الغربة تجربة فريدة ومتنوعة، لأننا حينما نذكر هذا المصطلح لا يمكن اختزال هذه التجربة في قالب واحد ينطبق على الجميع، فهناك من يغترب باختياره ومن يغترب قسرا، هناك من يعيش حياة هانئة في الغربة ومن يعيش حياة تحت خط الفقر، هناك من يتعرف الى نفسه أكثر في الغربة ويعتنقها، وهناك من ينفر من هذا الاكتشاف ويهابه. لكن كل هذه التجارب تأتي مصاحبة لمستويات متفاوتة من العزلة، العزلة رفيقة دائمة للغربة وبسببها يمكن أن يندفع المرء إلى تجارب جديدة أو يكتفي بنفسه خوفا من أخذ خطوة في الاتجاه الخاطئ.
فيلم "يونان"، من كتابة وإخراج السوري المقيم في ألمانيا أمير فخر الدين، الذي عرض في الدورة 75 من "مهرجان برلين السينمائي الدولي"، يتحدث عن منير (جورج خباز)، كاتب سوري يعيش في هامبورغ بعيدا من أخته وأمه المصابة بالخرف، يعاني من نوبات ضيق تنفس وصعوبات إبداعية في الكتابة والتأليف. بعد أن يشرح له الطبيب أن سبب نوبات ضيق التنفس التي تدهمه ليس جسديا وقد يكون نفسيا، يقرر الذهاب إلى جزيرة قليلة السكان مشهورة بهدوئها وطبيعتها الفريدة محاولا الاختلاء بنفسه، ويحضر معه مسدسه لأن فكرة الانتحار لا تفارقه.
عزلة المجهول
يفتتح الفيلم أول مشاهده بمنير وهو يجري فحصا للجهاز التنفسي في العيادة، عزلة منير ووحدته في مواجهة المجهول لا يساعده فيها حتى الطبيب، الغموض الذي يكتنف مصيره ومستقبله يحاصره، ونوبات ضيق التنفس التي لا يجد لها جوابا طبيا مقنعا ليست سوى حمل جديد عليه تحمله في هذه الغربة. يتعمق الفيلم في عالم منير ويتضح أنه بالرغم من سكنه في مدينة ضخمة كهامبورغ، فهو معزول عن ضجة هذه المدينة ولا يبدو أنه يعرف فيها أحدا سوى صديقة يمارس معها الجنس أحيانا. العالم من حوله صاخب ويتسلل إليه من خلال أصوات محطة القطار قرب شقة صديقته، ولكن باستثناء محاولات المدينة البائسة لتهشيم هذا الهدوء، تقف كآبة منير سدا منيعا أمام كل خطر يمكن أن يقتحم عزلته.