رحلتي مع النكبة وما بعدها

قصة خريف لا تنتهي فصوله

Reutres
Reutres
مدخل مخيم عين الحلوة‬ في مدينة صيدا جنوب لبنان

رحلتي مع النكبة وما بعدها

بيروت: في العتمة أتكئُ على أريكة ربما عمرها 60 سنة في صالون بيتي الفارغ من الأبناء. لقد هاجروا وأمهم لحقت بهم. اشتريت هذا البيت قبل عقود في الطبقة السادسة في بناية بمحلة أبي شاكر بالطريق الجديدة في بيروت. فيما أدخن سيجارتي أتحسس تجاعيد عنقي وأسمع خرير صدري. أقراني ومجايليّ مشيت في جنازتهم، وبعضهم قبل عقود. أحملق في العتمة، فتنهال في ذاكرتي صور الماضي.

الأم والمقاصد

أتذكر أمي تروي لي أنها كانت حبلى بي حين ارتكب الصهاينة مذبحة دير ياسين في فلسطين سنة 1948. بقروا بطون الحوامل، قالت، ووضعت يدها على بطنها رعبا، مردِّدة تلك الترنيمة: "صهيوني دبر حالك هجموا الثوار بقيادة فوزي القاوقجي أسد الأبطال". أخطأت أمي. كانت حاملا بأختي الكبرى آنذاك. كانت ربما تريدني، أنا الذّكر، نطفة فلسطين في رحمها. لكنني لم أرث عنها عوالم الخرافة: بـ"بسم الله الرحمن الرحيم" كانت تكني عن الشياطين والجن رهبة من ذكرهم. تقول: هني (هم) يا عمري بيهربو من صوت القرآن بيتخبوا (يختبئون) بالكبينة (المرحاض). وروت أن عمي خرج ليلا من البيت ورفس برميل النفايات، فصفعوه، ولا يزال حنكه يؤلمه حتى اليوم. أمي عقلها مختل - كنت أفكر - وأخرج بعيد عشاء ليلة ثم أرفس تنكة زبالتنا وسواها في الحي. لا عفريت هنا إلا أنا.

أبي كان مؤمنا يكره خرافات السحر والجن. أنا مثله قبل إتمامي العاشرة، عندما سقط العرفان وانقرض الرقص المولوي معه... وصارت فلسطين وحدها هي الروح والقضية.

قبل أن أصير سنة 1952 تلميذا في بيت الأطفال التابع لمدارس المقاصد الأسلامية في بيروت، زاره - لأهميته -مؤسس الحزب السوري القومي الزعيم أنطون سعادة في يونيو/حزيران 1948، فاستقبله المدير رشاد العريس ومعلمة الموسيقى أديبة قربان والمعلمة المحازبة القومية يسر حكيم، فكتبت على اللوح: يحيا أنطون سعادة وتحيا سوريا حرة مستقلة. وكتب سعادة في سجل بيت الأطفال: الأمة السورية تعتز ببيت الأطفال المقاصدي.

تظاهرة طلابية مؤيدة للثورة الفلسطينية في نهاية ستينيات القرن في بيروت، من أرشيف "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"

كان ذلك اختراقا قوميا سوريا للبيئة الإسلامية البيروتية قبل اغتيال محازبين منهم رئيسَ الحكومة والزعيم البيروتي رياض الصلح سنة 1951 وخروجهم من الشارع الإسلامي الذي كانت الفكرة القومية السورية فيه ملتبسة بمفهوم الوحدة مع سوريا، وبالوحدة العربية من المحيط إلى الخليج، حسب هتافاتنا.

