قصة أول شهيد لبناني فداء لفلسطين

فصل من وقائع انقسام أهلي مستتر

قصة أول شهيد لبناني فداء لفلسطين

بيروت: كان الفتى البيروتي اللبناني خليل عز الدين الجمل، المولود سنة 1951، في السابعة عشرة من عمره عام 1968، حين غادر "سرا" منزل أهله، تاركا لأخيه البكر ومثاله في حركة القوميين العرب، رسالة وداعية، والتحق بوحدات الفدائيين الفلسطينيين المرابطة في أغوار الأردن. وهناك لقي مصرعه في 17 أبريل/ نيسان 1968، أثناء مجابهة عسكرية بين الفدائيين والجيش الإسرائيلي.

بعد 11 يوما من مصرعه، أي نهار الأحد 28 أبريل/ نيسان، طُوِّب الفتى الجمل في لبنان "أول شهيد لبناني" في وحدات الفدائيين الفلسطينيين. وكان كرنفال تطويبه - في الصحف والإذاعات وبين اللبنانيين وفي الشارع العربي وصولا إلى كلمة جمال عبد الناصر - يعكس عاصفة الأمل والرجاء التي بعثتها عمليات الفدائيين في الوجدان العربي الجريح حتى الذهول بهزيمة 5 يونيو/ حزيران 1967 العربية الصاعقة والمدوية.

مديح الاستشهاد

صبيحة السبت 27 أبريل/ نيسان 1967 مهّدت الصحف اللبنانية في بيروت لكرنفال تطويب الشهيد. فدعت إليه وأعدّت له، بل ساهمت بقوة في صناعته الجماهيرية. لقد استبقت وصول جثمانه من الأردن إلى الحدود السورية - اللبنانية، حيث سيبدأ موكب تشييعه اللبناني نحو بيروت، مرورا ببلدات البقاع وجبل لبنان. مقالات وتعليقات كثيرة في مديح الاستشهاد وإكباره وتمجيد الفتى الشهيد والفدائيين وفلسطين وقضيتها "المقدسة"، تصدّرت صفحات الصحف البيروتية كلها تقريبا. ثم نشرت برنامج استقبال الجثمان ومسيرة تشييعه الطويلة (حوالى 50 كلم) وصولا إلى مقبرة الشهداء في شاتيلا ببيروت. ونشرت أيضا بيانات الهيئات والمنظمات الداعية إلى المشاركة في الموكب. وكان أبرزها قطبان:

- قطب لبناني مسيحي تمثله أحزاب "الحلف الثلاثي": الكتائب اللبنانية بزعامة الشيخ بيار الجميل (1905 - 1984). الوطنيون الأحرار بزعامة رئيس الجمهوية الأسبق كميل شمعون (1900 - 1987). الكتلة الوطنية بزعامة ريمون إدة (1913 - 2000) نجل رئيس الجمهورية الأسبق في عهد الانتداب الفرنسي. وأصدرت هذه الأحزاب، قبل 34 ساعة من الموكب، بيانات دعت فيها محازبيها وجمهورها إلى "استقبال جثمان الفدائي وحمله على الأكتاف لدى وصوله إلى كل قرية وبلدة يمر فيها، ونثر العطور على نعشه وقرع أجراس الكنائس تقديرا لبطولة الفتى الشهيد".

- قطب فلسطيني ولبناني مسلم، تصدّرته منظمة التحرير الفلسطينية ببيان دعت فيه "جميع الفلسطينيين في لبنان إلى المشاركة" في الموكب. أما عدد بيانات الهيئات والقوى الأهلية والشعبية في الشارع الإسلامي فكثير.

وفي ختام نقلها هذه البيانات كتبت صحيفة "النهار": "في حكم المؤكد سيكون المأتم مأتما قلما شهده لبنان في سنوات سابقة، نظرا لتنادي جميع الهيئات الشعبية - جميعها إطلاقا - إلى المشاركة فيه". وفي صدر الصحيفة مقالة لعميدها غسان تويني (1926- 2012) كتب في مستهلها: "من زمان لم يمتْ منا شهيد... شهيد حقيقي (...) يعود اليوم إلى لبنان وكأننا به يسألنا: كم واحدا منا قرأ الرسالة المكتوبة بدمه؟". وخاطب تويني الشهيد قائلا: "الوطن السليب لن يعود إلينا إلا بمثلك، بالطهارة الثورية، بالموت الموت ولا كلام".

