النخب العربية والنكبة: بيروت نموذجا

انطلق معظمهم من الجامعة الأميركية

تظاهرة طلابية مؤيدة للثورة الفلسطينية في نهاية ستينيات القرن في بيروت، من أرشيف "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"

النخب العربية والنكبة: بيروت نموذجا

بيروت: أسس طلاب وطالبات في الجامعة الأميركية ببيروت "النادي الثقافي العربي" سنة 1944. وإذا كان مؤسسو ذاك النادي قد واكبوا معركة استقلال لبنان (1943) وبناء مؤسسات الدولة اللبنانية المستقلة، فهو باشر نشاطه الفعلي في إطار التيار العربي وحركته لمواجهة الاستحقاقات والتطلعات العربية العامة التي صاغتها فئات من النُخب والجامعيين ومتخرجي الجامعة الأميركية منذ عشرينات القرن الماضي. من اهتماماته أثناء نكبة فلسطين سنة 1948: إيجاد صالة دائمة لعرض لوحات الرسامين في بيروت. لذلك دعت إدارته الرسامين مصطفى فروخ (1901 - 1957) وعمر الأنسي (1901 - 1969) وصليبا الدويهي (1915 - 1994)، وقيصر الجميل (1898 - 1958) لمناقشة الفكرة وبلورتها.

عائلة من رام الله

النهضة والنكبة

هزّت نكبة فلسطين وجدانَ أعضاء النادي من أبناء النخبة العربية، لكنهم انشغلوا أيضا بإقامة المعرض الأول للوحات فنانين تشكيليين عالميين في لبنان بصالة النادي في رأس بيروت. عضوة النادي الرسامة سلوى روضة شقير (1916 - 2017) تعاونت لإنجاح المعرض مع أستاذ فرنسي في معهد الآثار يقيم في وسط بيروت. فنقلت من منزله لوحات لبيكاسو وميرو وكاندينسكي وبراك وعرضتها في صالة النادي، في خضم حملة نظمها أعضاؤه لجمع متطوّعين من بلدان عربية للدفاع عن فلسطين في إطار "جيش الإنقاذ"، فدخلوا فلسطين بدءا من يناير/كانون الثاني 1948 بهدف منع تأسيس دولة يهودية في فلسطين وتقسيمها.

تجمّع في مقر النادي طلاب وأطباء من الجامعة الأميركية ومستشفاها، وانطلقوا إلى جنوب لبنان وفلسطين. "حزب النداء القومي" الذي كان رامز شحادة عضوا فاعلا فيه والرئيس الأول للنادي، هو من أنشأ "مكتب فلسطين الدائم" في بيروت.

شارك في حملات التطوّع شبان من مناطق لبنانية التحقوا بفرقة عسكرية من الجيش اللبناني دخلت فلسطين وتولى قيادتها الضابط محمد زغيب (1914 - 1948) الذي استشهد في فلسطين، وكان يعاونه في مهمته معروف سعد (1910 - 1975) نائب مدينة صيدا الشعبي في البرلمان اللبناني لاحقا. أنشأ أعضاء النادي إذاعة موجهة إلى المناضلين في فلسطين، وحُمِلت تجهيزاتها على شاحنة قدمتها الحكومة اللبنانية، فراحت تبث بياناتها اليومية من محلة "رمل الظريف" في بيروت، حينما كانت لا تزال خالية من العمران. وعمل في تلك الإذاعة شفيق الأرناؤوط وعماد ومنح الصلح، والصحافي أنطوان نبتة.

