نوبل الطب 2025... القصة الكاملة لاكتشاف غيّر طب المناعة إلى الأبد

كيف اكتشف العلماء "فرامل المناعة" التي تحفظ توازن أجسادنا؟

AFP
AFP
ثلاثي نوبل الفائز بجائزة 2025

نوبل الطب 2025... القصة الكاملة لاكتشاف غيّر طب المناعة إلى الأبد

منذ أن أطلق ألفريد نوبل وصيته في نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت جائزة نوبل مرادفا لأعلى مراتب التقدير العلمي والإنساني في العالم. ولدت الفكرة من إحساس عميق بالمسؤولية تجاه البشرية، إذ أراد مخترع الديناميت أن يكفر عن أثر اختراعه المدمر بجائزة تخلد من يسعون إلى خدمة الإنسان عبر العلم والسلام والأدب. ومنذ عام 1901، عندما منحت الجائزة للمرة الأولى، أصبحت نوبل رمزا عالميا للعبقرية والإبداع، ومقياسا للجهود التي تحدث فرقا حقيقيا في فهمنا للعالم وفي تحسين حياتنا اليومية.

في كل عام، تتجه الأنظار إلى ستوكهولم وأوسلو حيث تعلن أسماء الفائزين في مجالات الطب، والفيزياء، والكيمياء، والأدب، والسلام، والاقتصاد. لكن ما يميز جائزة نوبل في الطب أو علم وظائف الأعضاء، أنها تتجاوز حدود المختبر لتلامس حياة البشر مباشرة. فهي لا تكرم مجرد اكتشاف علمي جديد، بل تحتفي بما يحدثه هذا الاكتشاف من تحول في فهم طبيعة الجسد الإنساني أو في طرق علاجه من الأمراض التي لطالما استعصت على الأطباء.

وقد شهد تاريخ الجائزة سلسلة من اللحظات التي أعادت تشكيل الطب الحديث، من اكتشاف البنسلين والأنسولين، إلى تحديد بنية الحمض النووي، وصولا إلى الثورات المعاصرة في علم المناعة وعلاج السرطان. وبينما تتغير أدوات العلم ومناهجه، تبقى الجائزة وفية لروح نوبل الأصلية، ألا وهي مكافأة أولئك الذين حولوا المعرفة إلى أمل، والتجربة إلى علاج، والفكرة إلى حياة.

وفي عام 2025، أضافت لجنة نوبل فصلا جديدا في هذا التاريخ الممتد، حين منحت الجائزة في الطب لثلاثة علماء ساهموا في كشف أسرار "التسامح المناعي المحيطي" — الآلية التي تضمن بقاء جهاز المناعة في حالة توازن دقيق بين الدفاع عن الجسم ومنع تدمير أنسجته الذاتية. كان هذا الاكتشاف ثمرة عقود من البحث والتجريب، ويمثل تحولا جذريا في فهم الطب لأصل الأمراض المناعية الذاتية.

جاء الاكتشاف الذي استحق عليه كل من فريد رامزدل وشيمون ساكاجوتشي وماري برونكاو جائزة نوبل في الطب لعام 2025 تتويجا لعقود من البحث في أحد أكثر ألغاز جهاز المناعة تعقيدا: فكيف ينجح هذا النظام في الدفاع عن الجسم ضد الفيروسات والبكتيريا والخلايا السرطانية، دون أن ينقلب على نفسه ويدمر خلاياه؟ السؤال الذي بدا بسيطا في ظاهره، كان في الواقع مفتاحا لفهم الأمراض المناعية الذاتية التي تصيب ملايين البشر حول العالم، مثل السكري من النوع الأول، والتصلب المتعدد، والذئبة الحمراء، والتهاب المفاصل الروماتويدي.

