خالد العناني... مدير عام "اليونسكو" الذي عشق "علم المصريات"

ثاني أفريقي يصل لهذا المنصب الرفيع

أكسل رانجيل جارسيا
أكسل رانجيل جارسيا

خالد العناني... مدير عام "اليونسكو" الذي عشق "علم المصريات"

يُعدّ المصري خالد العناني أول عربي يتولى قيادة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، المعروفة اختصارا بـ"اليونسكو"، منذ تأسيسها عام 1945 في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كما أنه ثاني أفريقي يصل إلى هذا المنصب الرفيع. فاز عالم المصريات ووزير السياحة المصري السابق البالغ من العمر 54 عاما، بالمنصب الرفيع بعد حصوله على 55 صوتا من أصل 57.

وُلدَ العناني في الرابع عشر من مارس/آذار 1971 في ظل أهرامات الجيزة، حيث نشأ في عالمٍ تتصادم فيه الأسطورة، مع الحداثة كل يوم. جسّد والده، الذي كان موظفا حكوميا بسيطا، بطولةَ الطبقة الوسطى في مصر وتفانيها، ولم يتردد في العمل بوظيفة إضافية، ليُمكن ابنه خالد من الحصول على التعليم الفرنسي الذي كان يطمح إليه. لقد روى لي ذات مرة، أن والده كان يصطحبه إلى مواقع أثرية، في مختلف أنحاء مصر حين كان صبيا. في الصباح، كانت العائلة تتنزه عند أقدام أبو الهول، حيث كان خالد في الثامنة من عمره، يرسم لأول مرة بعصاه الهيروغليفية على التراب.

تخرّج من مدرسة ثانوية فرنسية في القاهرة عام 1988، وكان توجهه العلمي في البكالوريا مصدر سعادة لوالده، الذي حلم له بأن يكون مهندسا، يساهم في تشكيل المستقبل الصناعي لمصر.

اختيار المسار الخاص

غير أن العناني كان يخبئ لمستقبله خططا أخرى؛ فالأهرامات في نظره لم تكن مجرد آثار صامتة، بل هياكل تنبض بالحياة، تتطلّب مَنْ يترجم أنين حجارتها وأسرارها. متحديا توقعات والده، انتقل العناني إلى كلية السياحة والفنادق بـ"جامعة حلوان"، ليتخرج عام 1992 متخصصا في "علم المصريات". لم يكن مستعدا لخوض غمار العمل في المصانع أو المنشآت الصناعية. وفي أوائل العشرينات من عمره، شرع العناني في عمله كمرشد سياحي، يتنقل بحُنكةٍ بين حشود الزائرين، في معابد الأقصر، والكرنك في صعيد مصر، بحضور طاغٍ وكاريزما فطرية، كراوي قصص وُلد ليمارس هذه المهنة.

في الثانية والعشرين من عمره، كنت تراه يحكي للسياح الأوروبيين حكايات توت عنخ آمون وسائر الفراعنة، بلغة فرنسية لا تشوبها شائبة، وحماس آسر. لم تكن تلك الحكايات مجرد كلمات سلسة وحسب، بل كانت ارتجالات حية نابعة من رحلات طفولته، حيث التقت فيها الدقة الهندسية لوالده، مع النعمة اللغوية لوالدته مدرسة اللغة الفرنسية في انسجام فريد.

في مقابلة صحافية عام 2024، قال العناني إن أوروبا علّمته المنهج، لكن مصر علّمته الروح

وموّلَ من عائدات عمله كمرشد سياحي دراسة الماجستير في جامعة "حلوان" الحكومية، التي نال شهادتها عام 1995. لكنّ طموح العناني لم يتوقف عند هذا الحد، فقد كان يشعر بأنّ في جعبته المزيد. أومأت إليه فرنسا باعتبارها موطن شامبليون، والذي فكَّ شفرة حجر رشيد عام 1822 والتحق بالفعل بجامعة "بول فاليري مونبلييه".

كانت "مونبلييه" بمثابة اكتشافٍ حقيقيٍّ له. فوسط كروم لانغدوك وآثارها الرومانية في جنوب فرنسا، انغمس العَناني في علم المصريات، حيث نال دبلوم الدراسات العليا عام 1998، ثم درجة الدكتوراه عام 2001. وقد أثمرت تلك الأعوام عن تحالفات عديدة: التعاون مع "المعهد الفرنسي للآثار الشرقية"، وإلقاء المحاضرات بصفته أستاذاً زائرا، والحصول على العضوية الفخرية في "الجمعية الفرنسية لعلم المصريات". كرّمته فرنسا بوسام الفنون والآداب عام 2015، بلقب فارس، تقديرا لدوره في بناء جسر ثقافي بين نهر النيل ونهر السين. ومع ذلك، ظلّ قلب العَناني متجها نحو الشرق، ففي مقابلةٍ عام 2024، قال إن أوروبا علّمته المنهج، لكن مصر علّمته الروح.

اتّباع روحه

عاد إلى وطنه عام 2002 باحثا مشاركا، وتدرّج في المناصب بـ"جامعة حلوان" حتى أصبح رئيسا لـ"قسم الإرشاد السياحي" عام 2011، ثم وكيلا لـ"كلية السياحة والضيافة" عام 2012، قبل أن يتولى إدارة "مركز التعليم المفتوح" لاحقا.