عن المناخ الثقافي والسياسي الذي واكب الحركة العربية في بيروت منذ بداياتها، وصولا إلى نكبة فلسطين، روى منح الصلح (1927 - 2014) أن الصحف البيروتية - "ثمرات الفنون" لعبد القادر القباني (1848 - 1935)، و"الاتحاد العثماني" للشهيد الشيخ أحمد حسن طبارة (1871 - 1916)، و"المفيد" للشهيد عبد الغني العريسي (1891 - 1916)، و"نبراس" لمصطفى الغلايني (1885 - 1944)، و"الحقيقة" للشيخ أحمد عباس الأزهري (1853 - 1926) - كانت رائدة في تلك الحركة إلى جانب مثيلاتها في البلدان العربية. وكان الأزهري أسس مدرسة لعبت دورا مهما في النهضة العربية التعليمية والتحررية في بيروت إلى جانب مدرسة المقاصد الإسلامية. وسميت مدرسة الأزهري "مدرسة الشهداء" لأن كثرة من شهداء 6 مايو/أيار 1916 تخرجوا فيها، منهم أحمد طبارة وعبد الغني العريسي. وكان رئيس الحكومة والزعيم البيروتي رياض الصلح (1884 - 1951) والأديب البيروتي عمر فاخوري (1895 - 1946) والشاعر الشعبي عمر الزعني (1895 - 1961) من متخرجيها أيضا.

ولّدت نكبة فلسطين واحدا من أعمق ردود الفعل العربية على الشعور بالهزيمة منذ انهيار السلطنة العثمانية وسيطرة الانتدابين البريطاني والفرنسي على المشرق العربي



فلسطين وبدايات "العنف الثوري"

أما نكبة فلسطين الكارثية، حسب وصف منح الصلح، فولّدت في الجامعة الأميركية واحدا من أعمق ردود الفعل العربية على الشعور بالهزيمة منذ انهيار السلطنة العثمانية وسيطرة الانتدابين البريطاني والفرنسي على المشرق العربي. فطلبة هذه الجامعة كان معظمهم من البلدان العربية، لا سيما من فلسطين، إلى جانب اللبنانيين. واتخذت الفكرة العربية وحركتها بعدين جديدين أثناء النزاع على فلسطين قبل نكبتها:

صارت قضية الاستيطان الصهيوني - اليهودي في الأراضي الفلسطينية قطب الحركة العربية.

اكتسبت تلك الحركة أثناء النكبة وبعدها طابعها الثاني: "العنف الثوري" ردا على الهزيمة التي حملت الشبان العرب على وضع الواقع العربي كله تحت مشرحة التفكير والنقد. فصار الطلاب في الجامعة الأميركية يقولون: "هذا تفكير مصدره ما قبل النكبة، فهو مرفوض. وهذه مؤسسات ونشاطات ما قبل النكبة، فهي مدانة. وهذا أو ذاك أو ذلك من رجال ما قبل النكبة، فهم مستهلكون".

قسطنطين زريق

كانت تلك المراجعة حاضرة في "جمعية العروة الوثقى" التي انبثق منها النادي الثقافي العربي. وكانت الجزائر واليمن قريبتين وحاضرتين في تفكير الشباب العربي بالجامعة. لكن نكبة فلسطين صارت محور التفكير والنشاط. فنقلت الحركة الطالبية نشاطها وروحها إلى خارج جدران الجامعة الأميركية. أي إلى بيئة "حزب النداء القومي" والنادي الثقافي العربي الذي صار منتدى المثقفين العرب، أساتذة وطلابا. وكان من أبرز المحاضرين على منبره السوري قسطنطين زريق (1909 - 2000) ونبيه أمين فارس (1906 - 1968). وتحول النادي مقرا لقادة الحركة الطالبية وكتابة منشوراتها وبياناتها وشعاراتها ولافتاتها التي يرفعها المتظاهرون في شوارع بيروت.

 

جامعة النخبة العربية

في شهادته عن أيام شبابه طالبا في الجامعة الأميركية، روى منح الصلح أن الحياة الثقافية والسياسية ونشاطاتها في بيروت بين نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات كانت تتجلى في دائرتين نخبويتين: 

بيروت الأشرفية وامتدادا إلى الجميزة والتباريس وطريق الشام حيث جامعة القديس يوسف بتوجهاتها الكيانية اللبنانية. 

رأس بيروت ومحيط الجامعة الأميركية التي كانت تبث إشعاعا خاصا، ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، منذ تأسيسها سنة 1866.

