تقويم الأدب

تقويم الأدب

استمع إلى المقال دقيقة

ما يكتب اليوم من أدب عربي لا يحظى بتقويم حقيقي، أي بتقويم جاد وعميق ومسؤول. وهذا جزء من أزمة الأدب العربي المعاصر، بل من أزمة الثقافة العربية المعاصرة. فكيف يمكن لأدب أن يتقدم ويتطور دون أن يكون مقترنا أو مواكبا بحركة تقويمية فاعلة، من شأنها أن تقف على مظاهر تجدده إذا وجدت، وأن تشير إلى مظاهر قصوره إذا وجدت. ونحن اليوم نفتقر إلى مثل هذه الحركة. ونشهد بدلا منها وجود ظواهر في مجال التقويم الأدبي، منها ظاهرة تختص بالصحافة الأدبية، وظاهرة تختص بالجوائز الأدبية.

أولا: في ما يتعلق بالصحافة الأدبية، نستطيع القول إنها تتسع لكتابات نقدية ضحلة، هي في أغلبها مراجعات لكتب صادرة حديثا، في الشعر وفي الرواية. هذه الكتابات هي إجمالا سطحية ومتسرعة، ولا تخضع لاعتبارات فنية بقدر ما تخضع لاعتبارات مصلحية، تنبثق من العلاقات الشخصية بين كتاب يصعب علينا إدراجهم في نطاق النقد الأدبي. هذا النوع من الكتابات لا يساهم إلا في التهوين من شأن الأدب، وفي الحط من مستواه، لا بل في تشويه صورته أو تزويرها.

ثانيا: في ما يتعلق بالجوائز الأدبية، وهي باتت كثيرة في العالم العربي، نستطيع القول إنها في الغالب تستند إلى أنواع من التقويم لا تأخذ كليا بالمعايير الفنية، وإنما تغلب على هذه الأخيرة معايير كالشهرة أو العمر أو كمية المؤلفات المطبوعة... أو ما أشبه. ومثل ذلك لا يساهم في تحسين صورة الأدب، وإن كان من شأنه تشجيع الفائزين بالجوائز أو تكريمهم. فالجوائز في حد ذاتها ظاهرة إيجابية ومستحبة، ولكن ينبغي لمؤسساتها أن تحصن آليات التحكيم بالمعايير الفنية دون غيرها، وذلك لكي يكون لهذه المؤسسات فضل المساهمة في تحسين صورة الأدب، وفي تشجيع الجيد منه.

إضافة إلى هاتين الظاهرتين في مجال التقويم الأدبي، هناك الدراسات والأبحاث الجامعية، وهناك أيضا مؤلفات متفرقة تصدرها دور النشر لمؤلفين مختصين، يصنفون باحثين أو نقادا.

بالنسبة إلى الدراسات الأدبية في الجامعات العربية، يمكن القول بأسف شديد إن ما يقدم من رسائل وأطروحات، في مراحل الدراسات العليا، لا يرقى في غالبيته الساحقة، إلى المستوى المقبول. بل يمكن القول إن مستوى ما يقدم هو في تراجع مستمر، عاما بعد عام. ولهذا الأمر أسباب كثيرة لا يتسع المجال للخوض فيها، وهي أسباب مرتبطة بالأوضاع العامة المعقدة، التي تعيشها البلدان العربية، وتؤثر سلبا على الثقافة بعامة، وعلى مستويات الأدب واللغة بخاصة. ولهذا كله، يمكن القول إن الجهود الأكاديمية التي تبذل في الجامعات لا تساهم مساهمة ملحوظة في تقويم الأدب.

الجوائز في حد ذاتها ظاهرة إيجابية ومستحبة، ولكن ينبغي لمؤسساتها أن تحصن آليات التحكيم بالمعايير الفنية دون غيرها


أما بالنسبة إلى المؤلفات المتفرقة التي تصدرها دور النشر لباحثين أو نقاد، فيمكن القول إن النوعية الجيدة في هذه المؤلفات قليلة جدا، بل نادرة، إذا ما قيست بكمية الإصدارات.

بكلمة ثانية، إن ما ينطبق على منشورات الأدب ينطبق أيضا على منشورات النقد. فهنا وهناك الكميات كبيرة، والنوعيات الجيدة نادرة. وفي هذا ما يشير إلى ضعف الحركة النقدية، وإلى أن مساهمتها في تقويم الأدب هي دون المطلوب.

إذن، يمكننا القول إننا نفتقر افتقارا شديدا إلى تقويم الأدب الحديث والمعاصر، وبالأخص ما يكتب من أدب في أيامنا هذه. ما يعني أننا نفتقر إلى حوار  حول الأدب، أو في الأدب. وهنا الأمر يتعدى الكلام الشائع على عزلة الأدب وانقطاع الحوار بينه وبين الجمهور، يتعداه إلى الحديث عن حوار مقطوع داخل الساحة الأدبية نفسها، أي بين المعنيين بالأدب مباشرة. وعندما يكون الحوار بين الأدب ومن يسائله ويقومه غائبا على نحو يكاد يكون كليا، تكون آفاق التطور أمامه مقفلة، أو شبه مقفلة.                                  ولكن، ينبغي القول أيضا إن تقويم الأدب ليس منفصلا عن تقويم غيره، في مختلف مجالات الحياة والثقافة. فكيف لنا أن نتكلم على حركة نقدية للأدب إذا كان النقد غائبا في غيره من الحقول؟ وبالأخص في حقول الفكر. نطرح السؤال بصيغة ثانية: أيوجد لدينا نقد حقيقي إذا كنا نفتقر إلى فكر نقدي؟ والفكر النقدي لا يكون فاعلا ومثمرا إلا في مناخات من الحرية والمرونة والرحابة وتفهم الآخر. وهذا كله يتناقض مع أجواء التعصب، سياسيا كان أو دينيا أو أدبيا أو غير ذلك. وللأسف نحن عانينا ونعاني الكثير من هذه الأجواء. إذن، كيف لنا أن نتلمس حلولا لهذه المسائل المعقدة والمتشابكة؟ ربما لا يكون الحل إلا في اجتراح رؤى جديدة إلى حياتنا الاجتماعية برمتها، رؤى تنطلق من وعي بمشاكلنا الكثيرة، وتنظر إلى المستقبل نظرة تستبعد أشكال التعصب أولا، وتنحو بعد ذلك نحو المراجعة والتأمل في كل شيء. فكل شيء ينبغي أن يكون عرضة للنقد الذي ينطلق إلى بناء التصورات الجديدة.  

الفكر النقدي لا يكون فاعلا ومثمرا إلا في مناخات من الحرية والمرونة والرحابة وتفهم الآخر. وهذا كله يتناقض مع أجواء التعصب، سياسيا كان أو دينيا أو أدبيا أو غير ذلك


أخيرا، وعلى الرغم من الصورة القاتمة التي أتينا على تقديمها، يبقى لنا أن  نشير إلى وجود تجارب أدبية جيدة عندنا، وإن كانت قليلة، تشق طريقها وسط المصاعب الكثيرة. وعلى هذه التجارب تعقد الآمال في تجديد الأدب والثقافة، وفي استثارة النقد وغيره من أنواع الحوار.

font change

مقالات ذات صلة