بدايات مبكرة

البدايات الأولى لفهم التحمل المناعي تعود إلى عام 1945، حين لاحظ الباحث الأميركي راي أوين أن العجول التوائم التي تتشارك الدورة الدموية الجنينية لا تهاجم خلايا بعضها البعض بعد الولادة، مما أشار إلى إمكان تعلّم المناعة مبكرا ما يجب أن تهاجمه وما يجب أن تتسامح معه. ثم جاء العالم الأوسترالي فرانك ماكفارلين برنت ليتبنى هذا المفهوم ويطوره في نظريته عن "التحمل المكتسب"، التي أكدها لاحقا بيتر ميدور في تجاربه على زرع الجلد في الفئران، وهي الأعمال التي نالا عنها جائزة نوبل عام 1960.

بعض الخلايا التائية تمتلك قدرة فريدة على منع التفاعلات المناعية الذاتية

وكان لاكتشاف دور الغدة الصعترية، التي تعد مصنع الخلايا التائية، نقطة انطلاق حاسمة. فقد أوضح جاك ميلر في ستينات القرن الماضي أن إزالة الغدة الصعترية من الفئران الحديثة الولادة تؤدي إلى فشل مناعي حاد، مما أكد أن هذه الغدة مسؤولة عن تعليم الخلايا التائية التمييز بين الذات وغير الذات. وأثبتت التجارب اللاحقة أن الخلايا التائية التي تتفاعل بقوة مع بروتينات الجسم يتم التخلص منها في الغدة الصعترية، في ما يُعرف بآلية "التحمل المركزي".

لكن هذا النظام المركزي، رغم دقته، ليس كاملا، إذ تنجو بعض الخلايا ذات التفاعل الذاتي من عملية الحذف وتخرج إلى الدم، مما دفع العلماء إلى البحث عن آليات أخرى تُعرف بـ"التحمل المحيطي" تعمل على كبح نشاط تلك الخلايا خارج الغدة. وطُرحت أفكار كثيرة لتفسير هذه الظاهرة، من بينها مفهوم "الخلايا الكابتة" الذي ظهر في السبعينات، لكن غياب الأدلة الجزيئية الدقيقة جعله موضع شك لسنوات طويلة.

AFP
يظهر تمثال نصفي للكيميائي والمخترع ورجل الأعمال السويدي ألفريد نوبل، مؤسس جوائز نوبل

إلا أن هذا الشك تبدد في الثمانينات حين قدّم شيمون ساكاجوتشي، بعد دراسته الطب في جامعة كيوتو، سلسلة من التجارب أثبتت أن بعض الخلايا التائية تمتلك قدرة فريدة على منع التفاعلات المناعية الذاتية. وبيّنت أنه عندما أُزيلت الغدة الصعترية من الفئران بعد الولادة بفترة قصيرة، ظهرت أمراض مناعية ذاتية، لكن نقل خلايا معينة من فئران سليمة أوقف هذه الأمراض، مما كشف وجود آلية خلوية تضبط المناعة الذاتية.

وقد واصل ساكاجوتشي عمله لسنوات حتى تمكن عام 1995 من عزل فئة محددة من الخلايا التائية التنظيمية التي تحمل بروتين CD25، وهو الجزء ألفا من مستقبل إنترلوكين-2، وعندما أزيلت هذه الخلايا من الفئران ظهرت عليها أمراض مناعية متعددة، بينما أدى إعادة نقلها إلى منع المرض. وأعاد هذا الدليل التجريبي القاطع إحياء مفهوم "الخلايا الكابتة" على أسس علمية صلبة، وأسس لمجال جديد في علم المناعة سُمي "الخلايا التائية التنظيمية".

لم يكن هذا الاكتشاف نهاية القصة، إذ ظل السؤال مطروحا حول ما الذي يجعل هذه الخلايا مختلفة وراثيا عن غيرها. وجاءت الإجابة من خلال دراسة موازية في الولايات المتحدة أجرتها ماري برونكاو وفريد رامسديل، اللذان كانا يدرسان في معهد "سيلتك شيروساينس" سلالة غامضة من الفئران تُعرف باسم "سكيرفي"، كانت تصاب بمرض مناعي ذاتي قاتل. واستخدم العالِمان أساليب تحديد الجينات الدقيقة لتتبع الطفرة المسؤولة، إلى أن توصلا عام 2001 إلى اكتشاف الجين FOXP3، الذي تبين أنه المفتاح الجزيئي المسؤول عن تنظيم عمل الخلايا التائية التنظيمية.