وينهي الصلح شهادته هذه بالقول: "دور الجامعة الأميركية كان مختلفا عن الدور الذي اضطلعت به جامعة القديس يوسف (اليسوعية)، بل أشد تأثيرا في رأس بيروت وبيروت كلها والبلدان العربية، من تأثير اليسوعية في محيطها البيروتي واللبناني. فالفلسفة التي اعتمدتها الجامعة الأميركية، تربويا وأكاديميا، أوسع أفقا مما في نظيرتها اليسوعية المؤثرة في الوسط اللبناني وحده، بينما كانت الجامعة الأميركية تتوجه نحو بناء قيادات في لبنان والبلدان العربية. ومفهوم القيادات السائد في الأميركية لم يكن يقتصر على تخريج كبار الموظفين ورجال السياسة، بل يشمل أيضا قيادات المجتمع والاقتصاد والتربية، وسائر الحقول المهنية. والأميركية كانت جامعة عربية في بيروت أكثر مما هي لبنانية. ولم يكن اللبنانيون فيها أكثرية، بل العرب، ولم تلعب دورا قياديا في السياسة اللبنانية كاليسوعية التي خرّجت كل رؤساء الجمهورية اللبنانيين. ولم تنشأ في الأميركية قوى طالبية يقتصر نشاطها على الشؤون اللبنانية الداخلية وحدها، إلا في مطلع ستينات القرن العشرين، إذ كان طلابها الناشطون منخرطين في معظمهم في التيارات العربية القومية.

وفي أجواء الجامعة الأميركية عشية نكبة فلسطين وغداتها، برز كثرة من طلابها في عالم النضال العربي القومي، أمثال الفلسطيني جورج حبش (1926 - 2008) والسوري هاني الهندي (1927 - 2016) والكويتي أحمد الخطيب (1927 - 2022) الذين كانوا من مؤسسي "حركة القوميين العرب".

في أثناء النكبة وبعدها، تدفق عدد كبير من الفلسطينيين إلى لبنان، فانتسب كثيرون من أبنائهم إلى الجامعة الأميركية لمتابعة دراستهم، مستأنفين علاقة الطلاب الفلسطينيين السابقة بهذه الجامعة وبرأس بيروت. فأقرب الجامعات إلى فلسطين، وأهمها هي الأميركية التي تعتمد في برامجها التعليمية اللغة الإنكليزية السائدة في فلسطين لغة أولى في التعليم، بحكم الانتداب البريطاني عليها.

المدنيون الفلسطينيون بعد إلقائهم في البحر، ميناء يافا أواخر أبريل/ نيسان 1948

عائلات النزوح الفلسطيني

يروي السوري الأصل والأميركي الجنسية حليم بركات، دارس الفلسفة والاجتماعيات في الجامعة الأميركية مطلع الخمسينات (في سيرته "المدينة الملونة") أن النكبة الفلسطينية كانت مدخلا لتعميق وعيه "بالعلاقة الوثيقة بين القهر القومي والقهر الطبقي". ثم يعدّد العائلات الفلسطينية الكثيرة التي نزحت من فلسطين وأقامت في رأس بيروت وتعلم أبناؤها في الجامعة الأميركية، وأسست مكانة مرموقة، قبل هجرة متعلميها إلى خارج لبنان، وخصوصا إلى بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية. من هذه العائلات: الخالدي، طوقان، صنبر، شبل، حداد، كاتول، نويصر، صايغ، عزام، الدجاني، صيقلي، حشمة، أبو الجبين، السلطي، جدع، كنفاني، جرّار، فضلي، علمي، بولس، برامكي، حناينا... وسواها الكثير.

ينقل بركات صورة لرواد حركة القوميين العرب في مطلع الخمسينات في الجامعة الأميركية: "جورج حبش يسند يده إلى جذع شجرة قرب بوابة الطبيّة (مستشفى الجامعة)، وإلى جانبه أحمد الخطيب ووديع حداد مسترسلين في الحديث. وكان والد وديع، الياس حداد، أستاذا في الاستعدادية التابعة للجامعة. وكثيرا ما راقبت بإعجاب شديد ابنته وديعة وزوجها مروان جرّار (1931 - 2018)، يدربان الطلبة على الرقص الشعبي، قبل تأسيسهما "فرقة الأنوار" الراقصة في الستينات، برعاية سعيد فريحة صاحب صحيفة "الأنوار" العروبية والناصرية التوجه.