صيف 1954 - وكنا انتقلنا إلى البناية التي شيدها والدي في محلة عائشة بكار البيروتية - مرت في الشارع عراضة (تظاهرة) مسرعة. كانوا يتراكضون. وكنت في مدخل البناية أمتطي المكنسة كأنها حصان وكأنني صلاح الدين الأيوبي في حكايات سمعتها من فتيان الحي ورجاله. قفزت عن حصاني إلى الشارع صارخا: "شوفي شوفي؟!". رد عليّ من الراكضين شاب يرتدي سترة. حتى الآن أتذكر وجهه، شكل التفاتته، بنطاله، حذاءه الأسود، جوربه الأبيض، نبرة صوته وهو يقول راكضا: "خوري مزّق القرآن". قفزت إلى التظاهرة التي كان الراكضون فيها يصرخون بأصحاب المتاجر: "سكر (أقفل محلك) يا قليل الدين". وانتهت العراضة بالقبض عليّ وإيداعي مع أطفال كثر في مخفر حبيش في رأس بيروت، ثم في مديرية الشرطة بساحة البرج، ليطلق سراحنا مساء. وكانت أمي وأبي يقفان مع قريبنا المفوض في شرطة بيروت مختار عيتاني.

الأرجح أن هدف التظاهرة كان إفشال مؤتمر الحوار الإسلامي - المسيحي الأول الذي عقد في أبريل/نيسان 1954 بفندق أمباسدور في بحمدون بجبل لبنان، في رعاية السفير الأميركي في بيروت ورئيس الجمهورية اللبنانية كميل شمعون ومشاركة وفود من الشرق الأوسط. وذلك لإنشاء تحالف أميركي يلتف على الشيوعية السوفياتية، وعرف لاحقا باسم حلف بغداد. وكان كميل شمعون لا يزال يُعرف بـ"فتى العروبة (الملكية) الأغر"، مذ تكلم باسم كل العرب عن فلسطين وقضيتها في جلسة افتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما كان وزيرا للداخلية اللبنانية سنة 1948.

في بيت الأطفال المقاصدي عرفت رفاقا كثيرين حتى طردت منه سنة 1959 بإصرار من الآنسة صيقلي معلمة اللغة الإنكليزية، لأنني قفزت عن سور المدرسة وشاركت جماهيرغاضبة أقدمت على قذف قنابل مولوتوف على المكتبة الأميركية وإحراقها. كانت المكتبة في حي العرب مقابل بيت الأطفال. وهي واحدة من كثيرات مثيلاتها في أحياء بيروت كانت تابعة لما سمي "برنامج المساعدات الأميركي لدعم الدول النامية في مواجهة الشيوعية". كانت تلك "العراضة" البيروتية بداية ما سمي ثورة 1958 العروبية الناصرية في بيروت ضد عهد كميل شمعون الرئاسي. نحن بعض أطفال بيت الأطفال المقاصدي كانت فلسطين في قلوبنا قبل ولادتنا. كنا أشقياء، وصرنا لاحقا شلل فتيان العروبة وفلسطين والناصرية في الأحياء البيروتية. كانت الآنسة صيقلي (وهي فلسطينية مسيحية نالت الجنسية اللبنانية) تفتخر بلغتها الإنكليزية التي تكلمنا بها مزهوة بنفسها وتستعرض حداثتها، فيما كانت تقودنا إلى المكتبة لنستعير منها كتيبات إنكليزية.

أذكر ممن كانوا في صفنا في بيت الأطفال المقاصدي: مها سلام حفيدة عنبرة سلام شقيقة صائب سلام. ابن القنصل السعودي في بيروت عبد العزيز الكحيمي. كم كان الكحيمي الابن مؤدبا جدا. وكنت بشقاوتي أتعمد وضع يدي على كتفه، فيرفضها لأنها تهرِّب الملائكة، فأضعها على كتفه اليسرى فيرفضها. فأقول له متنمِّرا: هذه تطرد السيئات، عليك أن تشكرني.

حين كان باص المدرسة يمر صباحا ليأخذني من أمام بيتنا كنت، مع مصطفى يموت وعاد لسماقية، نهيمن على المقعد الخلفي ونردد ترنيمتنا الصباحية: "صهيوني دبر حالك هجموا الثوار بقيادة فوزي القاوقجي أسد الأبطال". كان يشاركنا أيضا أحمد عبد ربه السوري الذي هرب والده إلى بيروت، ربما لأنه شارك في انقلاب عسكري في سوريا.

