انتحار الشباب في غزة: اليأس وراءكم والبحر أمامكم

ظاهرة متفاقمة وسط تردّي الأوضاع المعيشية والسياسية

Getty images
Getty images
مسيرة احتجاجية بمناسبة يوم العلم عند الحدود مع اسرائيل، غزة 18 مايو/ أيار 2023.

انتحار الشباب في غزة: اليأس وراءكم والبحر أمامكم

غزة: يعيش المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة، ظروفا اقتصادية واجتماعية وسياسية شديدة القسوة، منذ عام 2007، بعد أحداث القتال الداخلي، الذي نجم عنه الانقسام السياسي الفلسطيني، ومنذ ذلك الحين فرض الاحتلال الإسرائيلي حصارا اقتصاديا وجغرافيا خانقا على أهل القطاع، تبعه تفاقم معاناة المواطنين الفلسطينيين، من منع السفر، وتقييد الحركة من غزة وإليها، ونقص حاد في الكهرباء، وتلوث المياه، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة البطالة، وارتفاع نسبة الفقر، حيث أورد مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في 2022، أن 60% من أهل غزة يحتاجون إلى المساعدات الإنسانية.

ترافق ذلك مع بروز ظواهر سلبية في المجتمع الغزي، تترجم الظروف الإنسانية القاهرة التي يخضع لها أهل القطاع، ومن أحدث هذه الظواهر: الانتحار. إذ لجأ العديد من الشباب إلى وضع حد لحياتهم، ومعظمهم كان يعاني الفقر والبطالة وعدم القدرة على تلبية احتياجاته، أو احتياجات أسرته.

فنتيجة العبء الاجتماعي والأمني والاقتصادي، على كاهل الإنسان الفلسطيني، ازدادت الاضطرابات النفسية، وأضحى سكان القطاع معرضين للمزيد من الأخطار بسبب الأحوال المعيشية المتدنية، ويؤكد موقع البنك الدولي في دراسة له، ظهور أعراض تتسق مع حالة الاكتئاب لدى 71% من سكان القطاع.

   تضافرت عوامل مختلفة، اقتصادية وسياسية، أهمها الانقسام الفلسطيني والحصار وتكرار الحروب، لتشكل معا ضغطا نفسيا شديدا على المجتمع الفلسطيني


الدكتور ختام أبو عودة

باتت محاولات الانتحار في غزة تحدث بشكل شبه يومي، القليل منها ينجح، والكثير منها يُتكتم عليه، بحجة الحفاظ على مكانة العائلة، واللحمة الاجتماعية، لكن هل هذا هو الحل، للحدّ من هذه الظاهرة أو معالجتها؟

من بين عشرات الحالات التي أتمت عملية الانتحار، أعرف شخصين، ففي عام 2017، فوجئ الوسط الثقافي في فلسطين، بحادثة انتحار الكاتب مهند يونس، الصديق اللطيف، الذي كان يكتب القصة القصيرة بشكل مختلف، وينبئ بمستقبل إبداعي كبير، لكنه اختار القفز المبكر من رحلة الحياة، بسبب الظروف الاجتماعية السيئة المحيطة به، ولقد كان، كما أعرفه عن قرب، يحاول السفر خارج القطاع، بحثا عن حياة تستحق العيش، لكنه فشل، بسبب اشتداد الحصار وقتها، فسافر خارج الحياة برمّتها.

AFP
شباب فلسطينيون يحرقون الإطارات أثناء احتجاج بالقرب من الحدود بين إسرائيل وغزة شرق مخيم جباليا للاجئين، في 23 فبراير/شباط 2023.