ومن الدمشقيين الذين عرفهم بركات في الجامعة الأميركية آنذاك، يذكر ثابت مهايني "المكافح الصلب في حركة القوميين العرب، والنجم الرياضي، قبل أن يصير مسؤولا في الغرفة التجارية العربية في مبنى التجارة العالمية في نيويورك. وفي السنة الأخيرة من دراسته الطب في الجامعة الأميركية، طُرد منها منصور أرملي، بتهمة ميوله الشيوعية. وكان قد دخل السجن في بيروت، وتأخر سنة في دراسته، ثم تخرج لاحقا طبيبا وهاجر إلى أميركا".

 شهد مطلع الخمسينات زخما طالبيا احتجاجيا واسعا في الجامعة محوره القضية الفلسطينية التي حركت مشاعر الطلاب العرب الكثيرين 


احتلال الجامعة

كانت حركة القوميين العرب تتصدر موجة الاحتجاجات والتظاهرات الطالبية العربية المناصرة لفلسطين في الجامعة الأميركية وبيروت. بعد تظاهرة حاشدة طُرد بعض طلاب الحركة من الجامعة في العام 1951، فصدر بيان احتجاجي وقّعه كل من أحمد الخطيب ووديع حداد وثابت مهايني وحامد الجبوري (1932 - 2017) وسعدون حمادي (1930 - 2007) وعاطف دانيال، الذين كانوا ناشطين في جمعية "العروة الوثقى" بإشراف قسطنطين زريق الذي وضع كتابه الشهير بعنوان: "معنى النكبة".

وشهد مطلع الخمسينات زخما طالبيا احتجاجيا واسعا في الجامعة محوره القضية الفلسطينية التي حركت مشاعر الطلاب العرب الكثيرين إلى جانب طلاب ومثقفين منتمين إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي. ويذكر حليم بركات منهم: عادل أميوني، أنيس الصايغ (1931 - 2009)، أسعد المقدم (1930 - 2008)، هشام أبو ظهر (1931 - 1973)، الياس مخلوف، ميشال معلولي راشد، أديب بشور، إيليا حريق (1934 - 2007)، صادق جلال العظم (1934 - 2016)، خليل حاوي (1919 - 1982).

كثرة من هؤلاء حملتهم النكبة الفلسطينية وأثرها في طبيعة التفكير والنشاطات النضالية وتوجهاتها، على التخلي عن العقيدة والحزبية السوريتين القوميتين، فاعتنقوا أفكار القومية العربية، شأن الشاعر خليل حاوي وأسعد المقدم وهشام أبو ظهر وسواهم.

وأدت النكبة إلى تحولات فكرية وسياسية، تجلّت بقوة في بيئة الجامعة الأميركية، طلابا وأساتذة من أصول متنوعة، فلسطينية وسورية ولبنانية وعراقية وأردنية وخليجية. الفكرة العربية التي جمعت بين هؤلاء كلهم، أكسبتها قضيةُ فلسطين بعدا قوميا جديدا في مناخ رأس بيروت المديني الكثيف الاختلاط والتنوع، الذي ولدت فيه حركة القوميين العرب.

قرية أبو غوش غربي القدس يؤدون قسم الولاء للجنة العربية العليا في أبريل/ نيسان 1936

في ربيع العام 1974، قبيل نشوب الحروب الأهلية في لبنان، رفعت الجامعة الأميركية أقساطها، فتظاهر الناشطون اليساريون والعروبيون احتجاجا واعتصموا داخلها. فضّت قوات الأمن اللبنانية الاعتصام، وحصلت أعمال شغب وتحطيم في مباني الجامعة التي طردت إدارتها عددا من طلابها. وردا من الحركة الطالبية على ذلك اقتحم الناشطون فيها مباني الجامعة واحتلوها.

شكلت تلك الحادثة منعطفا في تاريج الجامعة والحركة الطالبية اليسارية اللبنانية والفلسطينية التي تحولت في لبنان إلى شعارات "العنف الثوري" وممارسته. وكانت القضية الفلسطينية ومنظماتها المسلحة هي الناظم الأساسي للنشاط والتحركات الطالبية. ومعروف أن منظمات الحركة الطالبية تلك انخرطت بفاعلية في حرب السنتين الأهلية في لبنان (1975 - 1976).

font change

مقالات ذات صلة