كنت كسولا في كل شيء إلا في الرسم واللعب. وكانت الآنسة وديعة حداد تعلمنا الرسم والرياضة، فأرسم صورة صلاح الدين الأيوبي على فرسه أمام قبة المسجد الأقصى. أحيانا كانت الآنسة وديعة تخرجنا إلى حرج بيروت القريب لنمارس الرياضة. وقفتُ مرة في الحرج أنظر محدقا في مرتفعات عرمون البعيدة، فسألتني: "على أيش بتطلع؟": (بماذا تحدق؟). قلت لها: إلى فلسطين هناك. صدمها جوابي. فأكملتُ: هناك يهود ولما أكبر سأحاربهم. ضمتني وقبلتني، وصارت تهتم بي. لم أكن أعلم أنها الشقيقة التوأم لوديع حداد، أحد مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة القوميين العرب قبلها.

في 1956 انقلب المشهد تماما: ها أنا اتابع "صوت العرب" وإذاعة لندن، وأخبار العدوان الثلاثي الذي صار محور اهتمامنا. صرت في التاسعة وحديثنا كله عن الهجوم الإسرائيلي - البريطاني - الفرنسي على مصر، وعن المعارك وإنزال المظليين البريطانيين في ممر متلا. أين يقع ممر متلا؟ حتى الآن لا أعرف. وكان على زميلنا عبد العزيز الكحيمي السعودي وابن القنصل أن يتحمل جهلنا وتنمّرنا. في تلك السنة رأيته للمرة الأخيرة. آه كم كنت شقيا. فليتقبل أسفي واعتذاري. لقد كنا أطفالا.

بعد انتصار مصر في حرب السويس صارت الرحلات إلى القاهرة نشاطا مقاصديا لتهنئة عبد الناصر. معارض صور الأطفال المقاصديين أقيمت مقابل السفارة الفرنسية في محلة كليمنصو البيروتية. لوحتي التي رسمتها بدقائق باللونين الأسود والأحمر كانت للمدمرة "جاندارك" وجول جمال (1932-1956) بطائرة الميغ ينقض عليها. كنت مولعا بالرسم فقط. لكنها موهبة أو هوى ماتا في عمري ذاك. وتطورت حالتنا نحن مجموعة "صهيوني دبر حالك...": اشترينا بندقية فلين، وعلى سطح بيتنا في بيروت رحنا نتدرب عليها للعودة إلى فلسطين.

اكتهلتُ واستمر ذاك الخريف حتى اشتعل الربيع في لبنان أولا عام 2005، بعد اغتيال رفيق الحريري، وفي تونس ثانيا بعدما أشعل محمد البوعزيزي النار في جسمه ثم اشتعلت في مصر وليبيا واليمن وسوريا



توجيهية فتيان مربع الغضب 

أمضيت فتوتي تلميذا في المرحلة المتوسطة والثانوية بين مطلع الستينات وسنة 1966 في واحدة من مدارس مربع الغضب البيروتية، الأهلية الخاصة: معهد بيروت العالي في المصيطبة، معهد بيروت العربي على تخوم زقاق البلاط، كلية برج أبو حيدر، معهد ابن رشد في رأس النبع. كانت هذه المدارس معقل ضجيج فتيان العروبة وفلسطين، إلى جانب فتوات الأحياء البيروتية وحركاتها الأهلية الجماهيرية الصاخبة وعراضاتها الدائمة في الشارع البيروتي الناصري. كانت جلساتنا تنعقد في مقهى شاتيلا على شاطئ بيروت. وهو ملتقى المجموعات الناصرية البيروتية: نستمع إلى خطبة كل جمعة في المساجد البيروتية. نقرأ كتيبات ومجلات ونناقش خطبة  "الشيخ" محمد حسنين هيكل المكتوبة في صحيفة "الأهرام". وعلى أبواب مدارسنا نتجمع كل صباح صاخبين محرضين زملاءنا التلاميذ. وحين يقرع جرس الدخول إلى المدارس نبتعد إلى حديقة الصنائع مع كتيب ودفتر. لم تكن أحاديثنا عن الدروس ولا عن الامتحانات، بل "نقاشات ونقاشات" عن"غدا نعود إلى فلسطين".