وقد برهن الفريق تجريبيا على أن إدخال الجين السليم إلى فئران "سكيرفي" أنقذها من المرض، مما أثبت أن الخلل في FOXP3 هو السبب المباشر لاضطراب المناعة. ويعمل هذا الجين كعامل نسخ ينظم مجموعة كبيرة من الجينات المسؤولة عن تمايز الخلايا التنظيمية ووظائفها الكابحة.

وتعاظمت أهمية الاكتشافات حين اكتشف أن الطفرات في الجين نفسه تسبب في البشر مرضا نادرا يُعرف بمتلازمة IPEX، التي تصيب الأطفال الذكور وتؤدي إلى التهابات مدمرة في الأمعاء والغدد الصماء والجلد، وغالبا ما تكون قاتلة في غياب زراعة نخاع عظمي. وهذا الربط بين الجين والفئران المريضة والمرض البشري مثّل الحلقة المفقودة التي أثبتت أن FOXP3 هو الجين الرئيس الذي يمنح الخلايا التائية التنظيمية قدرتها على السيطرة على المناعة الذاتية.

تنشأ "الخلايا التائية التنظيمية" داخل الغدة الصعترية، لكنها تمارس وظائفها في الأنسجة الطرفية طوال حياة الفرد

وكان التعاون بين الأبحاث الحيوانية والسريرية حاسما في هذا الاكتشاف، حيث أثبتت التجارب أن غياب هذا الجين يؤدي في كل من الإنسان والفأر إلى انهيار شامل في التنظيم المناعي. واستكمل ساكاغوتشي الصورة ببرهان إضافي حين أوضح أن نقل FOXP3 إلى خلايا تائية عادية يجعلها تكتسب صفات الخلايا التنظيمية وتؤدي وظائفها المثبطة، مما أكد الدور المركزي للجين في تحديد هوية هذه الخلايا.

وأظهرت الأبحاث اللاحقة التي قادها رامسديل أن الفئران التي تفتقر إلى FOXP3 تصاب باضطرابات مناعية تشبه تماما ما لو أُزيلت منها الخلايا التنظيمية، مما يؤكد أن هذا الجين هو "القائد الوراثي" الذي يتحكم في التوازن المناعي. وأشارت إلى أن هذه الاكتشافات كوّنت الأساس لفهم كيف يحقق الجسم التوازن بين الدفاع عن النفس وعدم تدمير الذات.

وتنشأ "الخلايا التائية التنظيمية" داخل الغدة الصعترية، لكنها تمارس وظائفها في الأنسجة الطرفية طوال حياة الفرد، حيث تُراقب نشاط الجهاز المناعي وتمنع الخلايا الأخرى من تجاوز الحدود. وذكرت أن هذه الخلايا تفرز مواد كيميائية مثل IL-10 وTGF-β التي تهدئ الالتهاب، وتستهلك إنترلوكين-2 لتقليل نمو الخلايا التائية الأخرى، كما تستخدم إشارات تلامسية مباشرة لكبح النشاط المناعي المفرط.

وغياب هذه الخلايا يؤدي إلى اختلال خطير في التوازن المناعي ينتج منه أمراض مثل السكري من النوع الأول، والتهاب القولون المناعي، وأمراض الغدة الدرقية والمفاصل، بينما يؤدي نشاطها المفرط إلى السماح للخلايا السرطانية بالهروب من جهاز المناعة. وقالت إن هذا التناقض جعلها هدفا مزدوجا للأبحاث الطبية: إذ يسعى العلماء أحيانا إلى تقويتها لعلاج أمراض المناعة الذاتية، وأحيانا إلى كبحها لتعزيز مقاومة السرطان.

