أمير فخر الدين يعود إلى أزمة الهوية والغربة في "يونان"

ماض لا يفارق ومستقبل لا يرى

Stefanie Loos / AFP
Stefanie Loos / AFP
المخرج أمير فخر الدين وفريق فيلم "يُونان" في ختام المؤتمر الصحفي بمهرجان برلين السينمائي.

أمير فخر الدين يعود إلى أزمة الهوية والغربة في "يونان"

الغربة تجربة فريدة ومتنوعة، لأننا حينما نذكر هذا المصطلح لا يمكن اختزال هذه التجربة في قالب واحد ينطبق على الجميع، فهناك من يغترب باختياره ومن يغترب قسرا، هناك من يعيش حياة هانئة في الغربة ومن يعيش حياة تحت خط الفقر، هناك من يتعرف الى نفسه أكثر في الغربة ويعتنقها، وهناك من ينفر من هذا الاكتشاف ويهابه. لكن كل هذه التجارب تأتي مصاحبة لمستويات متفاوتة من العزلة، العزلة رفيقة دائمة للغربة وبسببها يمكن أن يندفع المرء إلى تجارب جديدة أو يكتفي بنفسه خوفا من أخذ خطوة في الاتجاه الخاطئ.

فيلم "يونان"، من كتابة وإخراج السوري المقيم في ألمانيا أمير فخر الدين، الذي عرض في الدورة 75 من "مهرجان برلين السينمائي الدولي"، يتحدث عن منير (جورج خباز)، كاتب سوري يعيش في هامبورغ بعيدا من أخته وأمه المصابة بالخرف، يعاني من نوبات ضيق تنفس وصعوبات إبداعية في الكتابة والتأليف. بعد أن يشرح له الطبيب أن سبب نوبات ضيق التنفس التي تدهمه ليس جسديا وقد يكون نفسيا، يقرر الذهاب إلى جزيرة قليلة السكان مشهورة بهدوئها وطبيعتها الفريدة محاولا الاختلاء بنفسه، ويحضر معه مسدسه لأن فكرة الانتحار لا تفارقه.

عزلة المجهول

يفتتح الفيلم أول مشاهده بمنير وهو يجري فحصا للجهاز التنفسي في العيادة، عزلة منير ووحدته في مواجهة المجهول لا يساعده فيها حتى الطبيب، الغموض الذي يكتنف مصيره ومستقبله يحاصره، ونوبات ضيق التنفس التي لا يجد لها جوابا طبيا مقنعا ليست سوى حمل جديد عليه تحمله في هذه الغربة. يتعمق الفيلم في عالم منير ويتضح أنه بالرغم من سكنه في مدينة ضخمة كهامبورغ، فهو معزول عن ضجة هذه المدينة ولا يبدو أنه يعرف فيها أحدا سوى صديقة يمارس معها الجنس أحيانا. العالم من حوله صاخب ويتسلل إليه من خلال أصوات محطة القطار قرب شقة صديقته، ولكن باستثناء محاولات المدينة البائسة لتهشيم هذا الهدوء، تقف كآبة منير سدا منيعا أمام كل خطر يمكن أن يقتحم عزلته.

بعد مكالمة منير لوالدته المصابة بالخرف والتي تواجه صعوبة في التعرف اليه، والذكرى الوحيدة التي لا تزال تعيش حية لديها هي قصة الراعي الملعون التي لا تستطيع سوى قص بدايتها والدوران في حلقة مفرغة حينما ترويها، يتضح أن هناك شعورا مصاحبا بالذنب لدى منير. فهو يعيش في قارة مختلفة عن عائلته ولا يستطيع مساندة أخته في رعاية والدته، يتلاشى اسمه من ذاكرة أمه ولا يمكنه فعل شيء في خصوص ذلك. وفي أثناء هذا التلاشي، هو ينظر إلى حياته "الجديدة" في الهجرة ولا يجد ما يستحق الهجرة من أجله. يتبين له أنه ترك عائلته خلفه من أجل مشاكل ضيق في التنفس وعجز جنسي، وليس بالكاتب الناجح والمشهور، والشعور بالذنب الذي يثقل كتفيه لا يساعد سوى في جعل حياته أصعب.

REUTERS/Annegret Hilse
عرض فيلم "يُونان" في مهرجان برلين السينمائي بحضور جورج خباز، حنّا شيغولا، سيبيل كيكيلي، توم فلاشيا، نضال الأشقر والمخرج أمير فخر الدين.

يريد بطل الفيلم أن تكون هجرته ذات معنى وهدف، أن ينظر إلى شريط حياته حتى هذه اللحظة ويكون قادرا على تبرير رحيله. حياته الحالية لا تبدو كافية لتبرير ذلك، الإرث الذي سيتركه خلفه لا يستحق أن يسمى إرثا في رأيه، لذلك حينما يخرج المسدس في أول ليلة يمضيها في الجزيرة ويبدو أنه فعليا يفكر في الانتحار، لا يأتي ذلك كقرار مندفع ووليد اللحظة، بل نتيجة تراكمية للعديد من الأفكار والتأملات النفسية التي استغرقت وقتا طويلا في التشكل.