رسبت في امتحانات شهادة البكالوريا اللبنانية القسم الأول في دورتَي عام 1966 الأولى والثانية. كان الرسوب يجمع معظم فتيان العروبة وفلسطين في اللفيف البيروتي بمدارس مربع الغضب. بعد رسوبنا توجّهنا جميعا إلى القاهرة للحصول على شهادة التوجيهية المصرية. كانت مجموعتنا زهاء 20 شابا أقمنا في شقة واحدة في الجيزة. كان أحدنا متعهد تبديل دولاراتنا بالجنيه. وينسل اللفيف كله إلى مبنى الاتحاد الاشتراكي العربي قرب فندق هيلتون. 

صبيحة 5 يونيو/حزيران 1967 كنت في العشرين وبدأ خريف عمري. اكتهلتُ واستمر ذاك الخريف حتى اشتعل الربيع في لبنان أولا عام 2005، بعد اغتيال رفيق الحريري، وفي تونس ثانيا بعدما أشعل محمد البوعزيزي النار في جسمه أواخر العام 2010، ثم اشتعلت في مصر وليبيا واليمن وسوريا.

قبل أن يبدأ خريف عمري تعرَّفت في القاهرة إلى سيدة مصرية تسكن في المعادي، شارع 13، فيلا رقم... واسمها ناديا، وتكبرني بسبع سنين. رحت أخرج معها في سيارتها الأوبل سبور، موديل السنة نفسها، 1966، لوحتها جمرك بور سعيد.

عمارة شقتنا، شقة اللفيف البيروتي في الجيزة، كان يسميها المصريون غمزا "عمارة اللبن"، في دلالة إلينا نحن اللبنانيين، وإلى كثرة دخول الفتيات والخادمات إلى الشقة وخروجهن منها.

Getty Images
طلاب لبنانيون يتظاهرون في شوارع بيروت في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 1945 لمناهضة وعد بلفور.

صبيحة خريف عمري خرجتُ مسرعا من الشقة وركبت القطار من محطة باب اللوق إلى المعادي.كنت وحدي في القطار. شاهدت أعمدة دخان تتصاعد خلف السكة الحديد.كانت المنطقة صحراء كلها تقريبا حينذاك. لم أبصر إنسانا واحدا حين نزلت في المحطة ومشيت في اتجاه فيلا ناديا. سمعت بوق سيارتها الأوبل خلفي، التفتّ، فأشارت لي أن أصعد سريعا. رأيت قطعا من ثيابها على مقعد السيارة الخلفي. قالت تعال "أوريك" (أريك). اقتربت السيارة إلى خلف الفيلا، فرأيت مشهدا فظيعا: قطار حربي محمّل بالدبابات والجنود مدمرٌ تدميرا كاملا، ولا تزال النار تشتعل ببعض الجثث. قالت لي إن الطيران الإسرائيلي قصفه قبل ساعة، وإنها منذ الصباح تتصل هاتفيا بزوجها عامر (الرائد في جهاز أمن الدولة)لكن سدى. قالت إنها ستغادر إلى الإسكندرية لتمكث في فيلتها هناك، قبل أن ترحل إلى بريطانيا من طريق ليبيا. رجوتها أن توصلني إلى "بناية اللبن" في الجيزة.