أ.ف.ب
خالد العناني، وزير السياحة والآثار الأسبق في مصر في باريس، 1 أكتوبر 2025

على مدى أكثر من ثلاثين عاما، درّس اللغة والحضارة المصريتين القديمتين، وأشرف على رسائل علمية ما زالت أصداؤها تتردّد في قاعات المحاضرات بالقاهرة، وفي جامعات مصرية أخرى، وربما في جامعات ومدنٍ إقليمية خارجها.

ارتبطت حياة العَناني الأكاديمية بنشاط فكري هادف؛ فقد راسل "المعهد الأثري الألماني" في برلين، وشارك في تأليف أوراقٍ بحثية تناولت الإدارة المستدامة للتراث، وهي أفكار شكّلت لاحقا الأساس لإصلاحاته الوزارية.

وفي عام 2014، حين كانت مصر لا تزال تعاني تبعات الاحتجاجات الشعبية، تراجعت السياحة على نحو حاد، وتعرّضت بعض المواقع الأثرية والمتاحف للنهب وسط حالةٍ من الفوضى. عندها عُيِّن العَناني مديرا عاما لـ"المتحف القومي للحضارة المصرية"، الواقع جنوب القاهرة، على بعد بضعة كيلومترات من قلعة صلاح الدين الأيوبي.

شارك في تأليف أوراقٍ بحثية تناولت الإدارة المستدامة للتراث

شكّل ذلك بالنسبة له محكًّا حقيقيّا. فقد كان "المتحف القومي للحضارة المصرية"، الذي وُضعت خططه منذ عام 2002، رهانا بقيمة مليار دولار على النهضة الثقافية، ويضم 50,000 قطعة أثرية داخل مجمّعٍ معماريّ برّاق.

تحت قيادة العَناني، لم يكتفِ المتحف بالافتتاح العادي، بل انبثق إلى الحياة في فبراير/شباط 2021 بحيويةٍ آسرة، وقد شهد المعرض الافتتاحي موكبا مهيبا للمومياوات الملكية، تخلله استعراض 22 فرعونا- من سقنن رع تاو إلى رمسيس الثاني- وهم يعبرون شوارع القاهرة على عربات مذهبة، في مشهدٍ ارتقى ليكون موكبا جنائزيا فرعونيا، يُحتفى بذكراه لأول مرة منذ آلاف السنين.

ومن بين سياساته الشهيرة، تخفيض أسعار دخول المتاحف المصرية بشكل كبير، إذ يرى أن هذه الكنوز ملك لكل طفل مصري، وليست محصورة في يد السائحين، وأصحاب الثروات فحسب.

في 23 مارس 2016، أدى العَناني اليمين الدستورية وزيرا للآثار، غير أن الوقت لم يكن مناسبا للمنصب الذي أسند إليه. كان العناني مصمّما على تغيير الأوضاع في قطاع الآثار في بلاده، لكن ذلك لم يكن سهلا على الإطلاق في ظل جفاف خزائن الآثار المصرية بعد ثورة 2011 ضد الرئيس حسني مبارك، الذي حكم البلاد لفترة طويلة، والفوضى الأمنية التي تلتها.

أ.ف.ب
خالد العناني في المؤتمر الثاني لمتحف توت عنخ آمون الكبير المصري، في 8 مايو 2016

ورغم كل الصعوبات، نجح في تأمين 300 مليون دولار لـ"المتحف المصري الكبير"، وهو مجمع ضخم أُقيم بالقرب من أهرامات الجيزة. وكان هذا أيضا وقتا مناسبا لإجراء عمليات تجديد كبرى، شملت– من بين الكثير من المشاريع الأخرى– قصر البارون إمبان في شرق القاهرة، والمتحف اليوناني الروماني في الإسكندرية، وكنيس إلياهو هنافي بالإسكندرية أيضا.

وبحلول عام 2020، عزّز العَناني حماية المواقع، وأطلق جولات افتراضية لأبو الهول، جذبت 10 ملايين مشاهدة عبر الإنترنت، خلال فترات الإغلاق بسبب "كوفيد". وخرج من الوزارة عام 2022. رشّحته مصر في 5 أبريل/نيسان 2023 لتولي منصب المدير العام لليونسكو، وأطلق حملته "اليونسكو للشعب" في "المتحف الوطني للحضارة المصرية" في يناير/كانون الثاني 2025، حيث اجتذبت أكثر من 100 شخصية دبلوماسية أجنبية.

وحاليا، بعد أن تولّى العَناني منصب رئاسة اليونسكو، يعتقد أن اليونسكو يجب أن تكون ميدانية التوجه، سريعة الاستجابة للأزمات، وتضع محور "الناس أولا" نصب أعينها.

على المستوى الشخصي، يظل العناني الصبي القادم من الجيزة متواضعا، يروي للمتدربين ذكريات طفولته، ولا يلين في المفاوضات، ومع ذلك يتوقف أحيانا لتناول الشاي بالنعناع. ولا نعرف الكثير عن حياته الشخصية، إذ يحرس تفاصيل حياته الشخصية كما لو كانت كنزا فرعونيا، لكنه يذكر فضل زوجته وأولاده فيما وصل إليه اليوم. وقال في مقابلة صحافية في مايو/أيار من هذا العام: "النجاح مشترك".

font change

مقالات ذات صلة