من وجوه المأساة اللبنانية منذ نشوء دولة لبنان الحديثة سنة 1920: تستر اللبنانيين، بالخطب والبيانات عن الوحدة الوطنية، على شقاقهم الأهلي كلما نشأت ظروف سياسية إقليمية متوترة يختلفون في التعامل معها وينقسمون حولها

العرب يتظاهرون وإسرائيل تستعرض جيشها

في يوم اندفاع صحيفة "النهار" المحموم إلى المشاركة في التعبئة الجماهيرية الصاخبة لاستقبال الشهيد الجمل والسير في موكب تشييعه، كان خبرها الرئيسي عن اجتماع مجلس الأمن الدولي المرتقب، لينظر في شكوى أردنية ضد إسرائيل تطلب "منعها من تنظيم عرض عسكري في القدس، احتفالا بالذكرى العشرين لتأسيسها في 15 مايو/ أيار 1948". وكانت إسرائيل احتلت القدس قبل سنة تقريبا في حرب 5 يونيو/ حزيران 1967.

وتعليقا منها على ردود الفعل العربية على العرض العسكري الإسرائيلي المرتقب، كتبت "النهار": "العرب يتكاتفون في حملات الاستنكار وتسيير التظاهرات"، ويشتكون إلى مجلس الأمن الدولي، وإسرائيل تفعل ما تريد. وهذا ينطوي على نقد الصحيفة السلوك العربي. لكنها في الصفحة نفسها تسترسل في التعبئة الحماسية للاحتشاد والتظاهر الجماهيريين في موكب "الشهيد اللبناني الأول". وقد تبرر هذا التناقض جدة العمل الفدائي الفلسطيني أو الكفاح المسلح وهالات البطولة والتضحية التي اكتنفته في بداياته، باعتباره ردا شافيا من جرح هزيمة العرب الحزيرانية الفاغر والنازف.

لكن الأرجح أن الأمر ينطوي على شيء آخر أيضا، هو وجه من وجوه المأساة اللبنانية منذ نشوء دولة لبنان الحديثة سنة 1920: تستر اللبنانيين، بالخطب والبيانات عن الوحدة الوطنية، على شقاقهم الأهلي كلما نشأت ظروف سياسية إقليمية متوترة يختلفون في التعامل معها وينقسمون حولها. وحده معلق "النهار" اليومي الأول ميشال أبو جودة (1933- 1992) يتحفظ على ذلك. ففي 3 مايو/ أيار 1968- بعد 5 أيام على موكب "الوحدة الوطنية اللبنانية" في تشييع الشهيد الجمل، وقبل 12 يوما من احتفال إسرائيل بذكرى تأسيسها، كتب: "بعد 20 سنة المشهد (نفسه يتكرر): إسرائيل تعرف ماذا تريد، وتنفذ ما تريد. والعرب إما في وضع اللاجئين، وإما في وضع المتظاهرين". وهذا ما تجلى أيضا في مسيرات استنكار موقف أميركا في مجلس الأمن الدولي من عرض إسرائيل العسكري في القدس. فأثناء ذاك العرض سارت في بيروت تظاهرات شعاراتها: "العمل الفدائي طريق التحرير"، "طلاب لبنان يطالبون بالتجنيد الإجباري، لئلا تضيع بيروت قدسا ثانية. جندوا شباب لبنان".