لم أجد أحدا في الشقة. قال ناطور البناية إنهم حملوا حقائبهم وسافروا إلى الإسكندرية ليعودوا إلى لبنان. بين الغفوة والصحو في منتصف الليل سمعت المفتاح يدور في قفل الباب، وبانت أشباحهم حاملين حقائبهم. لما أضاء أحدهم مصباح المدخل، بان الغبار على هاماتهم وحقائبهم. كنا في القطار، وقُصف قطار عسكري أمامنا فعدنا، قال آخر. ليش ما نطرتوا (انتظرتم) تترجعوا (كي تعودوا) بالبر من طريق فلسطين؟!، بادرتهم بالقول تشفيا بهم، بعدما أمضيت اليومين السابقين في الجدال معهم. أنا أقول لهم: إذا مصر دخلت الحرب فستخسر، فيردّون: لا يا رجعي، يللي (الذي) يسمع إذاعة العدو. بكرا (غدا) نعود برا من طريق فلسطين.

صورة الهزيمة تجلت عصر ذاك النهار: طائرات الميراج الإسرائيلية وعليها نجمة داوود، تعبر على علو منخفض فوق مبنى التلفزيون في القاهرة. بأعيننا شاهدنا الطيّار الإسرائيلي داخل طائرته. بعد نصف ساعة من سباتهم أخذت من إحدى حقائبهم ألفي جنيه، فوضعتهما في جيبي، وتركت لهم ورقة: "الدفع في بيروت". غادرت الشقة إلى فندق رمسيس. في اليوم الثاني اتصلت بهم هاتفيا، كانوا يبكون. 

الفدائيون والحمراء بعد هزيمة 1967

في نهار من نهارات سبتمبر/أيلول 1967، وقفت في صف طويل بين طلاب يقدِّمون مستندات تسجيلهم في جامعة بيروت العربية في الطريق الجديدة. معظم رفاق اللفيف البيروتي والتوجيهية كانوا يتسجلون في كلية التجارة. أرهقني الوقوف في الصف الطويل. وحين رأيتُ صفا آخر قليل العدد، انتقلت إليه بعدما قيل لي إن الواقفين فيه يتسجلون لغة عربية في كلية الآداب. سألت الشاب الذي يقف أمامي في الصف الصغير عن اسمه. محمد كايد، أجاب. علمت من لهجته أنه فلسطيني، قبل أن يقول: أنا فدائي. بعد نصف ساعة كنت مع كايد في شقة بمحلة الفاكهاني، ومعه كثيرون من أمثالي. أخذ يُرينا بندقية قال إن اسمها "سيمينوف".

في بداية حروب لبنان الأهلية سنة 1975 بدأ اللفيف البيروتي يتفرّق في تنظيمات ناصرية. وأنا أتردد إلى مكتب "الأرض المحتلة"، حيث عرفت المصري محجوب عمر والفلسطيني الأردني منير شفيق. وأكثرتُ التنقل في مهمات بين تل الزعتر والفاكهاني ومخيم البصّ   قرب صور والعرقوب، أي "فتح لاند" بعد اتفاق القاهرة سنة 1969.

كان صيف العام 1967 قد حل على شارع الحمراء البيروتي منقلبا عمّا سبقه: اختفى منه الأجانب.لم نعد نرى كويتيا أو بحرينيا أو عراقيا. مايوهات البحر الحديثة لم تُعرض. تأخّر عرض الأحذية والصنادل الصيفية. اختفت الحركة في الشركات السياحية وشركات الطيران. ازداد عرض الصحف. شاع بين الناس حمل أجهزة راديو الترانزيستور، فيقرّبونها من آذانهم سائرين في الشارع وعيونهم تحدِّق في أناس افترشوا الأرصفة، ملفوفي الأيدي بضمّادات طبية وسخة جفّت عليها بقع دم.رؤوسهم مطأطئة. وصلوا إلى بيروت عبر نهر الأردن، عابرين بعشرات أو مئات الألوف جسر الملك عبدالله.