قبل أيام فاجأنا صديق آخر هو محمد النجار، وهو يكتب الشعر، بخطوة قفز أخرى، بعد معاناة طويلة مع الاكتئاب الناجم عن ظروف اجتماعية واقتصادية محيطة، ليختتم رحلته في هذا العالم برسالة على "فيسبوك: "مضطر لمغادرة هذا العالم بعدما استنفدت كل جهودي ومحاولاتي للشفاء من مرض الاكتئاب على مدار 8 سنوات آخرها جلسات الكهرباء قبل أقل من عام، حاولت بكل ما في وسعي،

لا لوم على أحد، كل ما في الأمر أنني لم أعد أستطيع تحمل كل هذا الكم من الألم داخلي، أنا آسف كتير". 

هذان الشخصان أحببتهما مثل كثيرين غيري، لكن غزة لم تحبهما، فهربا من أضيق الشروخ خارج الحياة. الخطر الكبير هو أن الكثير من الأفراد في غزة، يفكرون بالطريقة نفسها، إذ تبدو الفكرة مستساغة أكثر فأكثر في عقول الشباب المقهورين، بعدما كانت لا ترد في الذهن أصلا، لكن المأساة في غزة أكبر من أن يستوعبها عقل، فأصبح الانتحار فعلا مستحدثا، ومطروحا بقوّة، في مجتمع اعتاد  لعقود طويلة التزام الخطاب الديني، ولو شكليا، فما الذي يحدث؟

القرار الأخير

تقول المتخصّصة الاجتماعية، الدكتورة  ختام أبو عودة، لـ"المجلة": "هناك حالات انتحار في جميع دول العالم، لكن في قطاع غزة، من الملاحظ خلال السنوات الماضية، إقبال فئة من الشباب على الانتحار، وهو أمر لم يكن مألوفا، في ظل كون المجتمع الفلسطيني محافظا، وملتزما المعايير الدينية، لكن تضافرت خلال السنوات الماضية عوامل مختلفة، سواء اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، أهمها الانقسام الفلسطيني والحصار الاقتصادي والجغرافي، وتكرار الحروب، لتشكل معا ضغطا نفسيا شديدا على المجتمع الفلسطيني. فجميع من يقدمون على هذه الخطوة، يواجهون صدمة نفسية لم يستطيعوا تخطيها، فأخذوا القرار الأخير، بقتل الذات من خلال الشنق، أو الحرق، أو استخدام المتفجرات، أو الرصاص، أو تناول العقاقير".

الدكتور ختام أبو عودة

وتضيف أبو عودة: "جميع من أقدم على الانتحار يحمل رؤية سوداوية للحياة، ولا يجد أي فرصة لبدء حياة جديدة، الجميع للأسف هنا في قطاع غزة، معرض للدخول في نفق هذه الأفكار، بسبب فقدان الأفق في مستقبل أفضل في قطاع غزة".

كسر القوالب

تعدّ فئة الشباب (18-30) الأكثر إقبالا على الانتحار في غزة، في ظل اعتبار هذه الفكرة في غزة مقيتة اجتماعيا، ولربما تجلب وصمة العار للأهل، انطلاقا من معايير اجتماعية ودينية، لكن حين يجرؤ الشاب على فعل ذلك فإنه يكون قد كسر القوالب كافة، وقرر رمي نفسه في الفراغ.

ترجع أبو عودة هذا إلى أسباب مختلفة منها: "أن هناك عددا كبيرا من المتخرجين الجامعيين في قطاع غزة، لا يجدون فرصة عمل في تخصصاتهم، وإن وجد بعضهم عملا، يكون بدخلٍ شديد التدني، كما أن الوظائف الحكومية التابعة للسلطة الفلسطينية توقفت منذ عام 2007، بعد الانقسام السياسي، وجميع الوظائف المتاحة في غزة، مقتصرة على الأحزاب، فكل فصيل سياسي يهتم بأفراده، ويؤمّن لهم دخلا بسيطا، ويبقى المواطن العادي في دوامة البطالة والفقر المدقع".

