لا يرى مارتن هايدغر الجسر مجرد أداة وظيفية تربط بين ضفتين موجودتين مسبقا، بل يعتبر أن الجسر هو ما يظهر الضفتين كضفتين، ليشكل الفضاء الذي يجعلهما تتقابلان وتدخلان في علاقة. عندما نقول إذن إن الترجمة جسر بين لغتين، فإننا نعني أنها ليست ما يصل بين لغتين موجودتين سلفا، بل هي ما يولد اللغتين بوصفهما فضاءين مختلفين، ويولد علاقة بينهما.
على هذا النحو، فإن الترجمة ليست فعلا ثانويا أو لاحقا، بل هي ما يمنح اللغات حدودها، ويظهرها كذوات مستقلة تدخل في حوار. في هذا المعنى، هي تسبق الفصل بين اللغات. إنها ليست مجرد "قنطرة"، بل الشرط الوجودي الذي يجعل من الممكن الحديث عن ضفتين، عن لغة وأخرى، عن ذات وآخر.
تمازج هجين
ليست الترجمة، في معناها العميق، انتقالا من ضفة إلى أخرى، بل هي إقامة على الجسر. إنها البين-بين، حيث لا تكون هي اللغة "ا" ولا اللغة "ب"، بل تكون تمازجا هجينا، أو قل لحظة يتعرى فيها المعنى من ثباته وينكشف في تعدديته، وقلقه، وانفتاحه. ذلك أنها لا تقرب فحسب، بل تزعزع أيضا، لا تنقل المعنى، بل تعيد تكوينه، لا تلغي المسافة، بل تسكنها.
هذا البين-بين هو ما أطلق عليه هومي بابا "الفضاء الثالث" (Third Space) ، حيث يعاد صوغ الهويات والخطابات بعيدا من الثنائية الصلبة للذات والآخر. في مقاله "مهمة المترجم"، يتحدث فالتر بنيامين عن "اللغة الخالصة" التي لا تنتمي الى أي لغة قومية، بل تنكشف عبر الترجمة بوصفها كشفا للنية.
ليست الترجمة مجرد وسيلة، بل هي اللغة حين تكشف عن طاقتها الأعمق، حين تغادر حدودها المألوفة لتدخل في علاقة، في انفتاح، في حوار لا ينتهي. الترجمة في هذا المعنى تصبح فعلا أنطولوجيا، لا وظيفيا فقط. إنها ليست حركة من لغة إلى أخرى، بل من ذات إلى ذات، من أفق ثقافي إلى آخر. إنها اللحظة التي تفقد فيها اللغة وهم الاكتفاء بذاتها، وتدرك أنها لا توجد إلا مع الآخر، ومن خلاله. الترجمة في هذا المعنى حركة تفكير مستمرة، حيث لا يوجد معنى مستقر، بل معان تتشكل، تتغير، ويعاد صوغها مع كل تجربة لغوية. كأن الإنسان، عبر اللغة، لا يعبر فقط، بل يعيد اختراع لغته في كل مرة يتكلم فيها. الترجمة ليست عبورا من معنى إلى معنى، بل هي اهتزاز المعنى نفسه، وانكشافه على تعدد ممكناته.