سرد تأملي

لا يختلف مقدار الهدوء المصاحب لعزلة منير بين حياته في المدينة والجزيرة، فهو قادر على الشعور بأنه الشخص الوحيد الباقي على هذه الأرض سواء أكان ذلك في مدينة صناعية ضخمة مثل هامبورغ أم في جزيرة صغيرة قليلة السكان، الفرق الوحيد هو أن طبيعة الجزيرة التي تكتسب أهمية مع الوقت، تبدأ باقتحام خياله وتشكيل قصة الراعي الملعون، الأثر الوحيد الباقي من والدته التي يحاول أن يصنع منها إرثا أدبيا يذكر.

Berlinale
مشهد من فيلم "يُونان".

حينما يصل منير إلى المكان الوحيد الذي يستقبل السياح، وهو عبارة عن نزل تديره امرأة مسنة تدعى فاليسكا (الممثلة هانا شيغولا)، يواجه مشكلة في عدم وجود حجز مسبق وترفض السيدة استقباله في النزل، وبعد أن يبدأ بالتعبير عن سخطه بالعربية وشتم المكان، تستطيع هذه المرأة، رغم أنها لا تتكلم العربية، أن تفهم مغزاه ونبرة حديثه، وتبدأ بتوبيخه كأنه طفل صغير وتطلب منه الاعتذار. من هنا تبدأ ديناميكية العلاقة بينه وبين فاليسكا، إذ تصبح كأنها أمه في هذا المكان البعيد عن وطنه وعن كل انتماءاته، وتلاحظ انكساره واكتفاءه بنفسه عمن حوله وتحاول أن تغدق عليه حنانها كأنه ابنها الوحيد.

تطغى على الفيلم نبرة تأملية في السرد، ولا يلتزم سردا صارما ومنضبطا. لا يخشى أمير فخر الدين أن يستغرق وقتا طويلا في اكتشاف تضاريس الجزيرة والظاهرة الطبيعية التي تتمثل في انغمار غالبية أجزائها تحت الماء، تنساب هذه الصور الهادئة مع الحالة النفسية التي يعيشها بطل الفيلم والسلام المفاجئ الذي يقتحم حياته في موضع كان على وشك أن يكون آخر محطاته في هذه الدنيا. مثل منير، نفقد الإحساس بالوقت في هذه الجزيرة التي تبدو شخصية مستقلة بذاتها ومكانا خارج حدود الزمان.

REUTERS/Nadja Wohlleben
مؤتمر صحفي لفيلم "يُونان" في مهرجان برلين بحضور أمير فخر الدين، جاكلين نسيه، دوروثي باينيماير، سيبيل كيكيلي، جورج خباز، حنّا شيغولا، توم فلاشيا، ونضال الأشقر.

الواقع والأحلام

هذا السرد المتأمل والبطيء والاستكشافي، يمتزج مع طبيعة الجزيرة ويخلط الواقع أحلام منير باستمرار. قصة الراعي الملعون لا تفارق وعيه وأحلامه في محاولات حثيثة لإيجاد ذكرى أمه وسط كل هذه الدوامات. تدريجيا يجد منير راحة وطمأنينة وانتماء إلى هذا المكان الغريب، يخف الحمل الذي يثقل كاهله، وهو حمل مركب من مشاعر غربة وذنب وخوف من الاندثار.

يبدأ بتعلم أهمية العيش لمجرد العيش، دون قلق بشأن ترك إرث أو الشعور بالذنب تجاه الفرصة التي واتته بالهجرة. ثمة إحساس دخيل بأن فرصة الهجرة يجب أن تكلل بحياة حافلة بالإنجازات حتى يمكن تبرير استحقاق هذه الفرصة الذهبية، ولكن هذا المنظور مادي بحت ويتجاهل حقيقة أن التمتع بحياة طبيعية هو سبب كاف لاستحقاقها.

 Stefanie Loos / AFP
المخرج أمير فخر الدين في جلسة تصوير لفيلم "يُونان" بمسابقة مهرجان برلين السينمائي الـ75.

كان من المحبط أن يصرح منير بما كان يحاول الفيلم أن يرويه ضمنيا بشكل علني في النهاية، المونولوغ الأخير الذي يذكر فيه أن الإنسان سوف "ينسى وكأنه لم يكن"، كان غير ضروري إطلاقا في ظل اعتماد الفيلم على الأسلوب الصوري التأملي لفترات طويلة. الدراسة المتأنية لحالة منير في الغربة وفحص مشاعره المكبوتة تحت مظلة العزلة الواسعة، تفقد شيئا كثيرا من قيمتها حينما يفضي البطل الكتوم بمشاعره ومخاوفه علنا، وكأنه لم يقض كل وقته في الفيلم وهو يتجنب مواجهة هذه المشاعر، ناهيك عن الاعتراف بها.

في النهاية، وفي ثاني أفلامه التي سوف تكون ثلاثية "وطن"، استطاع أمير فخر الدين استكشاف مشاعر ليس من عادة صناع السينما العربية الاقتراب منها، والغوص أعمق في موضوع الغربة واستكشاف أبعاد أخرى تتجاوز العزلة الناتجة منها مثل الاكتئاب الحاد والذنب الناجم عن ترك الوطن والأهل، واليأس الناتج من حياة خالية من أي إرث والخوف من الاندثار دون ترك أثر على حياة من حولنا. جرأة منعشة في الطرح وقدرة فريدة على سرد متروّ غير مستعجل في كشف كل أوراقه.

font change