   غياب رؤية واضحة للمستقبل تؤثر سلبا على الشباب، وتبث أفكارا هدّامة، وتساهم في انهيار المريض النفسي، واللجوء الى الانتحار


الدكتورإسماعيل أهل

تلفت أبو عودة النظر إلى أمر مهم حيث أن "الكثير من الشباب في غزة يقبلون على تعلم السباحة، فبسبب الحصار المفروض على غزة من قبل الاحتلال، يواجه الشباب مأزق السفر عبر معبري غزة، إيرز من الشمال، ورفح من الجنوب، لذا يقومون بإعداد أنفسهم لهجرة غير شرعية، عبر البحر، إنه انتحار من نوع آخر".

وفي حين تؤكد أبو عودة أن هناك مراكز اجتماعية تهتم بحالات الانهيار النفسي، "لكن القليل منها يتوجه إليه أهل قطاع غزة، خوفا من فكرة الوصمة الاجتماعية، كأن يشيع بين الناس بأن لدى العائلة شخصا مجنونا، وفي حال أتى أحد أفراد العائلة مع المريض إلى المركز النفسي فإنه لا يخبر الاختصاصي بكل شيء، لاعتبارات دينية أو اجتماعية، وهذا ما يؤدّي بعد وقت إلى تأزّم حالة المريض".

وتطالب أبو عودة الجامعات الفلسطينية بدعم المتخرجين، المتعثرين في دفع رسوم تحرير الشهادات، فالجامعة تقف حجر عثرة في مستقبل المتخرج، بمنعه من تسلم شهادته، ما لم يسدّد الرسوم، غير المتوفرة أصلا.

وتفيد أبو عودة بأن المجتمع الغزي، بحاجة إلى المزيد من التوعية والتثقيف، بأهمية الطب النفسي، من خلال البرامج المختلفة لدى مؤسسات المجتمع المدني، لكنها تؤكد أيضا دور خطباء المساجد في ذلك، كون المجتمع الفلسطيني يتأثر بالخطاب الديني بشكل كبير، وترى أن هناك تجاهلا غير مفهوم من الخطباء لظاهرة الانتحار.

رفض الطب النفسي

أما الطبيب النفسي إسماعيل أهل فيعتبر في تصريحات لـ"المجلة" أن فكرة الرفض الاجتماعي للطب النفسي، والإعراض عنه، "من أهم الأسباب التي تؤدّي في النهاية إلى انتحار الشباب، إذ تلجأ العائلة إلى بعض من يدّعون التديّن والمشعوذين، وتخبرهم بأسرارها، وهذا أمر مرتبط بالثقافة السائدة، والانطباع العام الذي ورّثته الأفلام والمسلسلات العربية القديمة، باتهام المريض النفسي والطبيب كذلك، بالجنون، وهي محاولة مستمرّة من الأهل بالابتعاد عن فكرة الوصمة الاجتماعية، وهذا يعود إلى الجهل العام بأهمية الطب النفسي".

الدكتور اسماعيل أهل

ويُرجع الدكتور أهل، وجود الاضطرابات النفسية، والأمراض بين الشباب، إلى عوامل مختلفة: "إن التنشئة الاجتماعية الخاطئة من قبل الأهل، إما لوجود خلافات أسرية، أو لصدمات نفسية منذ الطفولة، وكذلك ما يترتّب على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السيئة، بعد الانقسام، وغياب رؤية واضحة للمستقبل، بالإضافة إلى وجود نماذج سلبية داخل المجتمع إما في الواقع، أو على مواقع التواصل الاجتماعي، تؤثر سلبا على الشباب، وتبث أفكارا هدّامة، كلها أسباب تساهم في انهيار المريض النفسي، واللجوء إلى الانتحار".

طريق آمن

يساهم وجود مؤسسات تقدّم الاستشارات النفسية في غزة، في الكثير من الأحيان، في إنقاذ أشخاص عانوا من الاكتئاب، وإعادتهم إلى الطريق الآمن، وإقناعهم بالتعايش مع الواقع السيئ، لكن معظم من يقدمون على الانتحار، يكونون قد فقدوا القدرة على التحمل، وأخذوا القرار بالقفز من القطار السريع.