وقد مكن التعرف الى الجين FOXP3 العلماء من تطوير أدوات دقيقة لتتبع هذه الخلايا ودراستها على المستوى الجزيئي، وهو ما أدى إلى اكتشاف أنواع فرعية منها، بعضها يُنتج في الغدة الصعترية، وبعضها يتكوّن في الأنسجة المحيطية استجابةً لمثيرات معينة مثل الالتهاب أو الحمل. وأوضحت أن هذا التعدد في المصادر والوظائف يجعلها عنصرا حاسما في حماية الجسم من التفاعل المناعي الزائد في حالات العدوى المزمنة أو أثناء الحمل.

AFP
ثلاثي نوبل الفائز بجائزة 2025

وتركز الأبحاث الجارية على فهم كيفية تنظيم الجين FOXP3 نفسه، إذ أظهر فريق ساكاجوتشي وجود عناصر غير مشفّرة تتحكم في نشاط الجين واستقراره، كما كشف أخيرا عن مركبات بروتينية يمكن تعديلها لتحسين إنتاج الخلايا التنظيمية في المختبر تمهيدا لاستخدامها في العلاج. وقد تقود هذه الجهود إلى ما يُعرف بالعلاج المناعي التنظيمي، الذي يستهدف إعادة التوازن بدلا من قمع الجهاز المناعي كليا كما تفعل الأدوية التقليدية.

وزار الاهتمام بـ"الخلايا التائية التنظيمية" في السنوات الأخيرة نظرا لإمكاناتها العلاجية الواسعة، حيث تُجرى حاليا أكثر من 200 تجربة سريرية لاختبار أساليب الاستفادة منها في علاج أمراض مثل الربو، والتهاب الأمعاء، والأمراض الجلدية المزمنة، وكذلك لتحسين نتائج عمليات زرع الأعضاء. ومن بين هذه الأساليب توسيع الخلايا التنظيمية في المختبر باستخدام الإنترلوكين-2 ثم إعادتها إلى المريض، أو تعديلها وراثيا لتصبح أكثر تحديدا للمكان المصاب.

وتشهد فكرة "الخلايا التنظيمية المعدلة" تطورا سريعا بفضل تقنيات الهندسة الوراثية، إذ طُورت خلايا تُعرف بـ CAR-Treg يمكنها توجيه نشاطها نحو أنسجة معينة لتثبيط الالتهاب، مثل بطانة الأمعاء في أمراض القولون أو الجلد في الإكزيما. كما أن هناك أيضا نوع آخر يسمى TCR-Treg تُبرمج مستقبلاته لاستهداف مستضدات محددة كما في مرض السيلياك.

تمثل أعمال برونكاو ورامسديل وساكاجوتشي انتصارا للعلم القائم على الصبر والشك والتجريب

وتُختبر الآن طرق أخرى لتعزيز نمو هذه الخلايا داخل الجسم نفسه عبر إعطاء جرعات منخفضة من إنترلوكين-2 أو استخدام جزيئات محفزة لمستقبلاته مثل عقار "ريزبيغالديزليوكين"، الذي أظهر نتائج مشجعة في تجارب على مرضى التهاب الجلد التأتبي. كما أن الأبحاث في مجال السرطان تسعى إلى تطوير أدوية تستهدف الخلايا التنظيمية داخل الأورام تحديدا، حيث تبيّن أن مستقبل CCR8 يُعبَّر عنه بكثرة في تلك الخلايا، مما يجعله هدفا واعدا للأجسام المضادة العلاجية.

ولم يقتصر فهم هذه الخلايا على الأمراض بل امتد إلى التفاعلات المناعية الطبيعية، مثل تقبل الجنين أثناء الحمل والتعايش مع البكتيريا النافعة في الأمعاء، مما يبرز دورها كوسيط بين الحماية والتسامح، فالجهاز المناعي، بفضل هذه الخلايا، يستطيع أن يحافظ على التوازن الدقيق الذي يمنعنا من الانهيار في مواجهة العوامل الخارجية أو الانقسام الذاتي.

