذج اللبناني بوجوه مختلفة، وتورث ما يشبه عدوى الانقسام المستمر.

يشكل الكتاب إذن محاولة لرسم خريطة سياسية – اجتماعية للحروب الأهلية لا بوصفها صدفة عابرة، بل "نظاما" قائما بذاته

يشكل الكتاب إذن محاولة لرسم خريطة سياسية – اجتماعية للحروب الأهلية لا بوصفها صدفة عابرة، بل "نظاما" قائما بذاته، يتغذى من هشاشة الدولة ومن عصبيات لا تكف عن إعادة إنتاج ذاتها. كل فصل هو حالة، لكن الحالات كلها تنتمي إلى زمن واحد: زمن انهيار العقد بين الدولة والأهل، وصعود أشكال بديلة من السلطة تحول المجتمع إلى ساحة حرب مفتوحة.

بين أسطورة الإمامة وواقع الدولة الحديثة

يفتح الفصل المخصص لإيران نافذة على دولة إقليمية كبرى، إلا أنه يتجاوز ذلك لاقتحام تجربة تاريخية متواصلة تعيد إنتاج نفسها بلا انقطاع: دولة دينية متشظية بين خطاب الثورة وضرورات السلطة، مجتمع ينهض ثم يقمع، جهاز أمني–عسكري يزحف على كل مساحة اقتصادية وسياسية، وصورة بلد يراوح بين أسطورة الإمامة وواقع الدولة الحديثة.

AFP
عناصر من الحرس الثوري الإيراني خلال العرض العسكري السنوي في طهران، 22 سبتمبر 2018

النص يبدأ من "سنة الدم"، تلك اللحظة التي تتكثف فيها السياسة الإيرانية في مشاهد الإعدامات والسجون والقمع، حيث يختلط صوت الحرس الثوري بصرخات الشوارع. ليس الأمر حدثا عابرا، بل هو ما يشكل الطابع البنيوي للنظام: حكم قائم على إنتاج الأزمات وقمعها، على استثمار العنف أداة للشرعية. الكاتب يلتقط هذه المفارقة بمهارة: الدولة التي ادعت أنها ثورة دائمة، تحولت إلى جهاز قمع دائم، وتلك هي المفارقة التي تحدد كل شيء تال.

يتجاوز "الحرس الثوري" في توصيف شرارة كونه ذراعا عسكرية، فهو كيان اقتصادي – سياسي يهيمن على موارد البلاد، من النفط إلى الصناعات الكبرى، حتى صار دولة داخل الدولة. هنا يظهر التحليل بوضوح أن "الحرس الثوري" يتجاوز كونه مؤسسة مسلحة، إلى أن يكون نموذجا لـ"الاقتصاد الموازي" الذي يبتلع الدولة ويعيد تشكيلها على صورته. ما يلفت الانتباه هو توصيفه كقوة رمزية بقدر ما هو قوة مادية، فهو الذي يعرف حدود الوطنية، وهو الذي يمنح السلطة معنى الشرعية، في الداخل والخارج معا.

AFP
نساء إيرانيات يرددن شعارات خلال مسيرة مؤيدة لفلسطين في طهران، 2 مايو 2025

لا يتوقف شرارة عند هذا البعد، إذ يناقش نسيان النزاعات الأهلية والاجتماعية داخل إيران نفسها. فالدولة – في اندفاعها نحو دور إقليمي كوني – تسعى إلى دفن تناقضاتها الداخلية تحت خطاب المواجهة مع "العدو الخارجي". لكن الاحتجاجات المتكررة، من الحركة الخضراء إلى انتفاضة مهسا أميني، تعيد إلى السطح حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن المجتمع الإيراني ليس كيانا ساكنا، بل طاقة مقاومة صامتة، قادرة على الانفجار في أي لحظة. الكاتب هنا يلمح إلى ما يشبه "اللاوعي الجمعي" الذي يرفض أن يختصر في خطاب الدولة، مهما كان خطابها مشبعا بالرموز الدينية.

يتجاوز "الحرس الثوري" كونه مؤسسة مسلحة، إلى أن يكون نموذجا لـ"الاقتصاد الموازي" الذي يبتلع الدولة ويعيد تشكيلها على صورته

في هذا السياق، تأتي قراءة الحجاب بوصفه رمزا سياسيا لا دينيا فقط. فالقمع المرتبط بارتداء الحجاب أو رفضه تجاوز كونه مسألة أخلاقية، ليشكل علامة على حدود السلطة نفسها: ما الذي تستطيع الدولة فرضه على أجساد مواطنيها، وما الذي يرفضه المجتمع بصلابة؟ لهذا تصبح صورة النساء في الشوارع، شعورهن المكشوفة، معادلا مباشرا لفشل السلطة في احتكار الرموز. الكاتب يعرض هذه الصورة بحدة، حيث لم يعد الحجاب لباسا، بل ساحة معركة، جدارا يتصدع في بنيان الدولة ذاتها.