كفاح مسلح وشقاق أهلي

بيّنت حوادث سبقت موكب الجمل وتلته أنه كان يتستر على انقسام اللبنانيين في موقفهم من العمل الفدائي الفلسطيني الذي التحق به الفتى المسلم وذهب إلى الأردن، فلقي مصرعه هناك، وعاد إلى لبنان شهيدا. فهبّ لتشييعه - حسب الصحف اللبنانية التي واكبت الحدث في 28 أبريل/ نيسان 1968- أكثر من مئة ألف نسمة ومئات السيارات من فئتين متباينتين:

- لبنانيون مسيحون خائفون من العمل الفدائي الفلسطيني وكفاحه المسلح ضد إسرائيل من لبنان. لكنهم على الأرجح كتموا خوفهم وتستروا عليه. وفي كمد متوتر شاركوا في موكب التشييع وقرعوا أجراس كنائس قراهم وبلداتهم التي مرّ فيها الموكب.

- لبنانيون مسلمون وفلسطينيون يعيشون جرحا عربيا تاريخيا راعفا، ومندفعون بحماسة في تأييدهم العمل الفدائي وإكباره للشفاء من ذاك الجرح.

ألا ينبئ هذا الوضع عن ما حدث بعد 7 سنوات في لبنان: انفجار الحرب الأهلية في 13 أبريل/ نيسان 1975؟

تلك "العاطفة" الملتبسة بخوف مكتوم، انفجر خوفها المتراكم من الفدائيين الفلسطينيين في واقعة شهيرة حصلت بعد أقل من سنة في نهار من العام 1969 وسمّيت "حادثة الكحالة"

ثأر وانتقام: الكحالة وحارة حريك

بعد وصول جثمان الجمل شهيدا إلى الحدود اللبنانية - السورية، سار موكب تشييعه الحاشد بأرتال السيارات تتقدمها سيارة عسكرية لقوات "العاصفة" الفلسطينية. لم يتوقف الموكب سوى في بلدة الكحالة المسيحية. فأهلها - حسب تغطية الصحف - "أبوا إلا أن يظهروا عاطفتهم، فتقدّم نفر منهم لرفع النعش على أكفهم، فمنعهم من ذلك رجال العاصفة الملثمين"، أي الفدائيون المرافقون.

تلك "العاطفة" الملتبسة بخوف مكتوم، انفجر خوفها المتراكم من الفدائيين الفلسطينيين في واقعة شهيرة حصلت بعد أقل من سنة في نهار من العام 1969 وسمّيت "حادثة الكحالة"، بعد مرور مواكب تشييع فدائيين فلسطينيين فيها، لكن في الاتجاه المعاكس لمرور موكب الشهيد اللبناني الأول. أي من لبنان إلى سوريا. ذاك أن فدائيين فلسطينيين أخذوا يلقون مصرعهم في مواجهات مع الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان. وكانت مواكبهم تنطلق من بيروت وتتجه إلى سوريا حيث يقيم أهلهم، لدفنهم هناك. وغالبا ما كانت مواكب التشييع تطلق الرصاص غضبا وحزنا، فينزعج أهالي الكحالة ويغتاضون ويخافون، ويبيتون غضبهم وربما حقدهم. فمرة قتل رصاص عشوائي أُطلق من موكب تشييع فدائي عابر امرأة من نساء بلدتهم. ولمّا عبر فيها بعد مدة موكب مماثلفي نهار من العام 1969، أطلق مسلحون من أهلها رصاص بنادقهم على موكب التشييع العابر، فسقط من المشييعين الفلسطينيين عدد من القتلى والجرحى.

وفي ليلة ذاك النهار هاجم مسلحون فلسطينيون من مخيم برج البراجنة بلدة حارة حريك المسيحية المجاورة لمخيمهم ثأرا لقتلاهم في الكحالة. أسفرت الحادثة عن سقوط 6 قتلى و18 جريحا في الحارة. وخلّف المهاجمون على بعض جدران منازلها شعارات منها: "50 شابا سقطوا منا في الكحالة برصاص العمالة والخيانة"، و"جريمة الكحالة لن تمر دون عقاب"، و"أنتم البادئون ونحن نثأر لشهدائنا".