غيّر اكتشاف الخلايا التائية التنظيمية وجين FOXP3 نظرة الطب إلى أمراض المناعة، إذ وفر أساسا لفهم أن كثيرا من الأمراض المزمنة ليست ناتجة من ضعف المناعة بل من فشلها في ضبط نفسها، وهذا الإدراك فتح الطريق أمام مقاربات جديدة للعلاج تركز على إعادة برمجة التوازن بدلا من القمع أو التحفيز الأعمى للمناعة.

لذا؛ تمثل أعمال برونكاو ورامسديل وساكاجوتشي انتصارا للعلم القائم على الصبر والشك والتجريب، فقد قدم اكتشافهم للبشرية مفتاحا جديدا لفهم الحياة والموت المناعي، وأعاد تعريف العلاقة بين الجهاز المناعي والجسم الذي يخدمه، ولا تقتصر أهمية هذه الاكتشافات على علاج أمراض المناعة الذاتية فحسب، بل تمتد إلى أمراض السرطان والالتهاب المزمن وحتى الطب التجديدي، مما يجعلها من أهم الإنجازات العلمية في القرن الحادي والعشرين.

قصة برونكار

يختزل مسار العالمة الأميركية ماري برونكاو قصة علمية وإنسانية استثنائية، جمعت بين المصادفة والاجتهاد، وانتهت بها إلى منصة جائزة نوبل في الطب لعام 2025. ففي فجر أحد أيام أكتوبر/تشرين الاول، تلقت اتصالً من رقم سويدي ظنّت أنه رسالة تسويقية فأغلقت الهاتف، قبل أن تدرك لاحقا أن لجنة نوبل كانت على الطرف الآخر. وبرغم المفاجأة، فإن ما نالته لم يكن وليد اللحظة، بل ثمرة رحلة طويلة بدأت قبل أكثر من عقدين، عندما قادها بحث على فئران مريضة إلى اكتشاف جين سيغير فهم البشرية للمناعة الذاتية.

ولدت برونكاو عام 1961، ودرست الأحياء في جامعة واشنطن ثم نالت الدكتوراه في علم الأحياء الجزيئي من جامعة برنستون عام 1991، تحت إشراف العالمة شيرلي تيلغمان. ومنذ بداياتها، أظهرت اهتماما بعلم الوراثة الجزيئية وبكيفية ترجمة الجينات لوظائفها الحيوية داخل الكائنات. لكن مسيرتها انحرفت عن الطريق الأكاديمي التقليدي، إذ انضمت إلى القطاع الصناعي البحثي في سياتل، حيث عملت في شركات التكنولوجيا الحيوية ثم في معهد بيولوجيا الأنظمة، وانخرطت في أبحاث الجينوم والطب الوقائي والجينات المرتبطة بالمناعة.

AFP
ماري واهرين-هيرلينيوس (يمين)، أستاذة أمراض الروماتيزم في معهد كارولينسكا، تقف بجانب شاشة تعرض المجال العلمي للفائزين بالجائزة

وفي مطلع الألفية الجديدة، شاركت برونكاو في بحث نُشر عام 2001 في مجلة Nature Genetics، أسفر عن اكتشاف الجين FOXP3، الذي ثبت أنه المسؤول عن تنظيم نشاط الجهاز المناعي ومنع الخلايا التائية من مهاجمة أنسجة الجسم. جاء الاكتشاف أثناء دراسة حالة نادرة في فئران تُعرف باسم "سكيرفي"، تُصاب بخلل مناعي قاتل يؤدي إلى تكاثر غير منضبط للخلايا اللمفاوية. وبعد شهور من التحليل الجيني المضني، حدّد الفريق العلمي الجين المفقود المسؤول عن هذا الاضطراب، ليتبيّن لاحقا أن غياب FOXP3 يسبب انهيارا كاملا في نظام التوازن المناعي، وأن طفرة مشابهة له في الإنسان تؤدي إلى متلازمة IPEX القاتلة عند الأطفال.