المحلي والإقليمي

ما يميز هذا الفصل أنه يربط بين المحلي والإقليمي، فإيران تقرأ أبعد من كونها بلدا يعيش صراعا داخليا، انطلاقا من أنها قوة تصدر نموذجها إلى محيطها. ظل "الحرس الثوري" يمتد إلى العراق ولبنان وسوريا واليمن، وكأن النزاع الإيراني الداخلي يتسع ليصبح نزاعا شرق أوسطيا عاما. هنا نلمس أطروحة مركزية مفادها أن الحروب الأهلية في المنطقة لا يمكن فهمها بمعزل عن الدور الإيراني، لأن طهران صاغت لنفسها استراتيجيا تقوم على تحويل كل ساحة عربية إلى مرآة لصراعاتها الداخلية.

AFP
مشيعون يلوحون بأعلام إيران وفلسطين و"حزب الله" في جنازة القائد في الحرس الثوري عباس نيلفروشان في مشهد، 16 أكتوبر 2024

لكن الكاتب لا ينجرف إلى اختزال إيران في شيطنة مطلقة. ثمة مساحة للتأمل في التناقض البنيوي: إيران، رغم سلطتها القمعية، هي أيضا مجتمع نابض بالحياة الثقافية، وبالاحتجاجات، وبالأسئلة الفلسفية والوجودية التي يطرحها جيل شاب. وكأن الكاتب يقول إننا لا يمكن أن نرى إيران فقط من خلال صورة "الحرس الثوري"، بل يجب أن نرى أيضا وجوه الطلاب في الجامعات، والنساء في الشوارع، والأدباء الذين يخترقون جدار الصمت.

من الناحية البنيوية، تحضر إيران بوصفها نموذجا لمأزق الدولة الدينية الحديثة، فهي تحمل لغة ثورية لكن تمارس سلطوية مطلقة، وتنتج خطابا كونيا لكن تعجز عن حل تناقضاتها الاجتماعية الداخلية. هذه القراءة نافذة، لكنها تنطوي على إشكالية، إذ أن التركيز على جهاز "الحرس الثوري"، رغم أهميته، قد يختزل التجربة الإيرانية إلى بعد واحد. ثمة مستويات أخرى – اقتصادية واجتماعية وثقافية – كانت تستحق مساحة أوسع.

مأزق إيران ليس فقط في قمعها لشعبها، بل في جعل هذا القمع لغة إقليمية تتكرر بصيغ مختلفة في أرجاء المنطقة

كذلك، الرمزية الممنوحة للحجاب كمفتاح لفهم الصراع بين الدولة والمجتمع لافتة وملهمة، لكنها تبالغ في تقديمه بوصفه الرمز الأوحد. الواقع الإيراني أكثر تعقيدا: الحجاب جزء من المشهد، لكنه يتقاطع مع البطالة، الفقر، القومية الفارسية مقابل الأقليات الكردية والعربية والبلوشية. هذه الأبعاد لم يعطها النص ما يكفي من العمق، وهو ما قد يجعل القراءة ناقصة من زاوية سوسيولوجية.

مع ذلك، لا يمكن إنكار قوة الأسلوب التحليلي في رسم صورة إيران: بلد يعيش في ظل مفارقة دائمة، يقيم شرعيته على خطاب ديني لكنه ينهار أمام احتجاجات شعبية بسيطة. النقد الحقيقي الذي يمكن توجيهه لتناول شرارة هنا، أنه يظل أسير نظرة من الخارج. فاللغة تكشف عن مسافة نقدية واضحة، لكنها لا تتيح للقارئ أن يسمع الأصوات الداخلية للإيرانيين أنفسهم. ربما كان من الممكن إدماج شهادات أو نصوص محلية أكثر، تمنح النص عمقا من الداخل بدل الاكتفاء بالتحليل السياسي والفلسفي.

AFP
إيرانيون يلوحون بالعلم الوطني خلال مسيرة مؤيدة للحجاب في طهران، 23 سبتمبر 2022

ورغم هذه الملاحظات، يبقى الفصل المتعلق بإيران أحد أقوى فصول الكتاب، فهو يضع إيران في قلب الإشكالية العامة، أي كيف تتحول الدولة في المنطقة إلى جهاز سلطوي ينفصل عن المجتمع، وكيف تختصر الهوية الوطنية في جهاز عسكري أو في رمز ديني. الأهم أنه يكشف عن علاقة لا يمكن إنكارها بين الداخل والخارج، إذ أن ما يحدث في شوارع طهران يجد صداه في بغداد وبيروت وغزة، وما يبنى في غرف "الحرس الثوري" يترجم في ساحات أخرى.

يشكل هذا التحليل لإيران محاولة لفهم منطق كامل، منطق دولة – ثورة تعجز عن أن تكون دولة حديثة، وتصر على أن تبقى ثورة مؤبدة. وهذا المنطق ذاته يجعلها حاضرة في كل حرب أهلية عربية تقريبا، لأن نموذجها يصدر بالقدر الذي يفشل في الداخل. هنا يكمن جوهر النقد: إن مأزق إيران ليس فقط في قمعها لشعبها، بل في جعل هذا القمع لغة إقليمية تتكرر بصيغ مختلفة في أرجاء المنطقة.

font change