ألا تعني هذه الحوادث أن توسّل موكب تشييع الشهيد خليل عز الدين الجمل لتدارك انقسام أهلي والتستر عليه وعلى أسبابه، يفضي إلى عكسه: مزيد من احتقان وانقسام وثارات أهلية؟

فموكب الجمل - الذي "اختلطت في تشييعه (حسب الأخبار الصحافية) أجراس الكنائس بأصوات المآذن وبدوي الرشقات النارية والهتافات والزغاريد ورش العطور ونثر الأرز من على شرفات المنازل في الكحالة والحازمية وفرن الشباك، وصولا إلى ساحة الدباس فشارع الأمير بشير، ثم إلى الجامع العمري الكبير في وسط بيروت" - لم يكن سوى فاتحة كرنفال القتل والثأر والموت المديد (1975- 1990) في لبنان.

موجة الفتيان المفقودين

قبل مواراة جثمان الجمل في مقبرة الشهداء ببيروت، أعلن مندوب حركة "فتح" الفلسطينية في كلمته التأبينية أن الحركة "فتحت باب التطوع في صفوفها للبنانيين. وذكرت صحيفة "الحياة" البيروتية أن النائب عبدالله الغطيمي أرسل كتابا إلى رئيس مجلس النواب طالبه فيه بإقامة تمثال للشهيد الجمل. ومما ورد في الكتاب: "أريحية الفداء ونشوة المتصوفين وطهارة الثوريين، هي وحدها كنه حياتنا وجوهر وجودنا".

وبعد 32 سنة على ذاك الكتاب، نشر "حزب الله" في شوارع بيروت ملصقا عليه صورتان لاثنين من مشايخه: راغب حرب (1952- 1984) وعباس الموسوي (1952-1992). وفي أسفل الملصق كُتبت عبارة: "سادة قافلة الوجود".

وفي الأيام التي تلت موكب تشييع شهيد لبنان الأول على طريق فلسطين والكفاح المسلح من أجلها، انهال في الصحف البيروتية سيل من المقالات والتعليقات التي تنقل مواقف "تعيد ترتيب الأوليات" بناء على ما حدث في ذاك الموكب الكبير.

نشرت مجلة "الجمهور" الأسبوعية البيروتية أن 4 فتيان من تلامذة مدرسة المقاصد الإسلامية في بيروت "فجّر" فيهم استشهاد الجمل "الحماسة"، فغادروا المدرسة إلى الناقورة جنوب لبنان للالتحاق بالفدائيين، فأعادهم الجيش اللبناني إلى مدرستهم. وراحت تتكرر في الصحف أخبار عن فتيان "مفقودين". وفي 8 مايو/ أيار 1968 كتب صحافي بيروتي في "اللواء": "منذ شيعت بيروت شهيدها خليل الجمل (...) يولد في كل بيت في لبنان بطل". والأبطال هؤلاء هم "المفقودون" الذين "تواجه عائلات لبنانية كثيرة مشكلة اختفائهم. ولا يلبث أرباب هذه العائلات أن يكتشفوا أن أبناءهم اختاروا درب الأبطال. لقد اختفوا لأنهم التحقوا بالعمل الفدائي".

أما "قائد الأمة" آنذاك، الرئيس المصري جمال عبد الناصر، فقال في خطاب له باللهجة المصرية في القاهرة: " إللي (من) عمره 17 سنة (والمقصود الشهيد خليل الجمل) وبيقاتل مع قوات العاصفة داخل إسرائيل بيثبت إنو إحنا ندّ لإسرائيل".

ونظم شعراء لبنانيون وعرب قصائد تشيد بالشهيد الجمل وتضحيته. منها قصيدة لشاعر فلسطيني يدعى عبد السلام النابلسي، لحنها الفنان رياض البندك (1924- 1992) وغنتها نجاح سلام (1931- ... ) في جامعة بيروت العربية في 27 مايو/ أيار 1968. ومن الأغنية: "هيا اقرعوا الأجراس في لبنان/ واحتشدوا/ هيا إلى المآذن/ وأثيروا في الأوطان هزّة/ هيا أشعلوا جذوة بني غسان/ وأعيدوا عهد بني قحطان/ وصِلوا الإنجيل بالقرآن".

font change

مقالات ذات صلة