بالرغم من أن برونكاو اتجهت لاحقا إلى إدارة البرامج العلمية ومشروعات الجينوم التعاونية، فإن إرثها العلمي ظل مرتبطا باكتشاف FOXP3 الذي غيّر أسس فهم المناعة البشرية

لم تقتصر مساهمة برونكاو على المناعة، إذ ساهمت في بحث آخر أظهر أن فقدان جين SOST يؤدي إلى مرض تصلب العظام واكتشفت بروتينا جديدا أطلقت عليه اسم Sclerostin يثبط نمو العظام. وأدى هذا المسار لاحقا إلى تطوير دواء روموسوزوماب لعلاج هشاشة العظام، مما جعلها تترك بصمتها في مجالين مختلفين من الطب الحيوي.

وبالرغم من أن برونكاو اتجهت لاحقا إلى إدارة البرامج العلمية ومشروعات الجينوم التعاونية، فإن إرثها العلمي ظل مرتبطا باكتشاف FOXP3 الذي غيّر أسس فهم المناعة البشرية. وعندما أعلنت لجنة نوبل فوزها إلى جانب العالمين شيمون ساكاغوتشي وفريد رامسديل، بدا الخبر بالنسبة إليها مفاجئا ومثيرا في آن واحد. قالت في حديثها الصباحي: "لم أستوعب الأمر بعد. لقد كان عملنا جماعيا مذهلا، وتغيّرت مسيرتي منذ ذلك الحين، لكني فخورة أنني كنت جزءا من حل لغز المناعة المتسامحة ولو بجزء صغير".

واستعادت بابتسامة ذكريات العمل في نهاية التسعينات قائلة: "العثور على الجين حينها كان مغامرة علمية كاملة، كان عملا يدويا شاقا، مقارنة بما يمكن إنجازه اليوم في أسابيع قليلة. لكن كل اكتشاف صغير في ذلك الزمن كان ثمينا"، وأضافت أن قوة علم الوراثة تكمن في قدرتها على كشف جوهر الحياة، مؤكدة أن تغيرا بسيطا في شفرة الحمض النووي يمكن أن يبدل مصير الكائن الحي بالكامل.

قصة ماري برونكاو ليست فقط حكاية عالمة نالت نوبل، بل قصة امرأة قادها فضولها العلمي وإصرارها على الفهم من مختبر صغير إلى اكتشاف أساسي في بيولوجيا الإنسان. ومن المفارقة أن البداية كانت فئرانا مريضة، لكن النهاية كانت تكريما عالميا لأحد أهم العقول التي ساعدت العالم في فهم كيف يحمي الجسد نفسه من نفسه.

خلل بسيط... كارثة كبيرة

أما فريد رامزدل فهو واحد من أبرز علماء المناعة في العصر الحديث، والعقل الذي كشف أن خللا بسيطا في جين واحد يمكن أن يقلب نظام الدفاع في الجسم رأسا على عقب. وُلد في الرابع من ديسمبر/كانون الاول 1960 بولاية إلينوي الأميركية، ودرس الأحياء في جامعة كاليفورنيا بسان دييغو، قبل أن يحصل على الدكتوراه في علم المناعة من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجليس عام 1987، حيث بدأت رؤيته تتشكل حول التوازن الدقيق بين مناعة الجسم وحمايته من التدمير الذاتي.

بعد تخرجه، التحق رامزدل بالمعاهد الوطنية للصحة في واشنطن، ثم انتقل إلى القطاع الصناعي الحيوي في سياتل، حيث شغل مناصب قيادية في شركات كبرى مثل داروين موليكيولار، وسيلتك، وزيموجينيتيكس، ونوفو نورديسك، قبل أن يتولى منصب الرئيس العلمي لمعهد باركر للعلاج المناعي للسرطان، أحد أهم المراكز البحثية في العالم في هذا المجال.

لكن اللحظة التي رسخت اسمه في التاريخ الطبي جاءت عندما درس حالة غريبة في فئران تُعرف باسم "سكيرفي"، كانت تعاني من اضطراب مناعي قاتل يجعل أجسامها تدمر نفسها. ومن خلال هذا النموذج، تمكن رامزدل مع فريقه من تحديد الجين FOXP3، الذي اتضح لاحقا أنه المفتاح الرئيس لتكوين الخلايا التائية التنظيمية (Tregs) المسؤولة عن كبح فرط الاستجابة المناعية والحفاظ على توازنها. أظهر اكتشافه أن طفرة واحدة في هذا الجين كافية لإطلاق سلسلة من التفاعلات المدمرة تجعل الجهاز المناعي يهاجم خلايا الجسم نفسه، وهو ما يفسر مرضا وراثيا نادرًا لدى الأطفال يُعرف بـ متلازمة IPEX.