يقول الدكتور أهل: "هنا في غزة أكثر من ثلاثمئة مؤسسة تقدم الخدمات الصحية النفسية، وهي قادرة على استقبال المرضى والتعامل معهم، لكن تغيب، إلا في ما ندر، ثقافة اللجوء إلى هذه المؤسسات".

التشخيص الفارقي

وفي ظل كثرة حالات من يعانون من اضطرابات نفسية، فإن الأطباء النفسيين يتدخلون من خلال التشخيص الفارقي الذي يحدّد مدى خطورة الاضطراب النفسي وحدّته، والأثر المترتب عليه، ولا سيما احتمال أن يؤذي المريض نفسه أو المحيطين به، أو الطبيب ذاته، "لكن للأسف، الكثير من المحيطين بالمرضى لا يأخذون بهذه الاستشارات، وتكون النتيجة، السقوط في اللهاوية"، كما يؤكد الدكتور أهل.

هنالك الكثير من المحيطين بالمرضى النفسيين، يجهلون خطورة التهاون في علاج المرض أو حتى لا يعرفون بأن هناك فردا من العائلة ينحدر نحو المرض النفسي، ومنهم من يفترض أن المريض يمثّل ويدّعي المرض، وهذا ما يفاقم من خطورة المرض مستقبلا.  ويوضح الدكتور أهل أن هنالك علامات تدل على الاضطراب النفسي، يجهلها المجتمع، منها: "تغير عادات الأشخاص وسلوكهم وتفكيرهم بصورة حادّة، تصاحبها تقلبات في المزاج. كما يمكن ملاحظة الرفض التام للعادات والتقاليد والثقافة الاجتماعية، ورفض الواقع والميل الى السلبية والعنف، بشكل مستمر".

تكسّب على كتف المريض

ويرى الدكتور أهل أن العائلة وذوي المريض النفسي يتحملون أحيانا وزر ذهاب المريض إلى الانتحار: "هناك بعض الأهالي ينتفعون من المبالغ المالية المخصصة من الجمعيات الخيرية للمرضى النفسيين، ويستخدمونها لشراء حاجياتهم، ويتركون المريض النفسي سارحا في الشوارع، دون عناية، ومن الغريب أن تمر هذه الأمور دون متابعة ومحاسبة قانونية، قبل وقوع الانتحار وبعده".

جنحة أم جناية؟

أما المتخصص القانوني المحامي محمد المصري فيشرح عبر "المجلة" الأبعاد القانونية للانتحار، ابتداء من تعريفه: "إن إزهاق الشخص روحه يعتبر انتحارا". ويورد المصري أن القانون الفلسطيني يعاقب على الشروع في الانتحار، حسب القانون رقم 74 لسنة 1936، المادة 225، ويعتبر ذلك جنحة، كما يعاقب كل من شجع الآخر ودفعه إلى الانتحار ويعتبر هذا جناية".

 يحاول ذوو المريض، والمراكز القانونية في غزة، طي إشكالية الشروع في الانتحار، دون تطبيق القانون الفلسطيني الأساسي والمشرّع


المحامي محمد المصري

وينتقد المصري التكتم على محاولات الانتحار: "بشكل متكرّر تتردد على مراكز الشرطة في غزة، حالات انتحار مختلفة، لكن يُتكتّم عليها، خاصة إن كان الأمر متعلقا بالمرأة، ويُتعامل مع مثل هذه الحالات، بمبدأ العاطفة، وعدم جر العائلة إلى دائرة الشائعات، بحكم العرف الاجتماعي النمطي السائد في قطاع غزة".

المحامي محمد المصري

ويفيدنا المصري أخيرا: "يحاول ذوو المريض، والمراكز القانونية في غزة، طي إشكالية الشروع في الانتحار، دون تطبيق القانون الفلسطيني الأساسي والمشرّع، فطيلة عملي في مجال المحاماة، لم ترد إليّ قضية شروع في الانتحار".

font change

مقالات ذات صلة