تبدَّل حديث المقاهي. قل عدد روّادها من النساء. صرتَ ترى حول الطاولات شبانا تميل وجوههم إلى السمرة وذقونهم غير حليقة. وانتشر كثيفا لباس الجينز والأحذية الرياضية. انفردت أكواب الشاي وفناجين القهوة على الطاولات مع علب تبغ من نوع"555" أو "روثمان". منافض السجائر ممتلئة والنادل لا يستبدلها، ولا يرفع الأكواب والفناجين الفارغة التي يتعمّد الزبائن إبقاءها أمامهم على الطاولات.بأصوات عالية يستغرق روّاد المقاهي في مجادلات لا تنتهي عن الهزيمة. ما عادوا يحدّقون في العابرين على الرصيف. تحوّلت ليالي الأعياد في الحمراء مناسبات للتظاهرات. تظاهرات تعترض على إلغاء معادلة شهادتي التوجيهية المصرية والموحدة السورية بالبكالوريا اللبنانية. تظاهرات أمام مسرح ويرمي ممثلون الجمهور بالأحذية. 

مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين، جنوب بيروت، في 14 أبريل/نيسان  2023

في هزيمة 1967 هزمت شرعية النظام العربي كله.حاول شارع الحمراء التماسك أو عزل نفسه ولو بقدر عن محيطه اللبناني والعربي. ولكن كان عليه أن يدفع الثمن ويكون من لون محيطه.ثمة من يتفلسف قائلا: "لن تعود فلسطين وهذه العمارات (أي عمارات الحمراء) موجودة".وثمة من أراد تعويض خسارته في الـ67 من لبنان.وثمة من وجد في لبنان نقطة انطلاق. 

ازدادت الحال سوءا بعد العام 1971: انفجارات في رأس بيروت. اغتيالات هنا وهناك. ثم خُطف هذا الصحافي أو ذاك.وثمة من أراد نقل "الحركة التصحيحية" الأسدية إلى لبنان. رضخت الدولة اللبنانية للأمر، وكثرت زيارات المسؤولين اللبنانيين لدمشق. وما إن دخَلت سنة 1975حتى بدأت عملية اقتلاع الحضور المسيحي من الحمراء. ذاك الحضور الذي أطلق الحمراء في نهاية الخمسينات.

في البعيد، خلف مشهدنا، كان ثمة أحد يبكي، وشعرت للحظة ببكائه. كان اسم الباكي لبنان الذي لم نتعلّم حتى الساعة كيف نحميه. 


تحرير رأس بيروت

في يوم من شهر أبريل/نيسان 1975 بعيد انطلاق الرصاصات الأولى لحروب لبنان الأهلية، جلتُ في سيارتي الفولكس فاغن، وإلى جانبي سالم عبدالنبي قنيبر الملحق الإعلامي في السفارة الليبية. في مقعد السيارة الخلفي جلس موظف من المخابرات. كانت حصيلة الجولة ما يأتي:في الحمراء، قرب سينما "إتوال" يقف أحد فتيان لفيف التوجيهية القديم على رأس نحو مئة عنصر من منظمة "المرابطون". قرب نزلة أبو طالب نهاية الحمراء يقف آخر من اللفيف عينه يقود مجموعة مسلحة في "الاتحاد الاشتراكي العربي". فرك يديه فرحا: حرّرنا رأس بيروت. في شارع سبيرس، قبيل "مطعم بربر" حاليا، يقف ثالث من اللفيف يتصدر "قوات ناصر" ومعه مجموعات مسلحة من النويري والبسطة وحي العرب والطريق الجديدة.وكان هناك أيضا "أبو العز" من"القيادة العامة" (سوريا) و"أبو سامح" من"جبهة التحرير العربية" (العراق).أحد رفاق اللفيف البيروتي قدم لي عرضا فوريا: أبو توفيق بدنا (نريد أن) تمثلنا في المجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية اللبنانية اللي (الذي) بدو (سوف) ينعمل (يتأسس) لنصرة فلسطين وفدائييها ومنظمة تحريرها. كلهم في المجلس شيوعيون. وحدك بتعرف ترد عليهم وتفحمهم". ابتسم جميع مَن في سيارتي، وابتسمت موافقا.

في البعيد، خلف مشهدنا، كان ثمة أحد يبكي، وشعرت للحظة ببكائه. كان اسم الباكي لبنان الذي لم نتعلّم حتى الساعة كيف نحميه. 

font change

مقالات ذات صلة