يمكن لتغير صغير في تسلسل جيني أن يحوّل جهاز المناعة من درع واقية إلى سيف يرتد على صاحبه

كان لهذا الاكتشاف أثر ثوري، إذ مكن العلماء من فهم آلية التحكم المناعي الطرفي — أي قدرة الجهاز المناعي على التمييز بين الأجسام الغريبة وأنسجة الجسم الذاتية. وأصبح هذا الفهم أساسا لتطوير علاجات جديدة لأمراض المناعة الذاتية مثل التصلب المتعدد، والذئبة، والتهاب المفاصل الروماتويدي، والسكري المناعي، إضافة إلى تحسين فرص نجاح زراعة الأعضاء ومنع رفضها المناعي. كما استُخدمت نتائجه لاحقا في العلاج المناعي للسرطان عبر تعديل نشاط الخلايا التائية لتحقيق توازن دقيق بين الدفاع والتسامح.

أشادت جامعة كاليفورنيا بلوس أنجليس بإنجازه، مؤكدة أن أبحاثه مثّلت "نقطة تحول في فهم الذات المناعية"، إذ بيّنت كيف يمكن لتغير صغير في تسلسل جيني أن يحوّل جهاز المناعة من درع واقية إلى سيف يرتد على صاحبه. وقال نائب رئيس الجامعة إن ما فعله رامزدل يبرهن على أهمية الأبحاث الأساسية التي قد تبدو بعيدة عن التطبيق، لكنها تمهد لابتكارات تغير وجه الطب.

وخلال مسيرته الممتدة من المختبر إلى الصناعة، جمع رامزدل بين دقة الأكاديمي وابتكار رائد التكنولوجيا الحيوية، مؤمنا بأن "العلم لا يكتمل إلا عندما ينعكس على حياة الناس". وبينما كان كثير من العلماء يسعون إلى تنشيط المناعة لمحاربة السرطان، كان هو ينظر إلى الوجه الآخر للمناعة — كيف نحمي الجسم من نفسه؟ هذا السؤال البسيط كان مفتاحا لفهم عميق للتوازن المناعي الذي يحفظ الحياة.

بهدوء وثبات، أسس فريد رامزدل مدرسة جديدة في علم المناعة، تقوم على فكرة إعادة ضبط الجهاز المناعي بدلا من قمعه. ومن مختبرات الجينات إلى معاهد العلاج المناعي، ظل يحمل فلسفة واحدة: التقدم الحقيقي في الطب لا يولد من عبقرية فرد واحد، بل من تلاقي العقول حول هدف واحد — حماية الإنسان من ذاته.

العالم الصبور

أما شيمون ساكاجوتشي فيعد واحدا من أبرز علماء المناعة في العصر الحديث، والرجل الذي كشف كيف يستطيع الجسم أن يضبط قوته الدفاعية كي لا تتحول إلى سلاح ضد ذاته. وُلد عام 1951 في محافظة شيغا اليابانية، ودرس الطب في جامعة كيوتو حيث حصل على الدكتوراه عام 1982، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة باحثا في جامعتي جونز هوبكنز وستانفورد بين 1983 و1987، وهناك تعرّف عن قرب الى تقاليد البحث العلمي الغربي القائم على التعاون الطويل والصرامة التجريبية.

منذ بداياته، كان ساكاجوتشي مأخوذا بسؤال حيّر علماء المناعة لأكثر من قرن: كيف يعرف الجهاز المناعي متى يتوقف عن القتال؟ فكرته كانت جريئة في زمنها، إذ افترض وجود خلايا تائية لا تهاجم، بل تنظّم وتكبح جماح الخلايا الأخرى. وعلى مدى عقدين، واصل العمل رغم الشكوك. وفي منتصف التسعينات، لاحظ أن إزالة مجموعة صغيرة من الخلايا التائية في الفئران تؤدي إلى أمراض مناعية مدمرة، فكانت تلك الملاحظة المفتاح. وفي عام 1995، نشر بحثه التاريخي الذي حدد فيه لأول مرة فئة جديدة من الخلايا سماها الخلايا التائية التنظيمية (Tregs)، التي تعمل كـ"فرامل المناعة" وتحافظ على التوازن داخل الجسم.

عاد ساكاجوتشي إلى اليابان عام 1991 ليقود مسيرة أكاديمية متميزة، شغل خلالها مناصب رفيعة في معهد طوكيو لأبحاث الشيخوخة، ثم جامعة كيوتو، وأخيرا جامعة أوساكا التي أصبحت مركز أبحاثه الرئيس.

لاحقا، التقت أبحاثه مع أعمال فريد رامسديل وماري برونكاو في تحديد الجين FOXP3 المسؤول عن تكوين هذه الخلايا ووظيفتها، لتكتمل بذلك الصورة: الجين FOXP3 هو مفتاح التسامح المناعي، والخلايا التنظيمية هي أداته الفيزيولوجية. هذا الفهم غيّر الطب الحديث جذريا، إذ أتاح تفسير أمراض مثل الذئبة الحمراء، والتصلب المتعدد، والتهاب المفاصل الروماتويدي، والسكري المناعي، ومهّد الطريق لعلاجات تستخدم الخلايا التنظيمية للتحكم في الرفض المناعي لزراعة الأعضاء أو تعزيز المناعة في السرطان.

ورغم المسار الطويل المليء بالشكوك، ظل ساكاجوتشي مؤمنا بفكرته، يقول في أحد حواراته بعد إعلان فوزه بنوبل: "كنت أعود دائما إلى الملاحظة الأولى — أن الخلايا التائية يمكنها أن تكبح المرض. مهما تغيّرت النظريات، بقيت هذه الحقيقة ثابتة"، وأضاف: "إذا كان اكتشافنا سيساعد الأطباء في استخدام هذه الخلايا لعلاج أمراض المناعة والسرطان، فسيكون ذلك أعظم تكريم لنا".

عاد ساكاجوتشي إلى اليابان عام 1991 ليقود مسيرة أكاديمية متميزة، شغل خلالها مناصب رفيعة في معهد طوكيو لأبحاث الشيخوخة، ثم جامعة كيوتو، وأخيرًا جامعة أوساكا التي أصبحت مركز أبحاثه الرئيس. وحصل خلال مسيرته على عشرات الجوائز الكبرى، من جائزة كيو للعلوم إلى جائزة كرافورد ووسام الثقافة الياباني، وصولا إلى تتويجه الأرفع بجائزة نوبل في الطب لعام 2025.

ورغم كل هذا المجد العلمي، بقي ساكاجوتشي معروفا بتواضعه وصبره، إذ وصفه زملاؤه بأنه "العالِم الذي يعمل في صمت، مؤمن بأن المعرفة تحتاج إلى وقت لا إلى ضوضاء". وعندما سئل عن فوزه، قال ضاحكا: "كل عام كانوا يخبرونني أنني سأفوز، وكنت أجيب أن الجائزة الحقيقية ستكون عندما تصبح أبحاثنا علاجا حقيقيا في المستشفيات... واليوم أعتقد أننا اقتربنا من ذلك".

لقد جعل شيمون ساكاجوتشي من الصبر العلمي طريقا لاكتشاف الحقيقة، ومن إصراره الطويل درسا في أن الثبات قد يفتح أبواب أعقد أسرار الحياة. أما اليابانيون، فاحتفوا به بوصفه "العالِم الذي روّض جهاز المناعة"، بعدما حوّل لغزا بيولوجيا غامضا إلى علم جديد يغيّر حياة الملايين.

font change

مقالات ذات صلة